فضل الرباط وآدابه
بقلم: الأستاذ العربي سعد الله
تمهيد
يقول الحق سبحانه وتعالى:﴿ اقترب للنا س حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم﴾ .
الغالب على دنيا الناس اليوم، الإعراض والغفلة عن الله عز وجل، وانحراف ونكوص عن أمره ونهيه. لو يعلم المرء أن أعدى أعدائه نفسه التي بين جنبيه ما كان ليركن إليها ويستكين، وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، فرارة من الخير، لذا أمر بتزكيتها وقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها ومنعها عن شهواتها، وفطامها عن لذاتها، فإن هو أهملها، وترك لها الحبل على الغارب جمحت وشردت، فطغت ثم أهلكت. لذلك أرشدنا المولى عز وجل لتمثل الآية الكريمة:﴿ قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها﴾
.
"السلوك إلى الله عز وجل والسير إليه عمل منصوص في الكتاب والسنة، كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الناس به كان معنى القصد إلى قرب الله عز وجل بالتعبد ومعنى طلب الحظوة عنده والزلفى لديه بالأعمال الصالحة علما مستقرا عندهم" [1].
لذا وجب أن يبحث المؤمن الصادق الذي يرجو لقاء ربه وفضله، ما به يقوم اعوجاج هذه النفس، ويربطها بمكان الذكر والعبادة حتى تقتحم، وتسلس القياد لبارئها، وبذلك يزيل عنها الحجب المانعة من التواصي بالحق والتواصي بالصبر، لتستقر بمقعد الصدق ويقال لها وقتئذ:﴿ يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي﴾ .
الرباط لغة واصطلاحا
يقول أهل اللغة[2]ربط الفرس: شده بالمكان للحفظ، ومنه رباط الجيش وسمي المكان الذي يخص بإقامة حفظة فيه رباطا. والرباط مصدر ربطت ورابطت والمرابطة كالمحافظة، فالمرابطة على هذا الأساس ضربان: مرابطة في ثغور المسلمين لدفع العدو كقول الله عز وجل:﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم﴾ .
وضرب ثاني للمرابطة هو جهاد النفس والصبر على ذلك، وحبسها في مكان ما للذكر والعبادة رجاء تزكيتها، يقول المولى عز وجل:﴿ يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون﴾ .
يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"منتظر الصلاة من بعد الصلاة كفارس اشتد بفرسه في سبيل الله على كشحه تصلي عليه ملائكة الله، ما لم يحدث أو يقوم وهو في الرباط الأكبر" وقال عليه الصلاة والسلام"من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة" . ويقال فلان رابط الجأش إذا قوي قلبه. قال الله عز وجل في حق الفتية الذين رابطوا في الكهف:﴿ وربطنا على قلوبهم﴾ وقال في حق أم موسى:﴿ لولا أن ربطنا على قلبها﴾ ، وقال في حق المؤمنين المجاهدين:﴿ ليربط على قلوبهم﴾ . تلك هي العناية الربانية التي يحاط بها المرابطون دون سواهم، فالسكينة تغشاهم ومعية الله تكلؤهم﴿ هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنون وأيدهم بروح منه﴾ . فبهذه الروح وهذه السكينة اشتدت قلوبهم واطمأنت أمام الشدائد والمحن. وبالجملة فأصل الرباط ما يربط فيه الخيول، ثم قيل لكل ثغر يدفع أهله عما وراءهم رباط، فالمجاهد المرابط يدفع عمن وراءه، والمقيم في الرباط على طاعة الله يدفع به وبدعائه البلاء عن البلاد والعباد.
الرباط أصل ووصل
قال الله تعالى:﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولابيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار﴾ . قيل إن هذه البيوت هي المساجد وقيل هي بيوت المدينة وقيل بيت الإمام علي وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما منها ... قال الحسن البصري رحمه الله: بقاع الأرض كلها جعلت مسجدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا، الاعتبار بالرجال الذاكرين لا بصور البقاع، وأي بقعة حوت رجالا بهذا الوصف، هي البيوت التي أذن الله أن ترفع.
عن أمنا عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت:"ول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء،فكان يأتي حراء فيتحنت فيه الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء" [3]. وهذه الأخبار عن بدء رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الأصل في إيثار صالحي هذه الأمة الانقطاع للعبادة والذكر في فترات معينة، و ما تلاها ويتلوها من اجتهادات وصل ليس إلا، وفرع من ذلك الأصل النبوي العظيم. وبناء عليه فالمرابطة هي المداومة في مكان العبادة والثبات، وقيل انتظار الصلاة بعد الصلاة قاله ابن عباس، يشهد له حديث:"ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط،فذلكم الرباط" [4]. وعن أبي سلمة بن عبد الرحمان قال:"أقبل علي أبو هريرة يوما فقال: أتدري يا ابن أخي فيما نزلت هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا..." قلت: لا، قال: أما إنه لم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها، فعليهم أنزلت "اصبروا" أي على الصلوات الخمس، "وصابروا" أنفسكم وهواكم، "ورابطوا" في مساجدكم، "واتقوا" الله فيما عليكم "لعلكم تفلحون"" [5]. وقال سري السقطي رحمه الله في قوله تعالى: "اصبروا وصابروا ورابطوا..." اصبروا على الدنيا رجاء السلامة، وصابروا عند القتال بالثبات والاستقامة، ورابطوا أهواء النفس اللوامة، واتقوا ما يعقب ذلك لعلكم تفلحون على بساط الكرامة. وتجدر الإشارة كذلك أن الله عز وجل خص الأربعين بالذكر في قصة سيدنا موسى عليه السلام وأمره بتخصيصها بمزيد من الذكر والعبادة استعدادا لميقات الله عز وجل. قال المولى جل وعلا:﴿ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة﴾ .
فضل الانقطاع للذكر والعبادة
روى ابن ماجة والترمذي واللفظ له وقال حسن صحيح، وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة قال:"تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يريد حرث الآخرة" (الشورى 20) ثم قال: "يقول الله تعالى يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك"" .
قال الإمام الشعراني رحمه الله تعالى في كتاب لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية:"أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نفرغ أنفسنا للعبادة والإقبال على الله تعالى، لا سيما إذا بلغنا الأربعين سنة" .
روى أنس بن مالك رضي الله عنه:"ما من صباح ولا رواح إلا وبقاع الأرض ينادي بعضها بعضا هل مر بك اليوم أحد، صلى عليك أو ذكر الله عليك ؟ فمن قائلة نعم، ومن قائلة لا، فإذا قالت نعم، علمت أن لها عليها بذلك فضل، وما من عبد ذكر الله تعالى على بقعة من الأرض أو صلى لله عليها إلا شهدت بذلك عند ربه وبكت عليه يوم يموت" وقيل في قوله تعالى:﴿ فما بكت عليهم السماء والأرض﴾ تنبيه على فضيلة أهل الله تعالى من أهل طاعته، لأن الأرض تبكي عليهم، ولا تبكي على من ركن إلى الدنيا واتبع الهوى. فسكان الرباط هم الرجال لأنهم ربطوا نفوسهم على طاعة الله وانقطعوا إلى الله فأقام الله لهم الدنيا خادمة. أخرج إبن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى:﴿ ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض﴾ قال يدفع الله بمن يصلي عمن لا يصلي، وبمن يحج عمن لايحج، وبمن يزكي عمن لايزكي . وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى: «ولولا دفاع الله ...» الآية يقول لولا دفاع الله بالبر عن الفاجر، ودفعه ببقية أخلاق الناس بعضهم عن بعض لفسدت الأرض بهلاك أهلها.
آداب الرباط
دأب المؤمنون بجماعة العدل والإحسان على تنظيم رباطات موسمية للذكر وتلاوة القرآن، فمن بين الإخوة من يلج المحضن على مراغمة النفس، إذ النفس بطبعها كارهة للخلوة، ميالة إلى مخالطة الخلق والاستئناس بهم، فإذا فطمتها عن عاداتها وحبستها على طاعة الله تعالى بالسياسة والكياسة حتى تستقيم على أمر الله، يعقب ذلك حلاوة في القلب. قال أبو يزيد البسطامي:"سقت نفسي إلى الله وهي تبكي، فمازلت أسوقها حتى انساقت وهي تضحك" . وقال ذو النون المصري:"لم أر شيئا أبعث على الإخلاص من الخلوة" وقال يحيى بن معاذ:"الوحدة منية الصديقين" .
ومن الناس من ينبعث في باطنه داعي الخلوة، وهذا أتم وأكمل وأدل على كمال الاستعداد، ولا طائل من وراء إكراه الناس إذا لوحظ فتور الاستعداد، ولا فائدة من ضرب الحديد البارد.
قبل الدخول إلى الرباط يستحسن أن يغتسل المؤمن، ويصلي ركعتين يتوب فيها إلى الله تعالى من ذنوبه، ويجدد النية والإقبال على الله عز وجل، ويحصن نفسه بآداب نجملها في الآتي:
أ- الإخلاص في العبادة والقصد، وهذا ركن ركين في الدين قال الله تعالى:﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء﴾ وقد قيل: لا تطمع في المنزلة عند الله وأنت تريد المنزلة عند الناس.
ب - صدق المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ج - أن يكون خاليا من المرادات، إلا مراد ربه عز وجل، ومعناه ألا يدخل الرباط على أصل غير مستقيم، كإرادة الكرامة أو الفتح أو ما شابه ذلك حتى لا يشوش على هذا القصد، قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه:"كنت في بدايتي أعبد الله أنا وصديق لي، وأقول غدا يفتح الله علينا، بعد غد يفتح الله علينا، فمكثنا على ذلك الحال زمانا ونحن في تعب عظيم، فدخل علينا رجل مهيب المنظر ... فقال حئت أنصحكما لله تعالى أن تعبدا الله لله تعالى ... فكشف لنا عن أمر كنا عنه غافلين، فعبدنا الله لله ففتح علينا في ثاني يوم" .
د – التبري من الحول والقوة وحظوظ النفس و الاستعانة بالله عز وجل على ذلك مع كثرة الدعاء والاستغفار.
ه – التقلل من الطعام ما أمكن.
و – التقلل من الكلام إلا لضرورة مع الاشتغال بذكر الله خاصة الكلمة الطيبة"لأن هذه الكلمة لها خاصية في تنوير الباطن وجمع الهم إذا داوم عليها مخلص، وهي من مواهب هذه الأمة" [6].
ي _ الاهتمام بالنظافة والخدمة ولزوم الطاعة والتواضع.
خاتمة
يقول الله عز وجل:﴿ أولائك الذين هدى الله فبهداهم اقتده﴾ ، فالغاية هي الله عز وجل ولسلوك هذه السبيل لا بد من التحقق بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الأسوة والقدوة ولا يتأتى ذلك إلا بعد تزكية النفس من رعوناتها حتى تستقيم وتذعن لسياسة الشرع الحكيم.
"سبحان الله ما يحبسني عن الهيمان على وجهي في البراري أطلب ما طلب الرجال كيف تحلو الحياة، بل كيف تحتمل لحظة، وأنا لا أعرف ما اسمي في الملكوت كيف أسوف رحيلي إلى ربي،وتوبتي الكلية، ورجعتي إليه، وهو سبحانه يتحبب إلى، وينادي ويعد ويبشر" [7].
ليس المطلوب من هذا الرباط شيئا مخصوصا لا يوجد في غيره، لكن تقييد الوقت رجاء أن ينسحب حكم الرباط وبرنامج الرباط وروح الرباط على سائر أيام العبد ولياليه، وكيف يكون العبد مع ربه وكيف تكون الأمة مع ربها في الليل والنهار حتى يصبح هذا الأخير وهذه الأخيرة في أوقاتهما كهيئتهما في الرباط، عسى الله أن يجمع همومنا لتصبح هما واحدا، والله تعالى من وراء القصد، وهو يتولى الصالحين
منقول للفائدة
بقلم: الأستاذ العربي سعد الله
تمهيد
يقول الحق سبحانه وتعالى:﴿ اقترب للنا س حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم﴾ .
الغالب على دنيا الناس اليوم، الإعراض والغفلة عن الله عز وجل، وانحراف ونكوص عن أمره ونهيه. لو يعلم المرء أن أعدى أعدائه نفسه التي بين جنبيه ما كان ليركن إليها ويستكين، وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، فرارة من الخير، لذا أمر بتزكيتها وقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها ومنعها عن شهواتها، وفطامها عن لذاتها، فإن هو أهملها، وترك لها الحبل على الغارب جمحت وشردت، فطغت ثم أهلكت. لذلك أرشدنا المولى عز وجل لتمثل الآية الكريمة:﴿ قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها﴾
.
"السلوك إلى الله عز وجل والسير إليه عمل منصوص في الكتاب والسنة، كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الناس به كان معنى القصد إلى قرب الله عز وجل بالتعبد ومعنى طلب الحظوة عنده والزلفى لديه بالأعمال الصالحة علما مستقرا عندهم" [1].
لذا وجب أن يبحث المؤمن الصادق الذي يرجو لقاء ربه وفضله، ما به يقوم اعوجاج هذه النفس، ويربطها بمكان الذكر والعبادة حتى تقتحم، وتسلس القياد لبارئها، وبذلك يزيل عنها الحجب المانعة من التواصي بالحق والتواصي بالصبر، لتستقر بمقعد الصدق ويقال لها وقتئذ:﴿ يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي﴾ .
الرباط لغة واصطلاحا
يقول أهل اللغة[2]ربط الفرس: شده بالمكان للحفظ، ومنه رباط الجيش وسمي المكان الذي يخص بإقامة حفظة فيه رباطا. والرباط مصدر ربطت ورابطت والمرابطة كالمحافظة، فالمرابطة على هذا الأساس ضربان: مرابطة في ثغور المسلمين لدفع العدو كقول الله عز وجل:﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم﴾ .
وضرب ثاني للمرابطة هو جهاد النفس والصبر على ذلك، وحبسها في مكان ما للذكر والعبادة رجاء تزكيتها، يقول المولى عز وجل:﴿ يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون﴾ .
يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"منتظر الصلاة من بعد الصلاة كفارس اشتد بفرسه في سبيل الله على كشحه تصلي عليه ملائكة الله، ما لم يحدث أو يقوم وهو في الرباط الأكبر" وقال عليه الصلاة والسلام"من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة" . ويقال فلان رابط الجأش إذا قوي قلبه. قال الله عز وجل في حق الفتية الذين رابطوا في الكهف:﴿ وربطنا على قلوبهم﴾ وقال في حق أم موسى:﴿ لولا أن ربطنا على قلبها﴾ ، وقال في حق المؤمنين المجاهدين:﴿ ليربط على قلوبهم﴾ . تلك هي العناية الربانية التي يحاط بها المرابطون دون سواهم، فالسكينة تغشاهم ومعية الله تكلؤهم﴿ هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنون وأيدهم بروح منه﴾ . فبهذه الروح وهذه السكينة اشتدت قلوبهم واطمأنت أمام الشدائد والمحن. وبالجملة فأصل الرباط ما يربط فيه الخيول، ثم قيل لكل ثغر يدفع أهله عما وراءهم رباط، فالمجاهد المرابط يدفع عمن وراءه، والمقيم في الرباط على طاعة الله يدفع به وبدعائه البلاء عن البلاد والعباد.
الرباط أصل ووصل
قال الله تعالى:﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولابيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار﴾ . قيل إن هذه البيوت هي المساجد وقيل هي بيوت المدينة وقيل بيت الإمام علي وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما منها ... قال الحسن البصري رحمه الله: بقاع الأرض كلها جعلت مسجدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا، الاعتبار بالرجال الذاكرين لا بصور البقاع، وأي بقعة حوت رجالا بهذا الوصف، هي البيوت التي أذن الله أن ترفع.
عن أمنا عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت:"ول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء،فكان يأتي حراء فيتحنت فيه الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء" [3]. وهذه الأخبار عن بدء رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الأصل في إيثار صالحي هذه الأمة الانقطاع للعبادة والذكر في فترات معينة، و ما تلاها ويتلوها من اجتهادات وصل ليس إلا، وفرع من ذلك الأصل النبوي العظيم. وبناء عليه فالمرابطة هي المداومة في مكان العبادة والثبات، وقيل انتظار الصلاة بعد الصلاة قاله ابن عباس، يشهد له حديث:"ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط،فذلكم الرباط" [4]. وعن أبي سلمة بن عبد الرحمان قال:"أقبل علي أبو هريرة يوما فقال: أتدري يا ابن أخي فيما نزلت هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا..." قلت: لا، قال: أما إنه لم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها، فعليهم أنزلت "اصبروا" أي على الصلوات الخمس، "وصابروا" أنفسكم وهواكم، "ورابطوا" في مساجدكم، "واتقوا" الله فيما عليكم "لعلكم تفلحون"" [5]. وقال سري السقطي رحمه الله في قوله تعالى: "اصبروا وصابروا ورابطوا..." اصبروا على الدنيا رجاء السلامة، وصابروا عند القتال بالثبات والاستقامة، ورابطوا أهواء النفس اللوامة، واتقوا ما يعقب ذلك لعلكم تفلحون على بساط الكرامة. وتجدر الإشارة كذلك أن الله عز وجل خص الأربعين بالذكر في قصة سيدنا موسى عليه السلام وأمره بتخصيصها بمزيد من الذكر والعبادة استعدادا لميقات الله عز وجل. قال المولى جل وعلا:﴿ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة﴾ .
فضل الانقطاع للذكر والعبادة
روى ابن ماجة والترمذي واللفظ له وقال حسن صحيح، وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة قال:"تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يريد حرث الآخرة" (الشورى 20) ثم قال: "يقول الله تعالى يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك"" .
قال الإمام الشعراني رحمه الله تعالى في كتاب لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية:"أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نفرغ أنفسنا للعبادة والإقبال على الله تعالى، لا سيما إذا بلغنا الأربعين سنة" .
روى أنس بن مالك رضي الله عنه:"ما من صباح ولا رواح إلا وبقاع الأرض ينادي بعضها بعضا هل مر بك اليوم أحد، صلى عليك أو ذكر الله عليك ؟ فمن قائلة نعم، ومن قائلة لا، فإذا قالت نعم، علمت أن لها عليها بذلك فضل، وما من عبد ذكر الله تعالى على بقعة من الأرض أو صلى لله عليها إلا شهدت بذلك عند ربه وبكت عليه يوم يموت" وقيل في قوله تعالى:﴿ فما بكت عليهم السماء والأرض﴾ تنبيه على فضيلة أهل الله تعالى من أهل طاعته، لأن الأرض تبكي عليهم، ولا تبكي على من ركن إلى الدنيا واتبع الهوى. فسكان الرباط هم الرجال لأنهم ربطوا نفوسهم على طاعة الله وانقطعوا إلى الله فأقام الله لهم الدنيا خادمة. أخرج إبن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى:﴿ ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض﴾ قال يدفع الله بمن يصلي عمن لا يصلي، وبمن يحج عمن لايحج، وبمن يزكي عمن لايزكي . وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى: «ولولا دفاع الله ...» الآية يقول لولا دفاع الله بالبر عن الفاجر، ودفعه ببقية أخلاق الناس بعضهم عن بعض لفسدت الأرض بهلاك أهلها.
آداب الرباط
دأب المؤمنون بجماعة العدل والإحسان على تنظيم رباطات موسمية للذكر وتلاوة القرآن، فمن بين الإخوة من يلج المحضن على مراغمة النفس، إذ النفس بطبعها كارهة للخلوة، ميالة إلى مخالطة الخلق والاستئناس بهم، فإذا فطمتها عن عاداتها وحبستها على طاعة الله تعالى بالسياسة والكياسة حتى تستقيم على أمر الله، يعقب ذلك حلاوة في القلب. قال أبو يزيد البسطامي:"سقت نفسي إلى الله وهي تبكي، فمازلت أسوقها حتى انساقت وهي تضحك" . وقال ذو النون المصري:"لم أر شيئا أبعث على الإخلاص من الخلوة" وقال يحيى بن معاذ:"الوحدة منية الصديقين" .
ومن الناس من ينبعث في باطنه داعي الخلوة، وهذا أتم وأكمل وأدل على كمال الاستعداد، ولا طائل من وراء إكراه الناس إذا لوحظ فتور الاستعداد، ولا فائدة من ضرب الحديد البارد.
قبل الدخول إلى الرباط يستحسن أن يغتسل المؤمن، ويصلي ركعتين يتوب فيها إلى الله تعالى من ذنوبه، ويجدد النية والإقبال على الله عز وجل، ويحصن نفسه بآداب نجملها في الآتي:
أ- الإخلاص في العبادة والقصد، وهذا ركن ركين في الدين قال الله تعالى:﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء﴾ وقد قيل: لا تطمع في المنزلة عند الله وأنت تريد المنزلة عند الناس.
ب - صدق المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ج - أن يكون خاليا من المرادات، إلا مراد ربه عز وجل، ومعناه ألا يدخل الرباط على أصل غير مستقيم، كإرادة الكرامة أو الفتح أو ما شابه ذلك حتى لا يشوش على هذا القصد، قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه:"كنت في بدايتي أعبد الله أنا وصديق لي، وأقول غدا يفتح الله علينا، بعد غد يفتح الله علينا، فمكثنا على ذلك الحال زمانا ونحن في تعب عظيم، فدخل علينا رجل مهيب المنظر ... فقال حئت أنصحكما لله تعالى أن تعبدا الله لله تعالى ... فكشف لنا عن أمر كنا عنه غافلين، فعبدنا الله لله ففتح علينا في ثاني يوم" .
د – التبري من الحول والقوة وحظوظ النفس و الاستعانة بالله عز وجل على ذلك مع كثرة الدعاء والاستغفار.
ه – التقلل من الطعام ما أمكن.
و – التقلل من الكلام إلا لضرورة مع الاشتغال بذكر الله خاصة الكلمة الطيبة"لأن هذه الكلمة لها خاصية في تنوير الباطن وجمع الهم إذا داوم عليها مخلص، وهي من مواهب هذه الأمة" [6].
ي _ الاهتمام بالنظافة والخدمة ولزوم الطاعة والتواضع.
خاتمة
يقول الله عز وجل:﴿ أولائك الذين هدى الله فبهداهم اقتده﴾ ، فالغاية هي الله عز وجل ولسلوك هذه السبيل لا بد من التحقق بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الأسوة والقدوة ولا يتأتى ذلك إلا بعد تزكية النفس من رعوناتها حتى تستقيم وتذعن لسياسة الشرع الحكيم.
"سبحان الله ما يحبسني عن الهيمان على وجهي في البراري أطلب ما طلب الرجال كيف تحلو الحياة، بل كيف تحتمل لحظة، وأنا لا أعرف ما اسمي في الملكوت كيف أسوف رحيلي إلى ربي،وتوبتي الكلية، ورجعتي إليه، وهو سبحانه يتحبب إلى، وينادي ويعد ويبشر" [7].
ليس المطلوب من هذا الرباط شيئا مخصوصا لا يوجد في غيره، لكن تقييد الوقت رجاء أن ينسحب حكم الرباط وبرنامج الرباط وروح الرباط على سائر أيام العبد ولياليه، وكيف يكون العبد مع ربه وكيف تكون الأمة مع ربها في الليل والنهار حتى يصبح هذا الأخير وهذه الأخيرة في أوقاتهما كهيئتهما في الرباط، عسى الله أن يجمع همومنا لتصبح هما واحدا، والله تعالى من وراء القصد، وهو يتولى الصالحين
منقول للفائدة