بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
الطريق إلى العزة
في كتابه ((حضارة الهند)) تساءل "غوستاف لوبون": كيف استطاع البريطانيون ببضعة آلاف من الجنود أن يستعمروا الهند ذات الملايين العديدة؟!
وأجاب: عند تشريح جمجمة الهندي لا نراها مختلفة عن جمجمة الإنجليزي، ولكن الفرق هو الإرادة: الثبات والعزم في قوم، والضعف والاستكانة في آخرين)، إن أمة تشعر نفسها بالضعف فهي ضعيفة، وستظل ضعيفة ما دام هذا الشعور لا يفارقها.
ونستطيع نحن الآن أن نقول نفس الكلام أو قريبا منه عن المسلمين في زمننا، إن الأزمة الحقيقية لأمتنا الإسلامية هي انعدام الوعي بذواتنا، أزمة فقدان الثقة بقدراتنا على الفعل، وأسوأ ما يمكن أن يصيب أمة هو فقدان الثقة بنفسها وبإمكانياتها وبقدراتها على الفعل والمشاركة الإيجابية في صنع الأحداث وتجاوز المحن والأزمات.
لقد بلي كثير من المسلمين اليوم بالهزيمة النفسية، التي كان من ثمارها الحنظلية العيش مع المجتمعات الأخرى بنفسية المغلوب لا بنفسية الغالب، فحملها ذلك أن انقادت وراء هذه المجتمعات وسلمت لها خطامها وأقرت لها بالتبعية والولاء.
من يهن يسهل الهوان عليه .... ما لجرح بميت إيلام
لقد نكبت الأمة وذلت، وزلت وضلت، يوم وجهت وجهها نحو الغرب الكافر، فأصبحت تقتات من فتاته، وتتمسح بأعتابه، وتسير في ركابه.
زين لها ذلك أصحاب الفكر المغلوب، والعقل المقلوب، الذين ما فتئوا يصيحون بالأمة أن تسلم قيادها للغرب، وأن تأخذ كل ما عنده من عادات وثقافات (خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يحمد وما يعاب)، زد عليه ذاك الجهد الكبار من الكفار في تغريب المجتمعات الإسلامية، ومسخ هويتها وعزلها عن منبع عزها ومكمن فخرها، حتى خرج جيل بعيد كل البعد عن روح الإسلام، بعيد في ثقافته، وشخصيته، وسلوكه، ونمط حياته.
وإن الذي ينظر في أحوال المسلمين اليوم يرى عجبا من نتاج التغريب المستمر، يرى ذلك الجهل الظاهر لمهمات الدين في الشعوب المسلمة، بينا تجد جموعا منها لا تجهل أدق تفاصيل موت ممثلة أو امرأة، وكذا حياة لاعب كرة.
لقد كان من نتاج هذا التغريب أيضاً: الجهل بالتاريخ الإسلامي وأمجاده وأبطاله، وكان من نتاجه أيضاً: السعي المحموم خلف (الموضات) والتقليعات الغربية، حتى أصبح ما يفصل هناك في الصباح يلبس هنا في المساء، وتسربت إلى البلاد الإسلامية عادات ليست منها. حتى ذكرت بعض الإحصائيات أن عدد الكلاب في إحدى الدول العربية أكثر من مليون كلب!! إنها ليست كلاب حراسة أو صيد، إنها كلاب مدلـلة أحدثها التقليد ((حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)) .
إن الأمة التي تعيش على فتات الغير، وتقتات من موائده، لا يمكن أن تصنع نصراً أو تبني مصراً، بل ستظل أمة ضعيفة هزيلة تابعة لا متبوعة.
ولا يقيم على ضيم يراد به** ** ** إلا الأذلان: عير الحي، والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته** ** **وذا يشج فلا يرثى له أحد
لما ذلت أمتنا غابت العزيمة من خطابها، ولم يعد في قاموسها غير الرخصة نسيت (خذوا ما آتيناكم بقوة) [الأعراف:171] وبقيت تردد: "يسروا ولا تعسروا"، قرأت (أن تبروهم وتقسطوا إليهم) [الممتحنة 8]، وتركت (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:9) والشرع يعرف من مجموع أدلته.
لقد أصبحت قراءتنا للنصوص قراءة تناسب ضغط الواقع! لا مقاصد الشريعة، وحين نريد لأمتنا أن ترقى، ولمكانتها أن تبقى، فلا بد من بعث روح العزة والقوة فيها، وأن يربى أفرادها على ذلك ولعل مما يبعث على العزة أمور أذكر منها ما يلي:
1- تحقيق التوحيد وتنقية الاعتقاد:
لقد جعل الله العزة ملازمة للإيمان: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) [المنافقون 8] فمتى استقر الإيمان ورسخ، فالعزة معه مستقرة راسخة؛ حتى في أحرج اللحظات.
دخل الإيمان قلوب السحرة فصرخوا في وجه فرعون باستعلاء: (لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا* إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى) [طه:72-73] .
الإيمان الذي جعل من بلال الحبشي قوة يتحدى ((سيده)) أمية بن خلف ويحارب أبا جهل بن هشام.. الإيمان الذي جعل القلة تنتصر على الكثرة، والأميين يغلبون المتحضرين، ودفع العرب البداة، ويقينهم في قلوبهم، ومصاحفهم في يد، وسيوفهم في أخرى، ومساكنهم على ظهور خيولهم يقولون لملوك فارس وأباطرة الروم: نحن قوم بعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده).
وحين انحرف المسلمون عن فهم التوحيد وضلوا في الاعتقاد، وأطفؤوا بتخليط الشرك نور الوحدانية، كانت عاقبة أمرهم خسراً واستبدلوا برفيع منازلهم أودية وقفاراً، فبارك عدوهم ما هم فيه، وأغمد سيفه مطمئناً لجانبهم، بل ربما أصاب بسهامهم ما لم يصب هو بسهمه. وقد قرر (توينبي) هذه الحقيقة حين قال: ((لقد ظللنا نحرج المسلم التركي حتى يتخلى عن إسلامه ويقلدنا؛ فلما فعل ذلك احتقرناه؛ لأنه لم يعد عنده ما يعطيه)) أ.هـ.
أما حين يرجع المؤمن إلى دينه ويتمسك بثوابته فإنه سيجد في كتاب ربه ما يغنيه، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرويه، وفي عقيدته ما يكفيه، ولن يكون بحاجة إلى مخلفات الحضارة الغربي. ورحم الله محمد إقبال حين قال: "إن بريق المدينة الغربية لم يغش بصري؛ لأني اكتحلت بإثمد المدينة النبوية".
2- تحقيق تقوى الله ـ تعالى ـ بلزوم الطاعة واجتناب المعصية:
فإن المعصية تورث الذل ولابد؛ والعز كل العز في طاعة الله، قال الله تعالى: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً) [فاطر:10].
ويعلق ابن القيم على قوله تعالى: (قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها) [الشمس 9-10] فيقول: (والمعنى: قد أفلح من كبرها وأعلاها بطاعة الله وأظهرها، وقد خسر من أخفاها وحقرها وصغرها بمعصبة الله. فما صغر النفوس مثل معصية الله، وما كبرها وشرفها ورفعها مثل طاعة الله.
وعن جبير بن نفير قال: لما فتحت قبرص فرق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، ورأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: ويحك! ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره، بينما هم أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى).
وكان من دعاء السلف: اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة.
ألا إنما التقوى هي العز والكرم** *** **وحبك للدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة ** *** **إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم
3- التعالي على مطامع الدنيا وشهواتها ولذائذها:
إن النفس حين ترتفع عن المطامع الدنيوية، والشهوات الدنية، فإنها يوماً ما لن تكون أسيرة لها أو ذليلة لوطأتها، بل سترتفع إلى مكان أرقى وجو أنقى.
إني جواد عصي لا يطوعه** *** ** بوح العناقيد أو عطر الهنيات
أتيت أركض والصحراء تتبعني ** ***وأحرف الرمل تجري بين خطواتي
أتيت أنتعل الآفاق .. أمنحها** *** ** جرحي وأبحث فيها عن بداياتي
إن المسلم حيث يتعامل مع الدنيا على حذر، ويأخذها على أنها متاع زائل وبلغة مسافر؛ فإنه لن يقع عبداً لها، ولن يبيع عزته ومكانته فداءً لها، بل سيتخلى عن دنياه أسهل ما يكون حين تتعارض مع مبادئه وقيمه وثوابته، وحين يساوم على شيء من دينه.
4ـ تعظيم الحق وتحقير الباطل:
فقد عظم الله الحق وأهله، كما حقر الباطل وأهله، فلاينبغي لمسلم أن ينظر إلى كافرنظرة اعتزاز وإكبار، حتى ولو بلغ من الحضارة كل مبلغ، فقد صغر الله شأنهم، وحقر أمرهم، فلا يصح أن نرفع منهم، قال ـ تعالى ـ: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) الأنفال [22] وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه" وإن ذل المعصية لا يفارق جباههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه، كما يقول الحسن البصري رحمه الله: (إنهم هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال إلا أن ذل المعصية لا يفارقم قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه).
إن الذي يعلم حقيقة ما عليه الغرب الكافر اليوم، يرى أنه ليس حقيقا بالإكبار، بل يرى أنه مجتمع متساقط متهالك، ليس لديه من مقومات البقاء شيء. يقول الرئيس الأمريكي السابق (جون كنيدي): إن الشباب الأمريكي مائع منحل، غارق في الشهوات، وإنه من بين كل سبعة شبان يتقدمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين ـ كل ذلك بسبب انهماكهم في الشهوات ـ . وتقول الإحصائيات: إن معدل الجرائم في اليوم الواحد في لندن 1599 جريمة.. منها 332 اعتداءً جنسياً!! فهل يأتي من وراء هؤلاء خير؟
كيف نرجو من السجين معيناً ** ** وهو في القيد ينشد الإفراجا
سبل الغرب كلها جحر ضب ** ** وسبيل إلاسلام كانت فجاجا
5 ـ الجهاد في سبيل الله:
فما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا، ولا غُزي قوم في دارهم إلا قهروا، وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بإعداد العدة لمصاولة الكافرين، وإذلال الظالمين، ونصرة الدعوة لهذا الدين، فقال قولا واضحا مبينا: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (لأنفال:60)
فإذا علم الكفار باستعداد المسلمين، وتأهبهم للجهاد، واستكمالهم لجميع الأسلحة والآلات، خافوهم، وهذا الخوف يفيد المسلمين من وجوه:
1- يجعل أعداءهم يحجمون عن كثير من استفزازهم والتهجم عليهم.
2- يجعل أعداءهم لا يعينون عدوا آخر عليهم.
3- يجعلهم يؤدون الالتزامات المطلوبة منهم.
4- ربما حملهم ذلك على الدخول في الإسلام والإيمان بالله ورسوله.
إلى غير ذلك من المنافع التي تحصل بهذه الفريضة العظيمة والتي من أعظمها أن يرهبوا جانب المسلمين وشعور المسلمين بالعزة التي تضيع بتضييع الجهاد كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" رواه أبو داود
6 ـ التعلق بالآخرة وطلب ثوابها:
إن الذي يتعلق بالآخرة تهون الدنيا في عينه، وتهون عليه نفسه فيقدمها رخيصة لله.
تقول ابنة السعدي وهي تلومني ** ** أما لك عن دار الهوان رحيل
فإن عنــاء المستقيم على الأذى ** ** بحيث يذل الأكرمون طويل
وعندك محبوك الســـراة مطهم ** ** وفي الكف مطرور الشباة صقيل
نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه: " قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض" ففعلت هذه الكلمات في نفوس أهل الآخرة فعلها، فقام عمير بن الحمام" وقال: يارسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم! قال: بخ بخ فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منه، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل.
4- التربية على الاعتزاز بالدين وغرس ذلك في النفوس:
لابد من التربية على الاعتزاز بالدين وغرس ذلك في نفوس الأطفال من صغرهم، وأن يحدثوا بأمجادهم وتاريخ أسلافهم.
عوِّد من تقوم على تربيته أن لا يستجدي الناس شيئاً، وأن يستغني بما عنده عما في أيدي الناس، وقد قيل: "استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره".
عوده رد الضيم وعدم قبول الذل؛ فإن ذلك ليس من سجية المؤمن ولا من خلقه، بل هو عزيز أبي.
عوده أن يرفع رأسه دائماً إلى السماء، وأن لا يطأطئ إلى الأرض.
روى العسكري أن رجلاً مر على عمر ـ رضي الله عنه ـ "وقد تخشع وتذلل وبالغ في الخضوع، فقال عمر: ألست مسلماً؟ قال: بلى! قال: فارفع رأسك، وأمدد عنقك؛ فإن الإسلام عزيز منيع.
ورأت الشفاء بنت عبد الله بعض الفتيان يمشون متماوتين فقالت: من هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء النساك فقالت: لقد كان عمر إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع، وكان هو الناسك حقاً).
يقول الغزالي رحمه الله: (إن اعتزاز المسلم بنفسه ودينه وربه هو كبرياء إيمانه، وكبرياء الإيمان غير كبرياء الطغيان، إنها أنفة المؤمن أن يصغر لسلطان، أو يتضع في مكان، أو يكون ذنباً لإنسان،... وإن العز والإباء والكرامة من أبرز الخلال التي نادى الإسلام بها، وغرسها في أنحاء المجتمع وتعهد نماءها بما شرع من عقائد وسن من تعاليم. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: "أحب الرجل إذا سيم خطة خسف أن يقول بملء فيه: لا" ... "وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال:لا تعطه مالك! قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله! قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد! قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار!
نعم.. فمن عزة المؤمن أن لا يكون مستباحاً لكل طامع، أو غرضاً لكل هاجم، بل عليه أن يستميت دون نفسه وعرضه، وماله، وأهله، وأن أريقت في ذلك دماء؛ فإن هذا رخيص لصيانة الشرف الرفيع... أما تهيب الموت وتحمل العار طلباً للبقاء في الدنيا على أية صورة فذلك حمق؛ فإن الفرار لا يطيل جلاً، والإقدام لا ينقص عمراً كيف (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) [الأعراف 34]؟
إن القضاء يصيب العزيز وله أجره، ويصيب الذليل وعليه وزره؛ فكن عزيزاً ما دام لن يفلت من محتوم القضاء إنسان).
إذا لم يكن من الموت بد ..... فمن العار أن تموت جبانا
اللهم أعزنا بالإسلام قائمين وقاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://www.islamweb.net/ver2/archive/readArt.php?lang=A&id=138149