راعي الطير
¬°•| مشرف سابق|•°¬
- إنضم
- 14 أكتوبر 2007
- المشاركات
- 850
السنة النبوية في القرآن الكريم
لقد ذكرت السنة في القرآن الكريم كثيراً .
1. فذكرت بلفظ الحكمة كما في :
قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام في دعائه لهذه الأمة : " ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة و يزكيهم .." { البقرة /129 } وقوله تعالى : " كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة .." { البقرة / 151 } وقوله تعالى : " لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب و الحكمة " { آل عمران / 164 }
وقوله تعالى : " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة " { النساء / 113 }
وقوله تعالى : " واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة " { الأحزاب / 34 }
وقوله تعالى : " هو الذي بعث في ألأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم
الكتاب و الحكمة " { الجمعة / 2 }
قال الحسن وقتادة : الكتاب : هو القرآن ، و الحكمة هي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)
وقال الإمام الشافعي رحمة الله تعالى : " ذكر الله الكتاب ، وهو القرآن ، وذكر الحكمة فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول : الحكمة : سنه رسول الله ، وهذا يشبه ما قال ، والله أعلم ، لأن القرآن ذكر واتبعته الحكمة ، وذكر الله مَنّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة ، فلم يجز – والله أعلم – أن يقال الحكمة ههنا إلا سنه رسول الله ، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله ، وأن الله افترض طاعة رسوله وحتم على الناس اتباع أمره ، فلا يجوز أن يقال لقول فرض إلا لكتاب الله ثم سنه رسوله ، لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقروناً بالإيمان به ، وسنه رسول الله مبينة عن الله معنى ما
أراد : دليلاً على خاصه وعامه،ثم قرن الحكمة بها بكتابه فأتبعها إياه ،ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله " (2)
وقال الطبري – رحمة الله - : " ويعلمهم الكتاب والحكمة " يعنى : ويعلمهم كتاب الله الذي أنزل عليه ، ويبين لهم تأويله و معانيه " الحكمة " ويعنى بالحكمة : السنة التي سنها الله جل ثناؤه للمؤمنين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانه لهم .(3)
وقال الطبري – أيضاً – بعد أن ذكر آراء الأئمة في تفسير الحكمة – و الصواب من القول عندنا في الحكمة أنها العلم بأحكام الله تعالى لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم والمعرفة بها ، وما دل عليه ذلك من نظائره .(4)
وإذا سلمنا بهذه الحقيقة ، وهي أن بيان القرآن الكريم هو الحكمة التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقرنت بالكتاب ، وأن هذه الحكمة ليست شيئاً سوى سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن هذا التسليم يطرح تساؤلات :
من بينها : أن القرآن لم يستخدم لفظ " السنة " تعبيراً عن " بيان القرآن " وإنما استخدم لفظ " الحكمة " فما سبب هذا العدول ؟
ثم : إذا كان لفظ " الحكمة " هو ما آثره القرآن ، فلم عدل عنه النبي ، وصحابته ، وعلماء الأمة من بعده ، واستبدلوا به لفظ " السنة " ؟
يقول الدكتور الخولي : " وفي تقديرنا : أن بداية هذا التفسير كامنة في الفرق بين طبيعة كلٍ من " الكتاب " و " السنة " رغم وحده مصدرهما ، وهو " الوحي " كلاهما وحي من الله – تعالى – بشهادة القرآن نفسه .. و السنة من بعده .
أما شهادة القرآن فتطالعنا بينة قاطعة في قوله تعالى : " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " { النجم / 4،3 }
فما ينطقه رسول الله شامل لما يتلوه على الناس ، من قرآن ، وما يقوله لهم من حديث . كلاهما وحي إذا .
وبناء على ما قررنا : من أن الحكمة هي " سنه " رسول الله .. و أنها ليست سواها ، فقد أصبحت الآية الكريمة : " و أنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً " { النساء / 113 } . دليلاً ثانياً قاطعاً ، على أن السنة وحي ، أنزلها الله على رسوله – كما أنزل الكتاب .
و دليل ثالث : " ثم إن علينا بيانه " { القيامة / 19 } إنه وعد قاطع بأن بيان القرآن ، سوف يتولاه الله ، كما تولى " جمعه وقرآنه " على حد سواء ، ولا معنى لهذا سوى : أن يوحي إليه هذا البيان ، بصورة من صور الإيحاء .
السنة إذا وحي بشهادة القرآن البينة ، و هي وحي بشهادتها كذلك : " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه " (5)
وهو لم يؤت شيئاً غير القرآن – سوى السنة ،ـ والسنة ليست مثل القرآن في شيء إلا في كونها وحياً مثله .
ومهما حاولنا أن نجد معنى لكونها مثل القرآن غير كونها وحياً مثله ، فقد حاولنا محالاً . فمن البين أنها ليست مثل القرآن كماً ، وليست مثل القرآن كيفاً .. و لا يتحدى بها كما يتحدى بالقرآن ...
إن بين القرآن و السنة شبهاً محدداً ، ينحصر في أن كليهما وحي من عند الله تعالى ، وبينهما فرق : أن القرآن " وحي " بلفظه ومعناه ، أما السنة فهي " وحي " بمعناها دون لفظها .
ونحن نجد هذا الفرق على نحو قاطع ، حين نتأمل ما أحيطت به رواية " السنة " بالقياس إلى ما أحيط به تبليغ " القرآن " .
لقد تكفل ربنا بحفظ القرآن ، وحماه أن يناله تغيير أو تحريف .." إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " {الحجر / 9}
ولكنه وكل إلينا حفظ " السنة " ..فتطرق إليها شيء من مما لا سبيل للبشر إلى توقيه ، وأبسطه هذا الاختلاف في رواية الحديث الواحد ، بطرق شتى ، كلها موثوق صحيح ، إذ هذا قاطع بأن تصرفا حدث في الرواية ، وهو سبب هذا الاختلاف ، وإذا كان هناك خلاف حول جواز رواية الحديث بالمعنى ، فهناك إجماع على عدم جواز قراءة القرآن بالمعنى البتة .
ذلك أن لفظ القرآن متعبد به ، ولا كذالك لفظ الحديث النبوي ، والقرآن هو المعجزة وبه التحدي ، ولا كذالك السنة .
هذه الفروق وراء المفارقة البادية ، في إيثار القرآن لفظ " الحكمة " وعدول النبي صلى الله عليه وسلم عنه إلى لفظ " السنة " .
وإذا سلم لنا هذا الفرق الجوهري : أن " القرآن " وحي : لفظه ومعناه ، وأن " السنة " وحي بمعناها دون لفظها ، فقد انفتح لنا الباب لإسقاط الإشكال من أساسه .
وهنا نجتهد آملين في الله أن نكون على صواب : أن " الحكمة " هي : المعاني التي تضمنتها أحاديث رسول الله ، أوحاها الله إليه ، وكساها – صلوات الله عليه – ألفاظا من عنده .
أما " السنة " : فهي هذه المعاني الموحى بها ، بعد أن اكتست العبارة التي تحملها ، وإذا فمفهوم
" السنة " غير مفهوم " الحكمة " .
" الحكمة " هي " المعاني " وحدها .. و " السنة " هي المعاني بألفاظها ، وبالتالي لا عدول من جانب النبي – صلى الله عليه وسلم – عن نهج القرآن ، أو تسميته ، و لا مفارقه هناك ؟!
مفهوم " الحكمة " مختلف عن مفهوم " السنة " .....
" السنة " معنى : هي الحكمة .. وهي بهذا المفهوم وحي من عند الله . و " السنة " معنى ولفظاً : هي حديث رسول الله ، وما في معناه ، من فعل أو تقرير .
و الدليل على أن معنى " السنة " وحي من عند الله ، أن لفظها المعبر عن المعنى هو لرسول الله
*– صلى الله عليه وسلم – الدليل على هذا قول النبي – صلى الله عليه وسلم - : " إن الروح الأمين قد ألقي في رُوعي : أنه لن تموت نفس ، حتى تستوفي رزقها ، فأجملوا في الطلب " و في رواية : " إن روح القدس نفث في روعي ... " (6)
" نفث في روعي " لا معنى لها هنا إلا الإلهام ، والإلقاء في النفس ، وما يلقى في الروع لا يكون إلا من باب المعاني .
لأن ما يلقى بلفظه ومعناه يلقى في الروع و في السمع في آن واحد ، كالحديث القدسي ، و القرآن العظيم .
وإذا فما نسمعه ونقرؤه من هذا الحديث ، ليس ما ألقي في " روع " رسول الله وقلبه .
لقد ألقى إليه المعنى ، فعبر عنه ، وإذا فهذه المعاني الإلهية الموحى بها ، قد وصلتنا من خلال عبارة رسول الله .
وعبارة رسول الله صاغها على طريقته ، وبأسلوبه الخاص ، وهي طريقة في البيان تختلف لا محالة ، عن طريق البيان الإلهي في القرآن .
و السنة لغة : الطريقة ، فهل نبعد إذا قلنا : سنة رسول الله : هي طريقته في تبليغ ما أوحى إليه من بيان القرآن – المعاني التي ألهمها – بلفظه وأسلوبه : " حديثاً " أو بفعله : " عملاً " أو بتقريره : " إجازة " وهما في دلالتهما كاللفظ ؟!
ترى : هل يمكن الآن اقتراح وضع لفظ " الحكمة " بدل لفظ " السنة " أو العكس ؟!
لقد استقر كل لفظ في موضعه ، لا ينازعه الآخر فيه .. لأن أياً منهما لا يصلح بديلاً من
صاحبه (7) ؟!
2. وذكرت السنة في القرآن الكريم بأساليب أخرى ، منها :
الأمر بطاعته صلى الله عليه وسلم ، كقوله تعالى : " يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول و أولى الأمر منكم " { النساء / 59 }
ومنها : قبول أمره ونهيه صلى الله عليه وسلم ، كما في قوله تعالى : " و ما أتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا " { الحشر / 7 }
ومنها : القبول والتسليم لقضائه صلى الله عليه وسلم ، كما في قوله تعالى : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت و يسلموا تسليماً "{ النساء/65 }
ومنها : التحذير من مخالفته صلى الله عليه وسلم ، كما في قوله تعالى : " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنه أو يصبهم عذاب أليم " { النور / 63 }
ومنها : وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم ، كما في قوله تعالى : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم " { آل عمران / 31 } . وقوله سبحانه : " و اتبعوه لعلكم تهتدون "
{ الأعراف / 158 }
فهذه النصوص وما في موضوعها تلزم الأمة بهدية صلى الله عليه وسلم ، و تبين أن ما جاء به فعلى الأمة أن تقبله وأن تعمل به ، وهذا هو الذي نسميه " سنته " صلى الله عليه وسلم .(8)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر : الفقيه و المتفقه 1/88 بتصرف .
[2] الرسالة ص 79،78
[3] تفسير الطبري 4/163
[4] تفسير الطبري 1/557
[5] أخرجه أبو داود ، كتاب السنة ، باب لزوم السنة ، رقم ( 4604 ) ، و الترمذي ، كتاب العلم ، باب ما نهى عنه أن يقال عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم رقم ( 2663 ) ، وقال : حديث حسن غريب من هذا الوجه . و أخرجه غيرهما و صححه ابن حبان و غيره .
[6] أخرجه الشافعي في الرسالة ص 53 رقم (306) عن المطلب ، و الحاكم في المستدرك ، كتاب البيوع (2/4) عن ابن مسعود ، أخرجه شاهداً ( لحديث جابر الذي ساقه أصلاً ثم شاهدا لهذا الأصل ، و أخرجه أبو تعيم في الحلية ( 10/27،26 ) عن أبي أمامه ، و أخرجه الخطيب في الفقيه و المتفقه ص 92،93 ، وضعفه السيوطي في الجامع الصغير ( 2273 ) .
[7] السنة بياناً للقرآن ص 41-46 بتصرف .
[8] المدخل إلى السنة النبوية ص 21 .
لقد ذكرت السنة في القرآن الكريم كثيراً .
1. فذكرت بلفظ الحكمة كما في :
قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام في دعائه لهذه الأمة : " ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة و يزكيهم .." { البقرة /129 } وقوله تعالى : " كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة .." { البقرة / 151 } وقوله تعالى : " لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب و الحكمة " { آل عمران / 164 }
وقوله تعالى : " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة " { النساء / 113 }
وقوله تعالى : " واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة " { الأحزاب / 34 }
وقوله تعالى : " هو الذي بعث في ألأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم
الكتاب و الحكمة " { الجمعة / 2 }
قال الحسن وقتادة : الكتاب : هو القرآن ، و الحكمة هي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)
وقال الإمام الشافعي رحمة الله تعالى : " ذكر الله الكتاب ، وهو القرآن ، وذكر الحكمة فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول : الحكمة : سنه رسول الله ، وهذا يشبه ما قال ، والله أعلم ، لأن القرآن ذكر واتبعته الحكمة ، وذكر الله مَنّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة ، فلم يجز – والله أعلم – أن يقال الحكمة ههنا إلا سنه رسول الله ، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله ، وأن الله افترض طاعة رسوله وحتم على الناس اتباع أمره ، فلا يجوز أن يقال لقول فرض إلا لكتاب الله ثم سنه رسوله ، لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقروناً بالإيمان به ، وسنه رسول الله مبينة عن الله معنى ما
أراد : دليلاً على خاصه وعامه،ثم قرن الحكمة بها بكتابه فأتبعها إياه ،ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله " (2)
وقال الطبري – رحمة الله - : " ويعلمهم الكتاب والحكمة " يعنى : ويعلمهم كتاب الله الذي أنزل عليه ، ويبين لهم تأويله و معانيه " الحكمة " ويعنى بالحكمة : السنة التي سنها الله جل ثناؤه للمؤمنين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانه لهم .(3)
وقال الطبري – أيضاً – بعد أن ذكر آراء الأئمة في تفسير الحكمة – و الصواب من القول عندنا في الحكمة أنها العلم بأحكام الله تعالى لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم والمعرفة بها ، وما دل عليه ذلك من نظائره .(4)
وإذا سلمنا بهذه الحقيقة ، وهي أن بيان القرآن الكريم هو الحكمة التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقرنت بالكتاب ، وأن هذه الحكمة ليست شيئاً سوى سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن هذا التسليم يطرح تساؤلات :
من بينها : أن القرآن لم يستخدم لفظ " السنة " تعبيراً عن " بيان القرآن " وإنما استخدم لفظ " الحكمة " فما سبب هذا العدول ؟
ثم : إذا كان لفظ " الحكمة " هو ما آثره القرآن ، فلم عدل عنه النبي ، وصحابته ، وعلماء الأمة من بعده ، واستبدلوا به لفظ " السنة " ؟
يقول الدكتور الخولي : " وفي تقديرنا : أن بداية هذا التفسير كامنة في الفرق بين طبيعة كلٍ من " الكتاب " و " السنة " رغم وحده مصدرهما ، وهو " الوحي " كلاهما وحي من الله – تعالى – بشهادة القرآن نفسه .. و السنة من بعده .
أما شهادة القرآن فتطالعنا بينة قاطعة في قوله تعالى : " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " { النجم / 4،3 }
فما ينطقه رسول الله شامل لما يتلوه على الناس ، من قرآن ، وما يقوله لهم من حديث . كلاهما وحي إذا .
وبناء على ما قررنا : من أن الحكمة هي " سنه " رسول الله .. و أنها ليست سواها ، فقد أصبحت الآية الكريمة : " و أنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً " { النساء / 113 } . دليلاً ثانياً قاطعاً ، على أن السنة وحي ، أنزلها الله على رسوله – كما أنزل الكتاب .
و دليل ثالث : " ثم إن علينا بيانه " { القيامة / 19 } إنه وعد قاطع بأن بيان القرآن ، سوف يتولاه الله ، كما تولى " جمعه وقرآنه " على حد سواء ، ولا معنى لهذا سوى : أن يوحي إليه هذا البيان ، بصورة من صور الإيحاء .
السنة إذا وحي بشهادة القرآن البينة ، و هي وحي بشهادتها كذلك : " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه " (5)
وهو لم يؤت شيئاً غير القرآن – سوى السنة ،ـ والسنة ليست مثل القرآن في شيء إلا في كونها وحياً مثله .
ومهما حاولنا أن نجد معنى لكونها مثل القرآن غير كونها وحياً مثله ، فقد حاولنا محالاً . فمن البين أنها ليست مثل القرآن كماً ، وليست مثل القرآن كيفاً .. و لا يتحدى بها كما يتحدى بالقرآن ...
إن بين القرآن و السنة شبهاً محدداً ، ينحصر في أن كليهما وحي من عند الله تعالى ، وبينهما فرق : أن القرآن " وحي " بلفظه ومعناه ، أما السنة فهي " وحي " بمعناها دون لفظها .
ونحن نجد هذا الفرق على نحو قاطع ، حين نتأمل ما أحيطت به رواية " السنة " بالقياس إلى ما أحيط به تبليغ " القرآن " .
لقد تكفل ربنا بحفظ القرآن ، وحماه أن يناله تغيير أو تحريف .." إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " {الحجر / 9}
ولكنه وكل إلينا حفظ " السنة " ..فتطرق إليها شيء من مما لا سبيل للبشر إلى توقيه ، وأبسطه هذا الاختلاف في رواية الحديث الواحد ، بطرق شتى ، كلها موثوق صحيح ، إذ هذا قاطع بأن تصرفا حدث في الرواية ، وهو سبب هذا الاختلاف ، وإذا كان هناك خلاف حول جواز رواية الحديث بالمعنى ، فهناك إجماع على عدم جواز قراءة القرآن بالمعنى البتة .
ذلك أن لفظ القرآن متعبد به ، ولا كذالك لفظ الحديث النبوي ، والقرآن هو المعجزة وبه التحدي ، ولا كذالك السنة .
هذه الفروق وراء المفارقة البادية ، في إيثار القرآن لفظ " الحكمة " وعدول النبي صلى الله عليه وسلم عنه إلى لفظ " السنة " .
وإذا سلم لنا هذا الفرق الجوهري : أن " القرآن " وحي : لفظه ومعناه ، وأن " السنة " وحي بمعناها دون لفظها ، فقد انفتح لنا الباب لإسقاط الإشكال من أساسه .
وهنا نجتهد آملين في الله أن نكون على صواب : أن " الحكمة " هي : المعاني التي تضمنتها أحاديث رسول الله ، أوحاها الله إليه ، وكساها – صلوات الله عليه – ألفاظا من عنده .
أما " السنة " : فهي هذه المعاني الموحى بها ، بعد أن اكتست العبارة التي تحملها ، وإذا فمفهوم
" السنة " غير مفهوم " الحكمة " .
" الحكمة " هي " المعاني " وحدها .. و " السنة " هي المعاني بألفاظها ، وبالتالي لا عدول من جانب النبي – صلى الله عليه وسلم – عن نهج القرآن ، أو تسميته ، و لا مفارقه هناك ؟!
مفهوم " الحكمة " مختلف عن مفهوم " السنة " .....
" السنة " معنى : هي الحكمة .. وهي بهذا المفهوم وحي من عند الله . و " السنة " معنى ولفظاً : هي حديث رسول الله ، وما في معناه ، من فعل أو تقرير .
و الدليل على أن معنى " السنة " وحي من عند الله ، أن لفظها المعبر عن المعنى هو لرسول الله
*– صلى الله عليه وسلم – الدليل على هذا قول النبي – صلى الله عليه وسلم - : " إن الروح الأمين قد ألقي في رُوعي : أنه لن تموت نفس ، حتى تستوفي رزقها ، فأجملوا في الطلب " و في رواية : " إن روح القدس نفث في روعي ... " (6)
" نفث في روعي " لا معنى لها هنا إلا الإلهام ، والإلقاء في النفس ، وما يلقى في الروع لا يكون إلا من باب المعاني .
لأن ما يلقى بلفظه ومعناه يلقى في الروع و في السمع في آن واحد ، كالحديث القدسي ، و القرآن العظيم .
وإذا فما نسمعه ونقرؤه من هذا الحديث ، ليس ما ألقي في " روع " رسول الله وقلبه .
لقد ألقى إليه المعنى ، فعبر عنه ، وإذا فهذه المعاني الإلهية الموحى بها ، قد وصلتنا من خلال عبارة رسول الله .
وعبارة رسول الله صاغها على طريقته ، وبأسلوبه الخاص ، وهي طريقة في البيان تختلف لا محالة ، عن طريق البيان الإلهي في القرآن .
و السنة لغة : الطريقة ، فهل نبعد إذا قلنا : سنة رسول الله : هي طريقته في تبليغ ما أوحى إليه من بيان القرآن – المعاني التي ألهمها – بلفظه وأسلوبه : " حديثاً " أو بفعله : " عملاً " أو بتقريره : " إجازة " وهما في دلالتهما كاللفظ ؟!
ترى : هل يمكن الآن اقتراح وضع لفظ " الحكمة " بدل لفظ " السنة " أو العكس ؟!
لقد استقر كل لفظ في موضعه ، لا ينازعه الآخر فيه .. لأن أياً منهما لا يصلح بديلاً من
صاحبه (7) ؟!
2. وذكرت السنة في القرآن الكريم بأساليب أخرى ، منها :
الأمر بطاعته صلى الله عليه وسلم ، كقوله تعالى : " يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول و أولى الأمر منكم " { النساء / 59 }
ومنها : قبول أمره ونهيه صلى الله عليه وسلم ، كما في قوله تعالى : " و ما أتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا " { الحشر / 7 }
ومنها : القبول والتسليم لقضائه صلى الله عليه وسلم ، كما في قوله تعالى : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت و يسلموا تسليماً "{ النساء/65 }
ومنها : التحذير من مخالفته صلى الله عليه وسلم ، كما في قوله تعالى : " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنه أو يصبهم عذاب أليم " { النور / 63 }
ومنها : وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم ، كما في قوله تعالى : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم " { آل عمران / 31 } . وقوله سبحانه : " و اتبعوه لعلكم تهتدون "
{ الأعراف / 158 }
فهذه النصوص وما في موضوعها تلزم الأمة بهدية صلى الله عليه وسلم ، و تبين أن ما جاء به فعلى الأمة أن تقبله وأن تعمل به ، وهذا هو الذي نسميه " سنته " صلى الله عليه وسلم .(8)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر : الفقيه و المتفقه 1/88 بتصرف .
[2] الرسالة ص 79،78
[3] تفسير الطبري 4/163
[4] تفسير الطبري 1/557
[5] أخرجه أبو داود ، كتاب السنة ، باب لزوم السنة ، رقم ( 4604 ) ، و الترمذي ، كتاب العلم ، باب ما نهى عنه أن يقال عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم رقم ( 2663 ) ، وقال : حديث حسن غريب من هذا الوجه . و أخرجه غيرهما و صححه ابن حبان و غيره .
[6] أخرجه الشافعي في الرسالة ص 53 رقم (306) عن المطلب ، و الحاكم في المستدرك ، كتاب البيوع (2/4) عن ابن مسعود ، أخرجه شاهداً ( لحديث جابر الذي ساقه أصلاً ثم شاهدا لهذا الأصل ، و أخرجه أبو تعيم في الحلية ( 10/27،26 ) عن أبي أمامه ، و أخرجه الخطيب في الفقيه و المتفقه ص 92،93 ، وضعفه السيوطي في الجامع الصغير ( 2273 ) .
[7] السنة بياناً للقرآن ص 41-46 بتصرف .
[8] المدخل إلى السنة النبوية ص 21 .