بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
حقيقة (لا إله إلا الله)
للشيخ : صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وكل من اتبعه وتمسك بسنته إلى يوم الدين . أما بعد :
فإن الله سبحانه وتعالى أمرنا بذكره وأثنى على الذاكرين ، ووعدهم أجرا عظيما ، فأمر بذكره مطلقا ، وبعد الفراغ من العبادات .
قال تعالى : ( فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ) ، وقال ( فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ) ، وأمر بذكره أثناء أداء مناسك الحج خاصة فقال تعالى : ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) وقال تعالى : ( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ) ، وقال تعالى : ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله ) .
وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ) ( وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ) ، ولما كان أفضل الذكر : لا إله إلا الله وحده لا شريك له- كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( خير الدعاء دعاء عرفة ، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ) ، ولما كانت هذه الكلمة العظيمة لا إله إلا الله لها هذه المنزلة العالية من بين أنواع الذكر ، ويتعلق بها أحكام ، ولها شروط ، ولها معنى ومقتضى ، فليست كلمة تقال باللسان فقط ، لما كان الأمر كذلك آثرت أن تكون موضوع حديثي في هذه الكلمة المختصرة ، راجيا من الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أهلها المستمسكين بها والعارفين لمعناها ، العاملين بمقتضاها ظاهرا وباطنا .
وسيكون حديثي عن هذه الكلمة في حدود النقاط التالية :
مكانة لا إله إلا الله في الحياة ، وفضلها ، وإعرابها ، وأركانها وشروطها ومعناها ، ومقتضاها ، ومتى ينفع الإنسان التلفظ بهذه الكلمة ، ومتى لا ينفعه ذلك . . فأقول مستعينا بالله تعالى : -
1 - أما مكانة هذه الكلمة : فإنها كلمة يعلنها المسلمون في أذانهم وإقامتهم وفي خطبهم ومحادثاتهم ، وهي كلمة قامت بها الأرض والسماوات ، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات ، وبها أرسل الله رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه ، ولأجلها نصبت الموازين ووضعت الدواوين وقام سوق الجنة والنار ، وبها انقسمت الخليقة إلى مؤمنين وكفار ، فهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب ، وهي الحق الذي خلقت له الخليقة ، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب ، وعليها يقع الثواب والعقاب ، وعليها نصبت القبلة ، وعليها أسست الملة ، ولأجلها جردت سيوف الجهاد ، وهي حق الله على جميع العباد ، فهي كلمة الإسلام ، ومفتاح دار السلام ، وعنها يسأل الأولون والآخرون . . فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين : (ماذا كنتم تعبدون ، وماذا أجبتم المرسلين) ، وجواب الأولى بتحقيق لا إله إلا الله معرفة وإقرارا وعملا ، وجواب الثانية بتحقيق أن محمدا رسول الله معرفة وانقيادا وطاعة
هذه الكلمة هي الفارقة بين الكفر والإسلام ، وهي كلمة التقوى والعروة الوثقى ، وهي التي جعلها إبراهيم ( كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ، وهي التي شهد الله بها لنفسه وشهد بها ملائكته وأولو العلم من خلقه ، قال تعالى : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .
وهي كلمة الإخلاص وشهادة الحق ، ودعوة الحق ، وبراءة من الشرك ، ولأجلها خلق الخلق كما قال تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) ، ولأجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب ، كما قال : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) ، وقال تعالى : ( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ) .
قال ابن عينية : ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أعظم من أن عرفهم لا إله إلا الله .
وإن لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا ، فمن قالها عصم ماله ودمه ، ومن أباها فماله ودمه هدر ، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قال : لا إله إلا الله ، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله ) .
وهي أول ما يطلب من الكفار عندما يدعون إلى الإسلام ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ( لما بعث معاذا إلى اليمن قال له : إنك تأتي قوما من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ) الحديث أخرجاه في الصحيحين ، وبهذا تعلم مكانتها في الدين وأهميتها في الحياة ، وأنها أول واجب على العباد لأنها الأساس الذي تبنى عليه جميع الأعمال .
2 - وأما فضل هذه الكلمة : فلها فضائل عظيمة ولها من الله مكان ، من قالها صادقا أدخله الله الجنة ، ومن قالها كاذبا حقنت دمه وأحرزت ماله وحسابه على الله عز وجل ، وهي كلمة وجيزة اللفظ قليلة الحروف خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان ، فقد روى ابن حبان والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( قال موسى : يا رب ، علمني شيئا أذكرك وأدعوك به . قال : يا موسى ، قل : لا إله إلا الله . قال : كل عبادك يقولون هذا . قال : يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله ) ، فالحديث يدل على أن لا إله إلا الله هي أفضل الذكر ، وفى حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا : ( خير الدعاء دعاء يوم عرفة ، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) ، رواه- أحمد والترمذي .
ومما يدل على ثقلها في الميزان أيضا ما رواه الترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ، عن عبد الله بن عمرو : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر ، ثم يقال : أتنكر من هذا شيئا ؟ فيقول : لا يا رب ، فيقال : ألك عذر أو حسنة ؟ فيهاب الرجل فيقول : لا . فيقال : بلى إن لك عندنا حسنة ، وإنه لا ظلم عليك . فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فيقول : يا رب ، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : إنك لا تظلم . فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ) .
ولهذه الكلمة العظيمة فضائل كثيرة ذكر جملة منها الحافظ ابن رجب في رسالته المسماة ( كلمة الإخلاص ) واستدل لكل فضيلة ، ومنها : أنها ثمن الجنة ، ومن كانت آخر كلامه دخل الجنة ، وهي نجاة من النار ، وهي توجب المغفرة ، وهي أحسن الحسنات ، وهي تمحو الذنوب ، وهي تخرق الحجب حتى تصل إلى الله عز وجل ، وهي الكلمة التي يصدق الله قائلها ، وهي أفضل ما قاله النبيون ، وهي أفضل الذكر ، وهي أفضل الأعمال وأكثرها تضعيفا ، وتعدل عتق الرقاب ، وتكون حرزا من الشيطان ، وهي أمان من وحشة القبر وهول الحشر ، وهي شعار المؤمنين إذا قاموا من قبورهم ، ومن فضائلها أنها تفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ، ومن فضائلها أن أهلها وإن دخلوا النار بتقصيرهم في حقوقها فإنهم لا بد أن يخرجوا منها ، هذه عناوين الفضائل التي ذكرها ابن رجب في رسالته واستدل لكل واحد منها كلمة .
3 - إعرابها وأركانها وشروطها :
إذا كان فهم المعنى يتوقف على معرفة إعراب الجمل- فإن العلماء رحمهم الله قد اهتموا بإعراب لا إله إلا الله - فقالوا إن (لا) نافية للجنس و(إله) اسمها مبني معها على الفتح ، وخبرها محذوف تقديره (حق) ، أي لا إله حق ، وإلا الله استثناء من الخبر المرفوع ، و(الإله) معناه : المألوه بالعبادة- وهو الذي تألهه القلوب وتقصده رغبة إليه في حصول نفع أو دفع ضرر .
وأما أركان لا إله إلا الله : -
فلها ركنان :
الركن الأول : النفي ، والركن الثاني : الإثبات .
والمراد بالنفي نفي الإلهية عما سوى الله تعالى من سائر المخلوقات .
والمراد بالإثبات إثبات الإلهية لله سبحانه ، فهو الإله الحق- وما سواه من الآلهة التي اتخذها المشركون فكلها باطلة ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ) .
قال الإمام ابن القيم : فدلالة لا إله إلا الله على إثبات إلهيته أعظم من دلالة قوله :
الله إله- وهذا لأن قول : (الله إله) لا ينفي إلهية ما سواه ، بخلاف قول لا إله إلا الله فإنه يقتضي حصر الألوهية ونفيها عما سواه ، وقد غلط غلطا فاحشا من فسر الإله بأنه القادر على الاختراع .
قال الشيخ سليمان بن عبد الله في شرح كتاب التوحيد : فإن قيل قد تبين معنى الإله والإلهية فما الجواب عن قول من قال بأن معنى الإله القادر على الاختراع ونحو هذه العبارة؟ قيل : الجواب من وجهين ، أحدهما : أن هذا قول مبتدع لا يعرف أحد قاله من العلماء ولا من أئمة اللغة وكلام العلماء وأئمة اللغة هو معنى ما ذكرنا كما تقدم فيكون هذا القول باطلا . الثاني : على تقدير تسليمه فهو تفسير باللازم للإله الحق ، فإن اللازم أن يكون خالقا قادرا على الاختراع ، ومتى لم يكن كذلك فليس بإله حق وإن سمي إلها ، وليس مراده أن من عرف أن الإله هو القادر على الاختراع فقد دخل في الإسلام وأتى بتحقيق المرام من مفتاح دار السلام فإن هذا لا يقوله أحد ، لأنه يستلزم أن يكون كفار العرب مسلمين ولو قدر أن بعض المتأخرين أراد ذلك فهو مخطئ يرد عليه بالدلائل السمعية والعقلية
وأما شروط لا إله إلا الله : -
فإنها لا تنفع قائلها- إلا بسبعة شروط : -
الأول : العلم بمعناها نفيا وإثباتا .
الثاني : اليقين ، وهو كمال العلم بها المنافي للشك والريب .
الثالث : الإخلاص المنافي للشرك .
الرابع : الصدق المانع من النفاق .
الخامس : المحبة لهذه الكلمة ولما دلت عليه والسرور بذلك .
السادس : الانقياد بأداء حقوقها وهي الأعمال الواجبة إخلاصا لله وطلبا لمرضاته .
السابع : القبول المنافي وهذه الشروط قد استنبطها العلماء من نصوص الكتاب والسنة التي جاءت بخصوص هذه الكلمة العظيمة وبيان حقوقها وقيودها .
4 - معنى هذه الكلمة ومقتضاها :
معنى لا إله إلا الله : لا معبود بحق إلا إله واحد ، وهو الله وحده لا شريك له ، فتضمنت هذه الكلمة العظيمة أن ما سوى الله من سائر المعبودات ليس بإله حق وأنه باطل .
ولهذا كثيرا ما يرد الأمر بعبادة الله مقرونا بنفي عبادة ما سواه ؛ لأن عبادة الله لا تصح مع إشراك غيره معه قال تعالى : ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ) وقال تعالى : ( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) وقال تعالى : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه ) الحديث .
وكان كل رسول يقول لقومه : ( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) إلى غير ذلك من الأدلة ، قال الإمام ابن رجب رحمه الله : وتحقيق هذا المعنى وإيضاحه أن قول العبد : لا إله إلا الله ، يقتضي أن لا إله له غير الله ، والإله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالا ، ومحبة وخوفا ورجاء وتوكلا عليه وسؤالا منه ودعاء له ، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل .
ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش : قولوا : لا إله إلا الله قالوا : ( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) ففهموا من هذه الكلمة أنها تبطل عبادة الأصنام كلها وتحصر العبادة لله وحده ، وهم لا يريدون ذلك ، فتبين بهذا المعنى أن معنى لا إله إلا الله ومقتضاها إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه ، فإذا قال العبد : لا إله إلا الله ، فقد أعلن وجوب إفراد الله بالعبادة وبطلان عبادة ما سواه من الأصنام والقبور والأولياء والصالحين ، وبهذا يبطل ما يعتقده عباد القبور اليوم وأشباههم من أن معنى لا إله إلا الله هو الإقرار بأن الله موجود ، أو أنه هو الخالق القادر على الاختراع ، وأشباه ذلك ، أو أن معناها لا حاكمية إلا لله ويظنون أن من اعتقد ذلك وفسر به لا إله إلا الله فقد حقق التوحيد المطلق ولو فعل ما فعل من عبادة غير الله والاعتقاد بالأموات والتقرب إليهم بالذبائح والنذور والطواف بقبورهم والتبرك بتربتهم ، وما شعر هؤلاء أن كفار العرب الأولين يشاركونهم في هذا الاعتقاد ، ويعرفون أن الله هو الخالق القادر على الاختراع ، ويقرون بذلك ، وأنهم ما عبدوا غيره إلا لزعمهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى ، لا أنهم يخلقون ويرزقون .
ولو كان معنى لا إلى إلا الله ما زعمه هؤلاء لم يكن بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين نزاع ، بل كانوا يبادرون إلى إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذا قال لهم بزعم : هؤلاء أقروا بأن الله هو القادر على الاختراع ، لكن القوم وهم أهل اللسان العربي فهموا أنهم إذا قالوا : إلا إله إلا الله ، فقد أقروا ببطلان عبادة الأصنام ، وأن هذه الكلمة ليست مجرد لفظ لا معنى له ، ولهذا نفروا منها وقالوا : ( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) كما قال الله عنهم : ( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) ( وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ) فعرفوا أن لا إله إلا الله تقتضي ترك عبادة ما سوى الله وإفراد الله بالعبادة ، وأنهم لو قالوها واستمروا على عبادة الأصنام لتناقضوا مع أنفسهم ، وعباد القبور اليوم لا يأنفون من هذا التناقض الشنيع ، فهم يقولون : لا إله إلا الله ، ثم ينقضونها بعبادة الأموات والتقرب إلى الأضرحة بأنواع من العبادات ، فتبا لمن كان أبو جهل وأبو لهب أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله . والحاصل أن من قال هذه الكلمة عارفا لمعناها عاملا بمقتضاها ظاهرا وباطنا من نفي الشرك وإثبات العبادة لله مع الاعتقاد الجازم لما تضمنته والعمل به ، فهو المسلم حقا ، ومن قالها وعمل بها بمقتضاها ظاهرا من غير اعتقاد لما دلت عليه فهو المنافق ، ومن قالها بلسانه وعمل بخلافها من الشرك المنافي لها فهو الكافر ولو قالها آلاف المرات ؛ لأن عمله يبطل نطقه بها ، فلا بد من النطق بهذه الكلمة من معرفة معناها ؛ لأن ذلك وسيلة للعمل بمقتضاها ، قال تعالى : ( إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) والعمل بمقتضاها وهو ترك عبادة ما سوى الله ، وعبادة الله وحده هو الغاية من هذه الكلمة .
5 - متى ينفع الإنسان قول لا إله إلا الله ؟
سبق أن قلنا أن قول لا إله إلا الله لا بد أن يكون مصحوبا بمعرفة معناها والعمل بمقتضاها ، ولكن لما كان هناك نصوص قد يتوهم منها أن مجرد التلفظ بها يكفي وقد تعلق بهذا الوهم بعض الناس ، فاقتضى الأمر إيضاح ذلك لإزالة هذا الوهم عمن يريد الحق ، قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله على حديث عتبان . . الذي فيه : ( فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ) قال : اعلم أنه قد وردت أحاديث ظاهرها أنه من أتى بالشهادتين حرم على النار كهذا الحديث وحديث أنس قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل ، فقال : يا معاذ . قال : لبيك رسول الله وسعديك . قال : ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا حرمه الله على النار ) ، ولمسلم عن عبادة مرفوعا ( ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله حرمه الله على النار ) ، ووردت أحاديث فيها أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة ، وليس فيها أن يحرم على النار ، منها حديث عبادة الذي تقدم قريبا وحديث أبي هريرة ( أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ) الحديث وفيه : ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة ) رواه مسلم
قال : وأحسن ما قيل في معناه ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره : إن هذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها - كما جاءت مقيدة - وقالها خالصا من قلبه مستيقنا بها قلبه غير شاك فيها ، بصدق ويقين ، فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله جملة ، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة ؛ لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحا ، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك ، فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة وما يزن خردلة وما يزن ذرة . وتواترت بأن كثيرا ممن يقول : لا إله إلا الله ، يدخل النار ثم يخرج منها ، ، وتواترت بأن الله حرم النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم ، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله ، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال : لا إله إلا الله ، ومن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال ، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين ، ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عنها عند الموت فيحال بينه وبينها ، وأكثر من يقولها يقولها تقليدا وعادة ، لم يخالط الإيمان بشاشة قلبه ، وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء كما في الحديث : ( سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ) ، وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم ، وهم أقرب الناس من قوله تعالى : ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) ، وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث ، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرا على ذنب أصلا ، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء ، فإذا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله ولا كراهية لما أمر الله ، وهذا هو الذي يحرم على النار ، وإن كانت له ذنوب قبل ذلك ، فإن هذا الإيمان وهذه التوبة وهذا الإخلاص وهذه المحبة وهذا اليقين لا تترك له ذنبا إلا يمحى كما يمحى الليل بالنهار . انتهى كلامه رحمه الله .
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كشف الشبهات : - ولهم مشبهة أخرى ، يقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال : لا إله إلا الله . وقال : ( أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله ) ، وأحاديث أخرى في الكف عمن قالها ، ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل ، فيقال لهؤلاء الجهال معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون : لا إله إلا الله ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويصلون ويدعون الإسلام ، وكذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب ، وهؤلاء الجهلة مقرون أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال : لا إله إلا الله ، وأن من جحد شيئا من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها ، فكيف لا تنفعه إذا جحد شيئا من الفروع وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل ورأسه ، ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث .
وقال رحمه الله : فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلا ادعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعاه إلا خوفا على دمه وماله ، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك ، وأنزل الله في ذلك : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ) أي (فتثبتوا) فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت فإن تبين بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل ؛ لقوله : فتبينوا ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى ، وكذلك الحديث الآخر وأمثاله معناه ما ذكرناه من أن من أظهر الإسلام والتوحيد وجب الكف عنه إلا إن تبين منه ما يناقض ذلك .
والدليل على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال : ( أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله ) وقال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) هو الذي قال في الخوارج : ( أينما لقيتموهم فاقتلوهم ، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) مع كونهم من أكثر الناس تهليلا حتى إن الصحابة يحقرون أنفسهم عندهم ، وهم تعلموا العلم من الصحابة ، فلم تنفعهم لا إله إلا الله ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة ، وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة بني حنيفة .
وقال الحافظ ابن رجب في رسالته المسماة : (كلمة الإخلاص) على قوله صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ) قال : ففهم عمر وجماعة من الصحابة أن من أتى بالشهادتين امتنع من عقوبة الدنيا لمجرد ذلك ، فتوقفوا في قتال مانعي الزكاة ، وفهم الصديق أنه لا يمتنع قتاله إلا بأداء حقوقها لقوله صلى الله عليه وسلم : ( فإذا فعلوا ذلك منعوا مني دمائها إلا بحقها وحسابهم على الله ) ، وقال : ( الزكاة حق المال ) ، وهذا الذي فهمه الصديق قد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحا غير واحد من الصحابة منهم ابن عمر وأنس وغيرهما وأنه قال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ) ، وقد دل على ذلك قوله تعالى : ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) كما دل قوله تعالى : ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) على أن الأخوة في الدين لا تثبت إلا بأداء الفرائض مع التوحيد ، فإن التوبة من الشرك لا تحصل إلا بالتوحيد ، فلما قرر أبو بكر هذا للصحابة رجعوا إلى قوله ورأوه صوابا ، فإذا علم أن عقوبة الدنيا لا ترتفع عمن أدى الشهادتين مطلقا ، بل يعاقب بإخلاله بحق من حقوق الإسلام ، فكذلك عقوبة الآخرة .
وقال أيضا : وقالت طائفة من العلماء المراد من هذه الأحاديث أن التلفظ بلا إله إلا الله سبب لدخول الجنة والنجاة من النار ومقتضى لذلك ، ولكن المقتضى لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه ، فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه أو لوجود مانع ، وهذا قول الحسن ووهب بن منبه وهو الأظهر . ثم ذكر عن الحسن البصري أنه قال للفرزدق وهو يدفن امراته : ما أعددت لهذا اليوم ؟ قال : شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة . قال الحسن : نعم العدة ، لكن للا إله إلا الله شروط ، فإياك وقذف المحصنات . وقيل للحسن : إن أناسا يقولون : من قال : لا إله إلا الله ، دخل الجنة . فقال : من قال : لا إله إلا الله ، فأدى حقها وفرضها دخل الجنة . وقال وهب بن منبه لمن سأله : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ قال : بلى ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان ، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك . .
وأظن أن في هذا القدر الذي نقلته من كلام أهل العلم كفاية في رد هذه الشبهة التي تعلق بها من ظن أن من قال : لا إله إلا الله ، لا يكفر ولو فعل ما فعل من أنواع الشرك الأكبر التي تمارس اليوم عند الأضرحة وقبور الصالحين مما يناقض كلمة لا إله إلا الله تمام المناقضة ويضادها تمام المضادة ، وهذه طريقة أهل الزيغ الذين يأخذون من النصوص ما يظنون أنه حجة لهم من النصوص المجملة ، ويتركون ما تبينه وتوضحه النصوص المفصلة كحال الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض وقد قال الله في هذا النوع من الناس :( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) ( رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) .
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه . .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين . . والحمد لله رب العالمين .
المصدر
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
حقيقة (لا إله إلا الله)
للشيخ : صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وكل من اتبعه وتمسك بسنته إلى يوم الدين . أما بعد :
فإن الله سبحانه وتعالى أمرنا بذكره وأثنى على الذاكرين ، ووعدهم أجرا عظيما ، فأمر بذكره مطلقا ، وبعد الفراغ من العبادات .
قال تعالى : ( فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ) ، وقال ( فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ) ، وأمر بذكره أثناء أداء مناسك الحج خاصة فقال تعالى : ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) وقال تعالى : ( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ) ، وقال تعالى : ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله ) .
وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ) ( وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ) ، ولما كان أفضل الذكر : لا إله إلا الله وحده لا شريك له- كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( خير الدعاء دعاء عرفة ، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ) ، ولما كانت هذه الكلمة العظيمة لا إله إلا الله لها هذه المنزلة العالية من بين أنواع الذكر ، ويتعلق بها أحكام ، ولها شروط ، ولها معنى ومقتضى ، فليست كلمة تقال باللسان فقط ، لما كان الأمر كذلك آثرت أن تكون موضوع حديثي في هذه الكلمة المختصرة ، راجيا من الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أهلها المستمسكين بها والعارفين لمعناها ، العاملين بمقتضاها ظاهرا وباطنا .
وسيكون حديثي عن هذه الكلمة في حدود النقاط التالية :
مكانة لا إله إلا الله في الحياة ، وفضلها ، وإعرابها ، وأركانها وشروطها ومعناها ، ومقتضاها ، ومتى ينفع الإنسان التلفظ بهذه الكلمة ، ومتى لا ينفعه ذلك . . فأقول مستعينا بالله تعالى : -
1 - أما مكانة هذه الكلمة : فإنها كلمة يعلنها المسلمون في أذانهم وإقامتهم وفي خطبهم ومحادثاتهم ، وهي كلمة قامت بها الأرض والسماوات ، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات ، وبها أرسل الله رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه ، ولأجلها نصبت الموازين ووضعت الدواوين وقام سوق الجنة والنار ، وبها انقسمت الخليقة إلى مؤمنين وكفار ، فهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب ، وهي الحق الذي خلقت له الخليقة ، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب ، وعليها يقع الثواب والعقاب ، وعليها نصبت القبلة ، وعليها أسست الملة ، ولأجلها جردت سيوف الجهاد ، وهي حق الله على جميع العباد ، فهي كلمة الإسلام ، ومفتاح دار السلام ، وعنها يسأل الأولون والآخرون . . فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين : (ماذا كنتم تعبدون ، وماذا أجبتم المرسلين) ، وجواب الأولى بتحقيق لا إله إلا الله معرفة وإقرارا وعملا ، وجواب الثانية بتحقيق أن محمدا رسول الله معرفة وانقيادا وطاعة
هذه الكلمة هي الفارقة بين الكفر والإسلام ، وهي كلمة التقوى والعروة الوثقى ، وهي التي جعلها إبراهيم ( كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ، وهي التي شهد الله بها لنفسه وشهد بها ملائكته وأولو العلم من خلقه ، قال تعالى : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .
وهي كلمة الإخلاص وشهادة الحق ، ودعوة الحق ، وبراءة من الشرك ، ولأجلها خلق الخلق كما قال تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) ، ولأجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب ، كما قال : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) ، وقال تعالى : ( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ) .
قال ابن عينية : ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أعظم من أن عرفهم لا إله إلا الله .
وإن لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا ، فمن قالها عصم ماله ودمه ، ومن أباها فماله ودمه هدر ، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قال : لا إله إلا الله ، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله ) .
وهي أول ما يطلب من الكفار عندما يدعون إلى الإسلام ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ( لما بعث معاذا إلى اليمن قال له : إنك تأتي قوما من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ) الحديث أخرجاه في الصحيحين ، وبهذا تعلم مكانتها في الدين وأهميتها في الحياة ، وأنها أول واجب على العباد لأنها الأساس الذي تبنى عليه جميع الأعمال .
2 - وأما فضل هذه الكلمة : فلها فضائل عظيمة ولها من الله مكان ، من قالها صادقا أدخله الله الجنة ، ومن قالها كاذبا حقنت دمه وأحرزت ماله وحسابه على الله عز وجل ، وهي كلمة وجيزة اللفظ قليلة الحروف خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان ، فقد روى ابن حبان والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( قال موسى : يا رب ، علمني شيئا أذكرك وأدعوك به . قال : يا موسى ، قل : لا إله إلا الله . قال : كل عبادك يقولون هذا . قال : يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله ) ، فالحديث يدل على أن لا إله إلا الله هي أفضل الذكر ، وفى حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا : ( خير الدعاء دعاء يوم عرفة ، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) ، رواه- أحمد والترمذي .
ومما يدل على ثقلها في الميزان أيضا ما رواه الترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ، عن عبد الله بن عمرو : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر ، ثم يقال : أتنكر من هذا شيئا ؟ فيقول : لا يا رب ، فيقال : ألك عذر أو حسنة ؟ فيهاب الرجل فيقول : لا . فيقال : بلى إن لك عندنا حسنة ، وإنه لا ظلم عليك . فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فيقول : يا رب ، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : إنك لا تظلم . فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ) .
ولهذه الكلمة العظيمة فضائل كثيرة ذكر جملة منها الحافظ ابن رجب في رسالته المسماة ( كلمة الإخلاص ) واستدل لكل فضيلة ، ومنها : أنها ثمن الجنة ، ومن كانت آخر كلامه دخل الجنة ، وهي نجاة من النار ، وهي توجب المغفرة ، وهي أحسن الحسنات ، وهي تمحو الذنوب ، وهي تخرق الحجب حتى تصل إلى الله عز وجل ، وهي الكلمة التي يصدق الله قائلها ، وهي أفضل ما قاله النبيون ، وهي أفضل الذكر ، وهي أفضل الأعمال وأكثرها تضعيفا ، وتعدل عتق الرقاب ، وتكون حرزا من الشيطان ، وهي أمان من وحشة القبر وهول الحشر ، وهي شعار المؤمنين إذا قاموا من قبورهم ، ومن فضائلها أنها تفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ، ومن فضائلها أن أهلها وإن دخلوا النار بتقصيرهم في حقوقها فإنهم لا بد أن يخرجوا منها ، هذه عناوين الفضائل التي ذكرها ابن رجب في رسالته واستدل لكل واحد منها كلمة .
3 - إعرابها وأركانها وشروطها :
إذا كان فهم المعنى يتوقف على معرفة إعراب الجمل- فإن العلماء رحمهم الله قد اهتموا بإعراب لا إله إلا الله - فقالوا إن (لا) نافية للجنس و(إله) اسمها مبني معها على الفتح ، وخبرها محذوف تقديره (حق) ، أي لا إله حق ، وإلا الله استثناء من الخبر المرفوع ، و(الإله) معناه : المألوه بالعبادة- وهو الذي تألهه القلوب وتقصده رغبة إليه في حصول نفع أو دفع ضرر .
وأما أركان لا إله إلا الله : -
فلها ركنان :
الركن الأول : النفي ، والركن الثاني : الإثبات .
والمراد بالنفي نفي الإلهية عما سوى الله تعالى من سائر المخلوقات .
والمراد بالإثبات إثبات الإلهية لله سبحانه ، فهو الإله الحق- وما سواه من الآلهة التي اتخذها المشركون فكلها باطلة ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ) .
قال الإمام ابن القيم : فدلالة لا إله إلا الله على إثبات إلهيته أعظم من دلالة قوله :
الله إله- وهذا لأن قول : (الله إله) لا ينفي إلهية ما سواه ، بخلاف قول لا إله إلا الله فإنه يقتضي حصر الألوهية ونفيها عما سواه ، وقد غلط غلطا فاحشا من فسر الإله بأنه القادر على الاختراع .
قال الشيخ سليمان بن عبد الله في شرح كتاب التوحيد : فإن قيل قد تبين معنى الإله والإلهية فما الجواب عن قول من قال بأن معنى الإله القادر على الاختراع ونحو هذه العبارة؟ قيل : الجواب من وجهين ، أحدهما : أن هذا قول مبتدع لا يعرف أحد قاله من العلماء ولا من أئمة اللغة وكلام العلماء وأئمة اللغة هو معنى ما ذكرنا كما تقدم فيكون هذا القول باطلا . الثاني : على تقدير تسليمه فهو تفسير باللازم للإله الحق ، فإن اللازم أن يكون خالقا قادرا على الاختراع ، ومتى لم يكن كذلك فليس بإله حق وإن سمي إلها ، وليس مراده أن من عرف أن الإله هو القادر على الاختراع فقد دخل في الإسلام وأتى بتحقيق المرام من مفتاح دار السلام فإن هذا لا يقوله أحد ، لأنه يستلزم أن يكون كفار العرب مسلمين ولو قدر أن بعض المتأخرين أراد ذلك فهو مخطئ يرد عليه بالدلائل السمعية والعقلية
وأما شروط لا إله إلا الله : -
فإنها لا تنفع قائلها- إلا بسبعة شروط : -
الأول : العلم بمعناها نفيا وإثباتا .
الثاني : اليقين ، وهو كمال العلم بها المنافي للشك والريب .
الثالث : الإخلاص المنافي للشرك .
الرابع : الصدق المانع من النفاق .
الخامس : المحبة لهذه الكلمة ولما دلت عليه والسرور بذلك .
السادس : الانقياد بأداء حقوقها وهي الأعمال الواجبة إخلاصا لله وطلبا لمرضاته .
السابع : القبول المنافي وهذه الشروط قد استنبطها العلماء من نصوص الكتاب والسنة التي جاءت بخصوص هذه الكلمة العظيمة وبيان حقوقها وقيودها .
4 - معنى هذه الكلمة ومقتضاها :
معنى لا إله إلا الله : لا معبود بحق إلا إله واحد ، وهو الله وحده لا شريك له ، فتضمنت هذه الكلمة العظيمة أن ما سوى الله من سائر المعبودات ليس بإله حق وأنه باطل .
ولهذا كثيرا ما يرد الأمر بعبادة الله مقرونا بنفي عبادة ما سواه ؛ لأن عبادة الله لا تصح مع إشراك غيره معه قال تعالى : ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ) وقال تعالى : ( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) وقال تعالى : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه ) الحديث .
وكان كل رسول يقول لقومه : ( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) إلى غير ذلك من الأدلة ، قال الإمام ابن رجب رحمه الله : وتحقيق هذا المعنى وإيضاحه أن قول العبد : لا إله إلا الله ، يقتضي أن لا إله له غير الله ، والإله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالا ، ومحبة وخوفا ورجاء وتوكلا عليه وسؤالا منه ودعاء له ، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل .
ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش : قولوا : لا إله إلا الله قالوا : ( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) ففهموا من هذه الكلمة أنها تبطل عبادة الأصنام كلها وتحصر العبادة لله وحده ، وهم لا يريدون ذلك ، فتبين بهذا المعنى أن معنى لا إله إلا الله ومقتضاها إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه ، فإذا قال العبد : لا إله إلا الله ، فقد أعلن وجوب إفراد الله بالعبادة وبطلان عبادة ما سواه من الأصنام والقبور والأولياء والصالحين ، وبهذا يبطل ما يعتقده عباد القبور اليوم وأشباههم من أن معنى لا إله إلا الله هو الإقرار بأن الله موجود ، أو أنه هو الخالق القادر على الاختراع ، وأشباه ذلك ، أو أن معناها لا حاكمية إلا لله ويظنون أن من اعتقد ذلك وفسر به لا إله إلا الله فقد حقق التوحيد المطلق ولو فعل ما فعل من عبادة غير الله والاعتقاد بالأموات والتقرب إليهم بالذبائح والنذور والطواف بقبورهم والتبرك بتربتهم ، وما شعر هؤلاء أن كفار العرب الأولين يشاركونهم في هذا الاعتقاد ، ويعرفون أن الله هو الخالق القادر على الاختراع ، ويقرون بذلك ، وأنهم ما عبدوا غيره إلا لزعمهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى ، لا أنهم يخلقون ويرزقون .
ولو كان معنى لا إلى إلا الله ما زعمه هؤلاء لم يكن بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين نزاع ، بل كانوا يبادرون إلى إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذا قال لهم بزعم : هؤلاء أقروا بأن الله هو القادر على الاختراع ، لكن القوم وهم أهل اللسان العربي فهموا أنهم إذا قالوا : إلا إله إلا الله ، فقد أقروا ببطلان عبادة الأصنام ، وأن هذه الكلمة ليست مجرد لفظ لا معنى له ، ولهذا نفروا منها وقالوا : ( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) كما قال الله عنهم : ( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) ( وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ) فعرفوا أن لا إله إلا الله تقتضي ترك عبادة ما سوى الله وإفراد الله بالعبادة ، وأنهم لو قالوها واستمروا على عبادة الأصنام لتناقضوا مع أنفسهم ، وعباد القبور اليوم لا يأنفون من هذا التناقض الشنيع ، فهم يقولون : لا إله إلا الله ، ثم ينقضونها بعبادة الأموات والتقرب إلى الأضرحة بأنواع من العبادات ، فتبا لمن كان أبو جهل وأبو لهب أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله . والحاصل أن من قال هذه الكلمة عارفا لمعناها عاملا بمقتضاها ظاهرا وباطنا من نفي الشرك وإثبات العبادة لله مع الاعتقاد الجازم لما تضمنته والعمل به ، فهو المسلم حقا ، ومن قالها وعمل بها بمقتضاها ظاهرا من غير اعتقاد لما دلت عليه فهو المنافق ، ومن قالها بلسانه وعمل بخلافها من الشرك المنافي لها فهو الكافر ولو قالها آلاف المرات ؛ لأن عمله يبطل نطقه بها ، فلا بد من النطق بهذه الكلمة من معرفة معناها ؛ لأن ذلك وسيلة للعمل بمقتضاها ، قال تعالى : ( إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) والعمل بمقتضاها وهو ترك عبادة ما سوى الله ، وعبادة الله وحده هو الغاية من هذه الكلمة .
5 - متى ينفع الإنسان قول لا إله إلا الله ؟
سبق أن قلنا أن قول لا إله إلا الله لا بد أن يكون مصحوبا بمعرفة معناها والعمل بمقتضاها ، ولكن لما كان هناك نصوص قد يتوهم منها أن مجرد التلفظ بها يكفي وقد تعلق بهذا الوهم بعض الناس ، فاقتضى الأمر إيضاح ذلك لإزالة هذا الوهم عمن يريد الحق ، قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله على حديث عتبان . . الذي فيه : ( فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ) قال : اعلم أنه قد وردت أحاديث ظاهرها أنه من أتى بالشهادتين حرم على النار كهذا الحديث وحديث أنس قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل ، فقال : يا معاذ . قال : لبيك رسول الله وسعديك . قال : ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا حرمه الله على النار ) ، ولمسلم عن عبادة مرفوعا ( ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله حرمه الله على النار ) ، ووردت أحاديث فيها أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة ، وليس فيها أن يحرم على النار ، منها حديث عبادة الذي تقدم قريبا وحديث أبي هريرة ( أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ) الحديث وفيه : ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة ) رواه مسلم
قال : وأحسن ما قيل في معناه ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره : إن هذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها - كما جاءت مقيدة - وقالها خالصا من قلبه مستيقنا بها قلبه غير شاك فيها ، بصدق ويقين ، فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله جملة ، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة ؛ لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحا ، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك ، فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة وما يزن خردلة وما يزن ذرة . وتواترت بأن كثيرا ممن يقول : لا إله إلا الله ، يدخل النار ثم يخرج منها ، ، وتواترت بأن الله حرم النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم ، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله ، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال : لا إله إلا الله ، ومن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال ، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين ، ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عنها عند الموت فيحال بينه وبينها ، وأكثر من يقولها يقولها تقليدا وعادة ، لم يخالط الإيمان بشاشة قلبه ، وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء كما في الحديث : ( سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ) ، وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم ، وهم أقرب الناس من قوله تعالى : ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) ، وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث ، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرا على ذنب أصلا ، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء ، فإذا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله ولا كراهية لما أمر الله ، وهذا هو الذي يحرم على النار ، وإن كانت له ذنوب قبل ذلك ، فإن هذا الإيمان وهذه التوبة وهذا الإخلاص وهذه المحبة وهذا اليقين لا تترك له ذنبا إلا يمحى كما يمحى الليل بالنهار . انتهى كلامه رحمه الله .
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كشف الشبهات : - ولهم مشبهة أخرى ، يقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال : لا إله إلا الله . وقال : ( أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله ) ، وأحاديث أخرى في الكف عمن قالها ، ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل ، فيقال لهؤلاء الجهال معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون : لا إله إلا الله ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويصلون ويدعون الإسلام ، وكذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب ، وهؤلاء الجهلة مقرون أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال : لا إله إلا الله ، وأن من جحد شيئا من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها ، فكيف لا تنفعه إذا جحد شيئا من الفروع وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل ورأسه ، ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث .
وقال رحمه الله : فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلا ادعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعاه إلا خوفا على دمه وماله ، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك ، وأنزل الله في ذلك : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ) أي (فتثبتوا) فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت فإن تبين بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل ؛ لقوله : فتبينوا ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى ، وكذلك الحديث الآخر وأمثاله معناه ما ذكرناه من أن من أظهر الإسلام والتوحيد وجب الكف عنه إلا إن تبين منه ما يناقض ذلك .
والدليل على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال : ( أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله ) وقال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) هو الذي قال في الخوارج : ( أينما لقيتموهم فاقتلوهم ، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) مع كونهم من أكثر الناس تهليلا حتى إن الصحابة يحقرون أنفسهم عندهم ، وهم تعلموا العلم من الصحابة ، فلم تنفعهم لا إله إلا الله ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة ، وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة بني حنيفة .
وقال الحافظ ابن رجب في رسالته المسماة : (كلمة الإخلاص) على قوله صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ) قال : ففهم عمر وجماعة من الصحابة أن من أتى بالشهادتين امتنع من عقوبة الدنيا لمجرد ذلك ، فتوقفوا في قتال مانعي الزكاة ، وفهم الصديق أنه لا يمتنع قتاله إلا بأداء حقوقها لقوله صلى الله عليه وسلم : ( فإذا فعلوا ذلك منعوا مني دمائها إلا بحقها وحسابهم على الله ) ، وقال : ( الزكاة حق المال ) ، وهذا الذي فهمه الصديق قد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحا غير واحد من الصحابة منهم ابن عمر وأنس وغيرهما وأنه قال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ) ، وقد دل على ذلك قوله تعالى : ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) كما دل قوله تعالى : ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) على أن الأخوة في الدين لا تثبت إلا بأداء الفرائض مع التوحيد ، فإن التوبة من الشرك لا تحصل إلا بالتوحيد ، فلما قرر أبو بكر هذا للصحابة رجعوا إلى قوله ورأوه صوابا ، فإذا علم أن عقوبة الدنيا لا ترتفع عمن أدى الشهادتين مطلقا ، بل يعاقب بإخلاله بحق من حقوق الإسلام ، فكذلك عقوبة الآخرة .
وقال أيضا : وقالت طائفة من العلماء المراد من هذه الأحاديث أن التلفظ بلا إله إلا الله سبب لدخول الجنة والنجاة من النار ومقتضى لذلك ، ولكن المقتضى لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه ، فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه أو لوجود مانع ، وهذا قول الحسن ووهب بن منبه وهو الأظهر . ثم ذكر عن الحسن البصري أنه قال للفرزدق وهو يدفن امراته : ما أعددت لهذا اليوم ؟ قال : شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة . قال الحسن : نعم العدة ، لكن للا إله إلا الله شروط ، فإياك وقذف المحصنات . وقيل للحسن : إن أناسا يقولون : من قال : لا إله إلا الله ، دخل الجنة . فقال : من قال : لا إله إلا الله ، فأدى حقها وفرضها دخل الجنة . وقال وهب بن منبه لمن سأله : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ قال : بلى ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان ، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك . .
وأظن أن في هذا القدر الذي نقلته من كلام أهل العلم كفاية في رد هذه الشبهة التي تعلق بها من ظن أن من قال : لا إله إلا الله ، لا يكفر ولو فعل ما فعل من أنواع الشرك الأكبر التي تمارس اليوم عند الأضرحة وقبور الصالحين مما يناقض كلمة لا إله إلا الله تمام المناقضة ويضادها تمام المضادة ، وهذه طريقة أهل الزيغ الذين يأخذون من النصوص ما يظنون أنه حجة لهم من النصوص المجملة ، ويتركون ما تبينه وتوضحه النصوص المفصلة كحال الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض وقد قال الله في هذا النوع من الناس :( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) ( رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) .
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه . .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين . . والحمد لله رب العالمين .
المصدر
التعديل الأخير: