راعي الطير
¬°•| مشرف سابق|•°¬
- إنضم
- 14 أكتوبر 2007
- المشاركات
- 850
إعداد/ د. محمد عبد العليم الدسوقي
الحلقة الحادية عشرة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وبعد:
من أقوال السلف الدالة على إدراك معاني الصفات مع نفي الكيفية
نعاود الحديث عما ورد عن سلفنا الصالح عليهم رحمات الله ورضوانه مما يفيد أنهم
كانوا يدركون معاني صفات الله، ويقفون على مراد الله منها، ويكلون أمر كيفيتها
إليه تعالى لكون الكيف مما استأثر الله تعالى بعلمه.
ومن عباراتهم الدالة على هذا: ما ورد عن أبي زرعة الرازي وقد سئل عن تفسير قوله
تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]، فغضب وقال: "تفسيره
كما تقرأ: هو على عرشه وعلمه في كل مكان، من قال غير هذا فعليه لعنة الله"(1)
وما جاء عن أبي بكر الآجري قال: "الذي يذهب إليه أهل العلم أن الله سبحانه على
عرشه فوق سماواته، وعلمه محيط بكل شيء، قد أحاط علمه بجميع ما خلق في السماوات
العلى، وبجميع ما في سبع أرضين وما بينهما وما تحت الثرى.. ترفع إليه أعمال
العباد.. فإن قيل: فما معنى قوله: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ
هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ
ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ
يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ [المجادلة: 7] الآية التي يحتجون بها؟ قيل: علمه، والله عز وجل على
عرشه وعلمه محيط بهم وبكل شيء خلقه، كذا فسره أهل العلم، والآية يدل أولها
وآخرها على أنه العلم وهو على عرشه، هذا قول المسلمين"(2).
ويدل عليه أيضاً قول أبي عبيد القاسم بن سلام سالف الذكر حين سئل عن أحاديث
الصفات: "هي عندنا حق لا نشك فيها، ولكن إذا قيل لنا: كيف؟ قلنا: لا نفسر هذا
ولا سمعنا أحداً يفسره"، كذا بما يفيد التفرقة بين ما يجوز تفسيره وما يجب
التوقف عنده.. وكذا قول أحمد نفسه الذي ورد عنه النهي عن التفسير المفضي إلى
تحريف الكلم عن مواضعه: "إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وإن كنا
نعلم تفسيره ومعناه"(3)، وقوله فيما حكاه عنه المروزي قال: "قلت لأبي عبد الله:
إن رجلاً قال: أقول كما قال الله: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا
هُوَ رَابِعُهُمْ.. [المجادلة: 7]، أقول هذا ولا أجاوزه إلى غيره، فقال: هذا
كلام الجهمية، بل علمه معهم، فأوّل الآية بما يدل على أنه علمه"(4)، وقوله فيما
رواه عن مالك: "الله عز وجل في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو منه مكان"(5)،
وقال لمحدث كان عنده حَدّثه بحديث (يضع الرحمن فيها قدمه)، فقال المحدث لغلامه:
إن لهذا تفسيراً، فقال أحمد بن حنبل للأثرم راوي الخبر: انظر إليه! كما تقول
الجهمية سواء!"(6)، وقال عن أتباع جهم: "إنهم تأولوها على غير تأويلها"(7)،
فأوجب- رحمه الله- للصفات تأويلاً وتفسيرًا ومعنى يغاير تأويلاتهم وتفسيراتهم
ومعانيهم.
وعلى مثل هذا تحمل عبارات نفي التفسير، كالتي رواها الحافظ الذهبي في العلو
واللالكائي في أصول السنة عن محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة، وكما في قول
الأئمة: "نؤمن بهذه الأحاديث من غير تفسير، منهم الثوري ومالك وابن عيينة وابن
المبارك"(8) إلى غير ذلك من الأقوال التي يضيق المقام عن حصرها، ويفاد منها عدم
إخراج معناها عن ظاهرها والنهي عن تأويلها بما يخالف قواعد اللغة ومبادئ الشرع
على نحو ما فعلت فرق المعطلة.
يقول الحافظ الذهبي في بيان ذلك وفي توضيح معنى ما جاء في عبارة ابن عيينة
(قراءتها تفسيرها): "يعني أنها بينة واضحة في اللغة لا يبتغى لها مضايق التأويل
والتحريف، وهذا هو مذهب السلف، مع اتفاقهم أيضاً أنها لا تشبه صفات البشر بوجه،
إذ الباري لا مثل له لا في ذاته ولا صفاته"(9)، ويقول ابن القيم: "قال ابن
الماجشون والإمام أحمد وغيرهم من السلف: (إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به
وإن كنا نعلم تفسيره ومعناه)، وقد فسر الإمام أحمد الآيات التي احتج بها
الجهمية من المتشابه وقال: (إنهم تأولوها على غير تأويلها)، وبين معناها وكذلك
الصحابة والتابعون فسروا القرآن وعلموا المراد بآيات الصفات، كما علموا المراد
من آيات الأمر والنهي وإن لم يعلموا الكيفية، كما علموا معاني ما أخبر الله به
في الجنة والنار وإن لم يعلموا حقيقة كنهه وكيفيته، فمن قال من السلف: إن تأويل
المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى بهذا المعنى- الكيفية- فهو حق، وأما من قال:
إن التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد منه لا يعلمه إلا الله تعالى فهو غلط،
والصحابة والتابعون وجمهور الأمة على خلافه"(01).
ومما يدل على ذلك ويفيده "أن الصحابة نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة، ولم يذكر أن أحداً منهم قط امتنع عن
تفسير آية، قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا، عثمان بن
عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي
صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل،
قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل، وكذلك الأئمة"(11)، يقول ابن خزيمة:
"وزعمت الجهمية عليهم لعائن الله أن أهل السنة ومتبعي الآثار- القائلين بكتاب
ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم المثبتين لله جل وعلا من صفاته ما وصف به
نفسه في محكم تنزيله المثبت بين الدفتين، وعلى لسان رسوله المصطفى صلى الله
عليه وسلم بنقل العدل عن العدل موصولاً إليه- فوضوه فيه"(21).
والحق أن هذا غير صحيح فبالإضافة لما في كتب الصحاح والسنن والمسانيد- التي
اشتملت على أحاديث الصفات وبوبت فيها أبواباً، مثل كتاب التوحيد وكتاب الرد على
الزنادقة والجهمية التي هي آخر كتاب صحيح البخاري، ومثل كتاب الرد على الجهمية
في سنن أبي داود إلى غير ذلك مما يضيق المقام عن حصره- جمع طائفة من العلماء في
هذا الباب مصنفات، منها: مصنفات حماد بن سلمة وعبد الله بن المبارك وجامع
الثوري وجامع ابن عيينة ومصنفات وكيع ومالك بن أنس وغيرهم كثير، وكلهم تكلموا
في جميع نصوص القرآن وفسروا الصفات بما يوافق دلالتها، وفيما ذكروه بيان قاطع
ورد حاسم على من ظن أو زعم أن مذهبهم التفويض أو عدم إدراك معاني آيات الصفات.
وفي التنبيهات: "ليس الأسلم تفويض الأمر في الصفات إلى علام الغيوب، لأنه
سبحانه بينها لعباده وأوضحها في كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله الأمين صلى الله
عليه وسلم ولم يبين كيفيتها، فالواجب تفويض علم الكيفية لا علم المعاني، وليس
التفويض مذهب السلف بل هو مذهب مبتدع مخالف لما عليه السلف الصالح، وقد أنكر
الإمام أحمد- رحمه الله- وغيره من أئمة السلف على أهل التفويض وبدّعوهم، لأن
مقتضى مذهبهم أن الله سبحانه خاطب عباده بما لا يفهمون معناه ولا يعقلون مراده
منه، والله سبحانه وتعالى يتقدس عن ذلك"(31).
وفي تجلية هذا الأمر يقول ابن تيمية بعد أن ساق ما يفيده من الآيات ومن أقوال
السلف من نحو ما جاء عن "على عليه السلام لما قيل له: هل ترك عندكم رسول الله
صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقال: لا والله الذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا
فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه وما في هذه الصحيفة" يقول شيخ الإسلام:
"وأيضاً فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة، قد تكلموا في جميع نصوص
القرآن، آيات الصفات وغيرها، وفسروها بما يوافق دلالتها، ورووا عن النبي صلى
الله عليه وسلم أحاديث كثيرة توافق القرآن، وأئمة الصحابة في هذا أعظم من
غيرهم"(41).
ونذكر من أحوالهم ما أورده هو وتلميذه ابن القيم من قول عبد الله بن مسعود: ما
في كتاب الله آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت، وقول الحسن البصري: ما أنزل الله
آية إلا وهو يحب أن يعلم ما أراد تعالى بها، وقول مسروق: ما نسأل أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن علمنا قصر عنه، وقول
مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند
كل آية وأسأله عنها فهذا ابن عباس رضي الله عنهما وهو أحد من كان يقول: وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ [آل عمران:7]، يجيب مجاهداً عن كل آية في
القرآن. الأمر الذي حمل مجاهداً ومن وافقه كابن قتيبة على أن جعلوا الوقف عند
قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، فجعلوا الراسخين في العلم يعلمون
التأويل(51)، وفي ذلك يقول ابن قتيبة: "ولسنا ممن يزعم أن المتشابه في القرآن
لا يعلمه الراسخون في العلم، فهذا غلط من متأوليه على اللغة والمعنى، ولم ينزل
الله شيئاً من القرآن إلا لينفع به عباده".. ويتساءل رحمه الله "هل يجوز لأحد
أن يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف المتشابه؟ وإذا جاز أن
يعرفه مع قول الله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ، جاز أن
يعرفه الربانيون من صحابته- وهو ما كان- فقد علّم صلى الله عليه وسلم علياً رضي
الله عنه التفسير ودعا لابن عباس رضي الله عنهما فقال: (اللهم علمه التأويل
وفقهه في الدين)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كل القرآن أعلم إلا
أربعاً: غسلين وحناناً والأواه والرقيم)، وكان هذا من ابن عباس رضي الله عنهما-
بالطبع- في وقت سابق ثم علم ذلك بعد، وعن مجاهد قال: (تعلمونه وتقولون آمنا به،
ولو لم يكن للراسخين في العلم حظ من المتشابه إلا أن يقولوا: (آمَنَّا بِهِ
كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا)، لم يكن للراسخين فضل على المتعلمين بل على جهلة
المسلمين، لأنهم جميعاً يقولون: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا)"،
وفيما يشبه المحصلة لما سبق يخلص ابن قتيبة إلى القول بأنا: "لم نر المفسرين
توقفوا عن شيء من القرآن فقالوا: هذا متشابه لا يعلمه إلا الله، بل أمرُّوه كله
على التفسير حتى فسروا الحروف المقطعة في أوائل السور"(61).
والحمد لله رب العالمين.
(1) العلو ص 137، ومختصره ص203، والمعارج1/143 .
(2) الشريعة للآجري3/ 1076، والعلو ص166، واجتماع الجيوش ص97، والمعارج 1/147 .
(3) موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول لابن تيمية1/22، والصواعق ص124، وينظر
الإكليل ص31 .
(4) العلو ص 130 .
(5) السنة لعبد الله بن أحمد ص11، والمسائل لأبي داود ص 263، والشريعة للآجري3/1077، واللالكائي 3/ 401، والعلو ص103، ومختصره ص140 .
(6) العلو ص131 ومختصره ص 190 .
(7) الصواعق ص124 .
(8) فتح الباري 13/ 346 .
(9) العلو ص 183 .
(10) الصواعق المرسلة ص125، وينظر موافقة صريح
المعقول1/22 .
(11) ينظر الإكليل ص 46: 48 .
(12) التوحيد لابن خزيمة 1/ 53 .
(13) تنبيهات على ما كتبه الصابوني للشيخ ابن باز ص 12، 13 .
(14) الإكليل في المتشابه، والتأويل ص 46، 47 .
(15) ينظر الصواعق ص 125، والإكليل ص 18، 19 .
(16) تأويل مشكل القرآن ص72، 73 .
الحلقة الحادية عشرة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وبعد:
من أقوال السلف الدالة على إدراك معاني الصفات مع نفي الكيفية
نعاود الحديث عما ورد عن سلفنا الصالح عليهم رحمات الله ورضوانه مما يفيد أنهم
كانوا يدركون معاني صفات الله، ويقفون على مراد الله منها، ويكلون أمر كيفيتها
إليه تعالى لكون الكيف مما استأثر الله تعالى بعلمه.
ومن عباراتهم الدالة على هذا: ما ورد عن أبي زرعة الرازي وقد سئل عن تفسير قوله
تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]، فغضب وقال: "تفسيره
كما تقرأ: هو على عرشه وعلمه في كل مكان، من قال غير هذا فعليه لعنة الله"(1)
وما جاء عن أبي بكر الآجري قال: "الذي يذهب إليه أهل العلم أن الله سبحانه على
عرشه فوق سماواته، وعلمه محيط بكل شيء، قد أحاط علمه بجميع ما خلق في السماوات
العلى، وبجميع ما في سبع أرضين وما بينهما وما تحت الثرى.. ترفع إليه أعمال
العباد.. فإن قيل: فما معنى قوله: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ
هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ
ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ
يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ [المجادلة: 7] الآية التي يحتجون بها؟ قيل: علمه، والله عز وجل على
عرشه وعلمه محيط بهم وبكل شيء خلقه، كذا فسره أهل العلم، والآية يدل أولها
وآخرها على أنه العلم وهو على عرشه، هذا قول المسلمين"(2).
ويدل عليه أيضاً قول أبي عبيد القاسم بن سلام سالف الذكر حين سئل عن أحاديث
الصفات: "هي عندنا حق لا نشك فيها، ولكن إذا قيل لنا: كيف؟ قلنا: لا نفسر هذا
ولا سمعنا أحداً يفسره"، كذا بما يفيد التفرقة بين ما يجوز تفسيره وما يجب
التوقف عنده.. وكذا قول أحمد نفسه الذي ورد عنه النهي عن التفسير المفضي إلى
تحريف الكلم عن مواضعه: "إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وإن كنا
نعلم تفسيره ومعناه"(3)، وقوله فيما حكاه عنه المروزي قال: "قلت لأبي عبد الله:
إن رجلاً قال: أقول كما قال الله: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا
هُوَ رَابِعُهُمْ.. [المجادلة: 7]، أقول هذا ولا أجاوزه إلى غيره، فقال: هذا
كلام الجهمية، بل علمه معهم، فأوّل الآية بما يدل على أنه علمه"(4)، وقوله فيما
رواه عن مالك: "الله عز وجل في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو منه مكان"(5)،
وقال لمحدث كان عنده حَدّثه بحديث (يضع الرحمن فيها قدمه)، فقال المحدث لغلامه:
إن لهذا تفسيراً، فقال أحمد بن حنبل للأثرم راوي الخبر: انظر إليه! كما تقول
الجهمية سواء!"(6)، وقال عن أتباع جهم: "إنهم تأولوها على غير تأويلها"(7)،
فأوجب- رحمه الله- للصفات تأويلاً وتفسيرًا ومعنى يغاير تأويلاتهم وتفسيراتهم
ومعانيهم.
وعلى مثل هذا تحمل عبارات نفي التفسير، كالتي رواها الحافظ الذهبي في العلو
واللالكائي في أصول السنة عن محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة، وكما في قول
الأئمة: "نؤمن بهذه الأحاديث من غير تفسير، منهم الثوري ومالك وابن عيينة وابن
المبارك"(8) إلى غير ذلك من الأقوال التي يضيق المقام عن حصرها، ويفاد منها عدم
إخراج معناها عن ظاهرها والنهي عن تأويلها بما يخالف قواعد اللغة ومبادئ الشرع
على نحو ما فعلت فرق المعطلة.
يقول الحافظ الذهبي في بيان ذلك وفي توضيح معنى ما جاء في عبارة ابن عيينة
(قراءتها تفسيرها): "يعني أنها بينة واضحة في اللغة لا يبتغى لها مضايق التأويل
والتحريف، وهذا هو مذهب السلف، مع اتفاقهم أيضاً أنها لا تشبه صفات البشر بوجه،
إذ الباري لا مثل له لا في ذاته ولا صفاته"(9)، ويقول ابن القيم: "قال ابن
الماجشون والإمام أحمد وغيرهم من السلف: (إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به
وإن كنا نعلم تفسيره ومعناه)، وقد فسر الإمام أحمد الآيات التي احتج بها
الجهمية من المتشابه وقال: (إنهم تأولوها على غير تأويلها)، وبين معناها وكذلك
الصحابة والتابعون فسروا القرآن وعلموا المراد بآيات الصفات، كما علموا المراد
من آيات الأمر والنهي وإن لم يعلموا الكيفية، كما علموا معاني ما أخبر الله به
في الجنة والنار وإن لم يعلموا حقيقة كنهه وكيفيته، فمن قال من السلف: إن تأويل
المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى بهذا المعنى- الكيفية- فهو حق، وأما من قال:
إن التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد منه لا يعلمه إلا الله تعالى فهو غلط،
والصحابة والتابعون وجمهور الأمة على خلافه"(01).
ومما يدل على ذلك ويفيده "أن الصحابة نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة، ولم يذكر أن أحداً منهم قط امتنع عن
تفسير آية، قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا، عثمان بن
عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي
صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل،
قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل، وكذلك الأئمة"(11)، يقول ابن خزيمة:
"وزعمت الجهمية عليهم لعائن الله أن أهل السنة ومتبعي الآثار- القائلين بكتاب
ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم المثبتين لله جل وعلا من صفاته ما وصف به
نفسه في محكم تنزيله المثبت بين الدفتين، وعلى لسان رسوله المصطفى صلى الله
عليه وسلم بنقل العدل عن العدل موصولاً إليه- فوضوه فيه"(21).
والحق أن هذا غير صحيح فبالإضافة لما في كتب الصحاح والسنن والمسانيد- التي
اشتملت على أحاديث الصفات وبوبت فيها أبواباً، مثل كتاب التوحيد وكتاب الرد على
الزنادقة والجهمية التي هي آخر كتاب صحيح البخاري، ومثل كتاب الرد على الجهمية
في سنن أبي داود إلى غير ذلك مما يضيق المقام عن حصره- جمع طائفة من العلماء في
هذا الباب مصنفات، منها: مصنفات حماد بن سلمة وعبد الله بن المبارك وجامع
الثوري وجامع ابن عيينة ومصنفات وكيع ومالك بن أنس وغيرهم كثير، وكلهم تكلموا
في جميع نصوص القرآن وفسروا الصفات بما يوافق دلالتها، وفيما ذكروه بيان قاطع
ورد حاسم على من ظن أو زعم أن مذهبهم التفويض أو عدم إدراك معاني آيات الصفات.
وفي التنبيهات: "ليس الأسلم تفويض الأمر في الصفات إلى علام الغيوب، لأنه
سبحانه بينها لعباده وأوضحها في كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله الأمين صلى الله
عليه وسلم ولم يبين كيفيتها، فالواجب تفويض علم الكيفية لا علم المعاني، وليس
التفويض مذهب السلف بل هو مذهب مبتدع مخالف لما عليه السلف الصالح، وقد أنكر
الإمام أحمد- رحمه الله- وغيره من أئمة السلف على أهل التفويض وبدّعوهم، لأن
مقتضى مذهبهم أن الله سبحانه خاطب عباده بما لا يفهمون معناه ولا يعقلون مراده
منه، والله سبحانه وتعالى يتقدس عن ذلك"(31).
وفي تجلية هذا الأمر يقول ابن تيمية بعد أن ساق ما يفيده من الآيات ومن أقوال
السلف من نحو ما جاء عن "على عليه السلام لما قيل له: هل ترك عندكم رسول الله
صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقال: لا والله الذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا
فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه وما في هذه الصحيفة" يقول شيخ الإسلام:
"وأيضاً فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة، قد تكلموا في جميع نصوص
القرآن، آيات الصفات وغيرها، وفسروها بما يوافق دلالتها، ورووا عن النبي صلى
الله عليه وسلم أحاديث كثيرة توافق القرآن، وأئمة الصحابة في هذا أعظم من
غيرهم"(41).
ونذكر من أحوالهم ما أورده هو وتلميذه ابن القيم من قول عبد الله بن مسعود: ما
في كتاب الله آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت، وقول الحسن البصري: ما أنزل الله
آية إلا وهو يحب أن يعلم ما أراد تعالى بها، وقول مسروق: ما نسأل أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن علمنا قصر عنه، وقول
مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند
كل آية وأسأله عنها فهذا ابن عباس رضي الله عنهما وهو أحد من كان يقول: وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ [آل عمران:7]، يجيب مجاهداً عن كل آية في
القرآن. الأمر الذي حمل مجاهداً ومن وافقه كابن قتيبة على أن جعلوا الوقف عند
قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، فجعلوا الراسخين في العلم يعلمون
التأويل(51)، وفي ذلك يقول ابن قتيبة: "ولسنا ممن يزعم أن المتشابه في القرآن
لا يعلمه الراسخون في العلم، فهذا غلط من متأوليه على اللغة والمعنى، ولم ينزل
الله شيئاً من القرآن إلا لينفع به عباده".. ويتساءل رحمه الله "هل يجوز لأحد
أن يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف المتشابه؟ وإذا جاز أن
يعرفه مع قول الله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ، جاز أن
يعرفه الربانيون من صحابته- وهو ما كان- فقد علّم صلى الله عليه وسلم علياً رضي
الله عنه التفسير ودعا لابن عباس رضي الله عنهما فقال: (اللهم علمه التأويل
وفقهه في الدين)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كل القرآن أعلم إلا
أربعاً: غسلين وحناناً والأواه والرقيم)، وكان هذا من ابن عباس رضي الله عنهما-
بالطبع- في وقت سابق ثم علم ذلك بعد، وعن مجاهد قال: (تعلمونه وتقولون آمنا به،
ولو لم يكن للراسخين في العلم حظ من المتشابه إلا أن يقولوا: (آمَنَّا بِهِ
كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا)، لم يكن للراسخين فضل على المتعلمين بل على جهلة
المسلمين، لأنهم جميعاً يقولون: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا)"،
وفيما يشبه المحصلة لما سبق يخلص ابن قتيبة إلى القول بأنا: "لم نر المفسرين
توقفوا عن شيء من القرآن فقالوا: هذا متشابه لا يعلمه إلا الله، بل أمرُّوه كله
على التفسير حتى فسروا الحروف المقطعة في أوائل السور"(61).
والحمد لله رب العالمين.
(1) العلو ص 137، ومختصره ص203، والمعارج1/143 .
(2) الشريعة للآجري3/ 1076، والعلو ص166، واجتماع الجيوش ص97، والمعارج 1/147 .
(3) موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول لابن تيمية1/22، والصواعق ص124، وينظر
الإكليل ص31 .
(4) العلو ص 130 .
(5) السنة لعبد الله بن أحمد ص11، والمسائل لأبي داود ص 263، والشريعة للآجري3/1077، واللالكائي 3/ 401، والعلو ص103، ومختصره ص140 .
(6) العلو ص131 ومختصره ص 190 .
(7) الصواعق ص124 .
(8) فتح الباري 13/ 346 .
(9) العلو ص 183 .
(10) الصواعق المرسلة ص125، وينظر موافقة صريح
المعقول1/22 .
(11) ينظر الإكليل ص 46: 48 .
(12) التوحيد لابن خزيمة 1/ 53 .
(13) تنبيهات على ما كتبه الصابوني للشيخ ابن باز ص 12، 13 .
(14) الإكليل في المتشابه، والتأويل ص 46، 47 .
(15) ينظر الصواعق ص 125، والإكليل ص 18، 19 .
(16) تأويل مشكل القرآن ص72، 73 .