المحبة السلام
¬°•| صاحبة الروح النقيّة |•°¬
البكاء بين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة
حسن مظفر الرزو
المكتب الاستشاري العلمي
كلية الحدباء الجامعة
ورد البكاء في أكثر من موضع بالقرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة فأضاف له دلالة إسلامية رصينة نقلته من ميدان السلوك اليومي للفرد المسلم الى دائرة مفاهيمية جديدة تزيد من صلة العبد بخالقه، وترقى به الى مقامات عليّة على طريق التوبة، والإقلاع عن الذنوب، وتصفية النفس من الشوائب التي علقت بها نتيجة لاقتراف المعاصي، وتراكم الرّان على القلوب الغافلة عن ذكر الله .
1. البكاء في القرآن الكريم :
حفل القرآن الكريم بأكثر من موضع، في آياته، ورد فيها البكاء. بيد أن الذي ينقب وراء دلالة هذه اللفظة يجدها تحمل المعاني التالية :
(الأول) كون البكاء صفة إنسانية ، ترتبط بالكيان الوجداني والنفسي لابن آدم، فتتدفق دموعه عند المصاب الجلل، أو إذا ضاقت به السبل. من أهم الشواهد القرآنية على هذه الدلالـة قـــوله تعالى: (وجاءوا أباهم عشاءً يبكون)
، وقوله تعالى: (تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون)
، وقوله تعالى: (وأنه هو أضحك وأبكى)
.
(الثاني) كون البكاء صفة كريمة يتصف بها الأتقياء والمؤمنين لفرط محبتهم للبارئ سبحانه وتعالى، ورقّة أفئدتهم، بسبب معرفتهم بخالقهم، طمعاً بجنته، وخوفاً من عذابه وغضبه. وقد وردت آيات كثيرة ترسي هذه الدلالة منها قوله تعالى: (ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً)
، وقوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّداً وبكّياً)
، وقــوله تعالى: (إذا سمعوا ما أنزل الى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق)
(الثالث) كونه النتيجة الفعلية لكل معصية يرتكبها ابن آدم في جناب الحق عز وجل، فيجهش صاحبها بالبكاء لشعوره بالخيبة والخسران، ولفتح باب التوبة عنها، والعودة الى طريق الهدى. من الآيات التي حملت بين ثناياها هذه الدلالة قوله تعالى: (أفمن هذا الحديث تعجبون وتضـحكون ولا تبـكون)
، وقــولــه تعالى:
(فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاءً بما كانوا يكسبون)
.
بات واضحاً من رحلتنا في رياض آيات القرآن الكريم بأن هناك دلالتين جديدتين قد أرستهما المفاهيم القرآنية ترتبطان بعلاقة ابن آدم مع خالقه عز وجل، فالطاعة تورث المحبة والرغبة على دوامها، مع زيادة في التقوى والورع الذي يزيد حساسية المرء في التعامل مع خالقه، فيشرع بالبكاء لفرط المحبة، وخوفاً من الوقوع في المعاصي التي تضعف أواصر المحبة. بالمقابل فإن المعصية تورث ابن آدم الذي يثوب الى رشده الشعور بالخسران والندم فيجهش بالبكاء على إضاعة الأوقات الثمينة بالمعاصي بدلاً من الاستزادة من الطاعات .
2. البكاء في السنة النبوية الشريفة :
إذا تعمقنا بالبحث في كتب الحديث ومسانيده، ونقّبنا عن ورود صفة البكاء بين ثناياها تنقيباً متأنياً، وجدنا بأن دلالة هذه الصفة، ومحاسنها، وآدابها قد احتوتها دائرة الأحاديث المنقولة عن رسول الله
، حتى استقام أمرها، ووضحت معانيها، وأسفر فجرها.
فقد تعامل رسول الله
مع البكاء لكونه من الخصائص التي تلتصق بنفس المرء المسلم، فأباحها في المواطن التي تشكل تنفيساً عن الكرب، وعند فقدان الأحبة، أو لفرط السعادة. أخرج النسائي في سننه الكبرى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مات ميت من آل رسول الله
فاجتمع النساء يبكين عليه فقام عمر ينهاهن ويطردهن فقال رسول الله
(دعهن يا عمر فإن العين دامعة والفؤاد مصاب والعهد قريب). ونقلت رواية أخــرى عن أسامـــة بن زيد رضي الله عنه قال أمرني رسول الله
فأتيته بابنة زينب ونفسها تقعقع كأنها في شن فقال رسول الله
(لله ما أخذ وله ما أعطى وكل إلى أجل). قال: فدمعت عيناه فقال له سعد بن عبادة: يا رسول الله أترق أولم تنه عن البكاء ؟. فقال رسول الله
(إنما هي رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) .
بيد أنه بالمقابل وضع حداً أمام بعض أنواع من البكاء التي تنشب عن فرط الحزن لفراق الأحبة، وما يصاحبها من عادات الجاهلية كصياح وعويل وما يلتحق بذلك من لطم خد وشق جيب، فنهى عنها أشد النهي وتوعدّ فاعليها بغضب الله تعالى وعقابه الأليم. أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه ، والطبراني في معجمه، وصححه الحاكم في مستدركه حديث عامر بن سعد عن أبي مسعود الأنصاري وقرظة بن كعب قالا: رخص لنا في البكاء عند المصيبة في غيـر نوح .
إن زيادة معرفة رسول الله
وصحابته بصفات البارئ تعالى، وعمق التقوى التي تغلغلت في ثنايا نفوسهم الطاهرة قد زاد من رقة أفئدتهم، وفرط خشيتهم من اليوم الآخر وما يصاحبه من عذاب أليم للعصاة والمذنبين، فاقشعرت أبدانهم عند تلاوة آيات القرآن الكريم، أو ذكر الآخرة وأهوالها، فأجهشوا بالبكاء في ساعات صفائهم مع الله تعالى. نقل النسائي في سننه الكبرى عن مطرف عن أبيه قال: أتيت النبي
وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل ـ يعني يبكي، ونقل ابن أبي شيبة في مصنفـه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: قال لي رسول الله
ا(اقرأ عليّ القرآن). قال: قلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل قال
(إني أشتهي أن أسمعه من غيري). قال: فقرأت النساء حتى إذا بلغت (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي فرأيت دموعه
تسيل .
من أجل هذا فقد ندب رســول اللـه
صحابته، وأمته الى البـكاء، وبشّــر البكائين من خشية الله تعالى بالأجر العظيم يوم القيامة. أخرج ابن ماجة في سننه عَنْ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قوله: قَالَ رَسُول اللّهِ
(ابْكُوا. فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا)؛ وأخرج الترمذي في جامعه الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله
(لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع).
لم يعد البكاء في عهده
كما كان في عهد الجاهلية، فقد تم تهذيبه كظاهرة إنسانية فقدت توجيهها الفطري بعد أن خالطتها شوائب الجاهلية، وأضحى ظاهرة إسلامية تنم عن الرحمة والرأفة عند رؤية معاناة الغير، ومشاركة وجدانية في أحزانهم. كما أنه قد استعير الى دائرة العبادة بعد أن أمسى مظهراً من مظاهر التقوى، وخشية الله تعالى، وايذاناً بالندم على إضاعة الأوقات بغير طاعة الله تعالى ونيل رضوانه، ودليلاً على هجران الذنوب والمعاصي .
المصدر: مشاركة من الكاتب
حسن مظفر الرزو
المكتب الاستشاري العلمي
كلية الحدباء الجامعة
ورد البكاء في أكثر من موضع بالقرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة فأضاف له دلالة إسلامية رصينة نقلته من ميدان السلوك اليومي للفرد المسلم الى دائرة مفاهيمية جديدة تزيد من صلة العبد بخالقه، وترقى به الى مقامات عليّة على طريق التوبة، والإقلاع عن الذنوب، وتصفية النفس من الشوائب التي علقت بها نتيجة لاقتراف المعاصي، وتراكم الرّان على القلوب الغافلة عن ذكر الله .
1. البكاء في القرآن الكريم :
حفل القرآن الكريم بأكثر من موضع، في آياته، ورد فيها البكاء. بيد أن الذي ينقب وراء دلالة هذه اللفظة يجدها تحمل المعاني التالية :
(الأول) كون البكاء صفة إنسانية ، ترتبط بالكيان الوجداني والنفسي لابن آدم، فتتدفق دموعه عند المصاب الجلل، أو إذا ضاقت به السبل. من أهم الشواهد القرآنية على هذه الدلالـة قـــوله تعالى: (وجاءوا أباهم عشاءً يبكون)
، وقوله تعالى: (تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون)
، وقوله تعالى: (وأنه هو أضحك وأبكى)
.
(الثاني) كون البكاء صفة كريمة يتصف بها الأتقياء والمؤمنين لفرط محبتهم للبارئ سبحانه وتعالى، ورقّة أفئدتهم، بسبب معرفتهم بخالقهم، طمعاً بجنته، وخوفاً من عذابه وغضبه. وقد وردت آيات كثيرة ترسي هذه الدلالة منها قوله تعالى: (ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً)
، وقوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّداً وبكّياً)
، وقــوله تعالى: (إذا سمعوا ما أنزل الى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق)
(الثالث) كونه النتيجة الفعلية لكل معصية يرتكبها ابن آدم في جناب الحق عز وجل، فيجهش صاحبها بالبكاء لشعوره بالخيبة والخسران، ولفتح باب التوبة عنها، والعودة الى طريق الهدى. من الآيات التي حملت بين ثناياها هذه الدلالة قوله تعالى: (أفمن هذا الحديث تعجبون وتضـحكون ولا تبـكون)
، وقــولــه تعالى:
(فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاءً بما كانوا يكسبون)
.
بات واضحاً من رحلتنا في رياض آيات القرآن الكريم بأن هناك دلالتين جديدتين قد أرستهما المفاهيم القرآنية ترتبطان بعلاقة ابن آدم مع خالقه عز وجل، فالطاعة تورث المحبة والرغبة على دوامها، مع زيادة في التقوى والورع الذي يزيد حساسية المرء في التعامل مع خالقه، فيشرع بالبكاء لفرط المحبة، وخوفاً من الوقوع في المعاصي التي تضعف أواصر المحبة. بالمقابل فإن المعصية تورث ابن آدم الذي يثوب الى رشده الشعور بالخسران والندم فيجهش بالبكاء على إضاعة الأوقات الثمينة بالمعاصي بدلاً من الاستزادة من الطاعات .
2. البكاء في السنة النبوية الشريفة :
إذا تعمقنا بالبحث في كتب الحديث ومسانيده، ونقّبنا عن ورود صفة البكاء بين ثناياها تنقيباً متأنياً، وجدنا بأن دلالة هذه الصفة، ومحاسنها، وآدابها قد احتوتها دائرة الأحاديث المنقولة عن رسول الله
فقد تعامل رسول الله
بيد أنه بالمقابل وضع حداً أمام بعض أنواع من البكاء التي تنشب عن فرط الحزن لفراق الأحبة، وما يصاحبها من عادات الجاهلية كصياح وعويل وما يلتحق بذلك من لطم خد وشق جيب، فنهى عنها أشد النهي وتوعدّ فاعليها بغضب الله تعالى وعقابه الأليم. أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه ، والطبراني في معجمه، وصححه الحاكم في مستدركه حديث عامر بن سعد عن أبي مسعود الأنصاري وقرظة بن كعب قالا: رخص لنا في البكاء عند المصيبة في غيـر نوح .
إن زيادة معرفة رسول الله
من أجل هذا فقد ندب رســول اللـه
لم يعد البكاء في عهده
المصدر: مشاركة من الكاتب