الفصل 33
أستيقظ عماد من نومه على صوت ريم في السابعة مساء . غسل وجهه وأخذ الجريدة بصمت وهم بالخروج فاستوقفته تطلب منه مرافقتها إلى السوق لشراء ملابس قبل السفر . هز رأسه موافقا وذهب للجلوس في الركن الفرنسي ، يطالع جهاز التلفزيون ليسمع الأخبار بصوت منخفض وهو يقرأ . أحس وكأن يدا تعصر قلبه عندما رأى زاوية همسات من قلبي موجودة . ماذا كتبت له كاميليا هذه المرة وأي رسالة توجهها إليه . همسات عتاب أم تعبير بالخيبة ، أم تذكير بالماضي أم ماذا ..
" تسألني باريس عنك
تسألني الجسور والعطور
تسألني العشاق والزهور
تسأل عنك مياه السين الهادئة
والأمسيات الحالمة
باريس تذكر حبنا
وتذكر لمسة اليد الحنونة
وتلك القبلة اللذيذة المجنونة
وورود باريس وحدائقها
ومياهها ومقاهيها وحلوياتها
ولياليها وأحلامها ونسماتها ..
" ألور " يسأل عنك
و" الياقوت الأحمر " في يدي
والكحل الأسود في عيني
وحبة الخال في زاوية فمي ..
يسألون عنك ..
كاميليا الناصر
الرسالة الرابعة .. والبقية تأتي .
..............................
أعاد قراءة ما كتبته كاميليا مرة أخرى .. وتساءل لماذا تذكره بباريس وبكل ما يحبه فيها ؟ . لماذا هي مصره على تذكيره بالحب الذي جعله يتبعها إلى باريس عندما سافرت ، وتذكره بهداياه وقسوته عليها . ما الذي تريده من هذه الرسائل الخفية ؟. هذه الرسالة الرابعة وهي لم تتوقف ومازالت تعده بالمزيد . كم ستستمر بإرسال الرسائل والعتاب والهمسات المبطنة . وهو يفكر بها وبهمساتها وذكريات باريس تطوف بخياله . تنهد عندما لمح ريم تقترب منه ، جلست بجانبه وقالت :
- أريد أن أشتري معطفا سميكا وبعض الملابس الدافئة فالجو في لندن بارد جدا .
ظل ساكتا غير مهتم بما تقوله وعطر الماضي يثير فيه المزيد من الذكريات ، فأكملت ريم حديثها :
- أتصدق أن أعلى درجة تصل إليها الحرارة في لندن على مدار السنة هي ثلاث وعشرون درجة مئوية .
تأفف وطلب منها أن تلغي سفرها فهو لا يحبذه ، فقالت له بانفعال :
- تقول هذا بعد أن حصلت على التأشير وحجزت تذكره السفر .. وحصلت على الموافقة من وزارة الصحة وسأسافر بعد أسبوع .
زم شفتيه وقال بنبرة حادة :
- تستطيعين إلغاء السفر لو أردت .
أجابته بأنها لن تفعل ذلك فهي ليست مضطرة لتحمل تردده وتقلب آرائه . شعرت بالغثيان وهي تطلب منه أن يستخرج لها تصريحا بالسفر ، فهذا أمر مذل . هي امرأة راشد لا تستطيع أن تسافر بدون أن يأذن لها ولي أمرها ، كم تكره هذه الكلمة البائسة فعلى زوجها أن يعطيها موافقته الرسمية وإلا لن تسافر .
- سأذهب غدا للجوازات واستخرج التصريح .
قال جملته وأخذ الجريدة وتوجه لغرفته فلحقت به وسألته :
- متى سنذهب إلى السوق ؟
طلب منها أن تذهب لوحدها فهو سيخرج للقاء أصحابه وأمامها خلع بيجامته وارتدى ملابس الخروج ووقف أمام المرآة يمشط شعره . وقفت أمامه عبر المرآة وصرخت به :
- لماذا تعاديني ؟
استدار لها وطلب أن تتكلم بهدوء فأجابته بصوت مرتفع :
- أنت وعدتني .
أطال النظر إليها وطلب منها الكف عن الصراخ والذهاب مع السائق .
- أي أصدقاء تتحدث عنهم .. ليس لديك غير ماجد وفيصل .
سكتت للحظة ثم قالت بسخرية :
- لو رشحت نفسك في مجلس البلدي .. سيصوت لك ماجد فقط من خارج العائلة .
لم يجبها فضحكت باستهزاء وقالت :
- تخيل ستكون أقوى الخاسرين !
استدار نحوها وقال بازدراء :
- أترفع عن الإجابة على غبية مثلك .. وهذه الانتخابات لا تعنيني ولن أعطي صوتي لأحد .
بروده زاد غضبها فصرخت به :
- لن أدعك تخرج معهم وستذهب معي إلى المجمع التجاري رغما عنك .
سكت وأخذ مفاتيحه ومحفظته وهاتفه وهم بالخروج من الغرفة لكن جملتها الأخيرة استوقفته عندما قالت له بتهديد :
- إذا خرجت فلن تجدني عندما تعود .
أغمض عينيه ولأول مرة يتمنى أن يسكتها بأي وسيلة حتى وإن اضطر لضرب رأسها بالحائط ، لكنه كتم غيظه وقال لها :
- أذهبي إلى جهنم .. والحمد الله لست حاملا هذه المرة لأكون سبب ولادتك المبكرة .
صعقها رده فقالت :
- ألا تهتم بي لهذه الدرجة .. كم أنت مستهتر .
صفق باب الغرفة وخرج وهي تصرخ وتتوعده بدفع الثمن ، وبتلقينه درسا ليحسب لها ألف حساب عندما تكلمه أو تطلب منه شيئا . ركب سيارته وأنطلق مبتعدا عن البيت . نظر لوجهه المتجهم في مرآة السيارة وحاول أن يخفي علامات الانزعاج الجلية على ملامحه وهو ينظر للميدالية الزجاجية التي أهدته أيها كاميليا وطلبت منه أن يعلقها في مرآة سيارته . ظل يفكر بها وبما كتبته اليوم في الجريدة . سطورها القليلة لم تمر عليه وعلى قلبه مرور الكرام . دفع باسطوانة فيروز الذي هجرها منذ مدة في مشغل الأسطوانات وبدأ يستمع ..
" شايف البحر شو كبير .. كبر البحر بحبك
شايف السما شو بعيد .. بعد السما بحبك
كبر البحر وبعد السما بحبك يا حبيبي
يا حبيب بحبك "
جال شارع الكورنيش من أوله إلى آخره عدة مرات دون أن يشعر . كان يمشي مرافقا البحر وبمحاذاته بلا هدف ، ولا يعرف إلى أين يتجه وإلى أين يذهب . مشى وهو يستمع لفيروز وكلما انتهت الأغنية أعادها مرة أخرى . رن هاتفه الجوال ورأى اسم صاحبه فأغلق الهاتف ووضعه في الدرج السيارة . أراد أن يبقى مع فيروز ، وكاميليا التي يفكر بها ماذا تفعل الآن وبم تفكر . ما هو هدفها من الرسائل وإلى متى ستستمر بالكتابة . ألم تكتفي بالجروح التي خلفها حبه فيه .ألم تكتفي بالهزائم التي يعانيها وبالخسائر التي تكبدها من عمره وأعصابه وقلبه . ماذا تريد منه صاحبة الصوت الرقيق ؟
هذا ما كان يفكر به وهو يمشي بلا هدف في الطريق البحري . أوقف سيارته بمحاذاة كورنيش القطيف وترجل منها يفكر بما قالته ريم قبل خروجه وتهديدها بترك المنزل للمرة الثانية في فترة وجيزة . تمشي ببطء وهو يتأمل العشب الأخضر والأولاد يلعبون بالكره ، وبعضهم يسيرون بدراجاتهم، وبعض النسوة يمشين ، وبعض العائلات تفترش العشب . اقترب من البحر وملأ رئتيه بهواءه الرطب . تمشى قليلا وهو يفكر بالقطيف ، مدينة النفاق والعشق والخيبة . فيها أحب كاميليا وعشقها ، وفيها تركته . خيبت أمله القطيف القاسية ولم تعطه حقا مباحا في كل مكان . عاد بسيارته ليمنع ريم من ترك المنزل ليتلافى حدوث مشكلة كبيرة مع العائلة لو حدث لها شيء وأتهمته . ركب سيارته وأعاد تشغيل فيروز مرة أخرى وعاد بذاكرته وأفكاره لكاميليا . وصل إلى منزله ولم يجد ريم فقد تركت المنزل كما هددته قبل خروجه .
*******
عاد في اليوم التالي من الشركة لمحه واقف أمام باب البيت الحديدي الكبير ودخل بسرعة وراءه . كانت علاقته به سطحيه جدا ولم تتعدى لقاءات قليلة في مناسبات عامة ومتباعدة كيوم زفافه ويوم زفاف عصام ولم يتوقع أن يزوره عادل في بيته يوما ما . حمد ربه بأن ريم غير موجودة لكان أساء الظن بها ، لكن ذلك لم يمنعه في التفكير بعلاقة ريم بزيارته في اليوم التالي لخروجها من المنزل بعد شجارهما الأخير . تساءل عن سبب قدومه وقرر أن يطلب منه عدم الاقتراب من المنزل مرة أخرى مهما كان سبب زيارته الغير مستحبة . أقترب منه عادل بسرعة شديدة وقال له بغضب :
- من تظن نفسك أيها الحقير لتعامل ابنة عمي بهذه الطريقة ؟
التفت إليه وصرخ فيه :
- أخرج من البيت ولا أريد أن أراك تتجول في هذا الحي بالمرة .
أخرج عادل من جيبه سكينا وهم بطعنه ، لكنه تلافى الضربة بحركة رشيقة .
تعاركا أمام نظر الحارس الذي ظل مكانه خائفا . كان عادل مصمم على طعن عماد الذي حاول تلافي الضربة فجاءت مرتين في الهواء ثم رمى بثقل جسمه عليه وأسقطه أرضا . أحس عماد بألم حاد والسكين تغرز في كتفه الأيسر . أمسك بيده مكان الطعنه في كتفه والدم يتدفق بغزارة والحارس الهندي واقف مكانه بخوف وعادل يغرز سكينه مرة أخرى في بطن عماد الذي سقط أرضا من أثر الطعنه والإعياء والنزيف .
********
كانت كاميليا على موعد مع نسرين لتناول العشاء في الخارج عندما اتصلت بها تعتذر عن الخروج معها لتعرض عماد لاعتداء وإصابته بعدة طعنات وهو يرقد في المستشفى . أحست بأن قلبها سيتوقف وهي تسمع الخبر ، لم تكن مستوعبه لما حدث لعمادها . أغلقت السماعة ودموعها تفيض من عينيها المتعبتين . بكت وهي تفكر كيف تراه ، فلابد أن تطمأن عليه بأي وسيلة ، تريد أن تراه بعينيها لترتاح ولا تستطيع الاكتفاء بما تقوله لها نسرين عن حالته . بسرعة ارتدت عباءتها ولفت حجابها الملون على رأسها وأخذت حقيبتها وأمسكت مقبض الباب الخارجي . وسرعان ما استدركت بأن ذهابها غير منطقي بالنسبة لعائلته . جلست على المقعد ووضعت رأسها بين يديها وراحت تنشج بالبكاء . كانت خائفة وتدعو الله أن ينجيه ، لا تريده أن يكون لها ولا تريده أن يحبها أو يتذكرها ولا تريد منه شيئا ، تريده أن يتعافى فقط .
ظلت تبكي وفكرها محصور به . لم تأكل ولم تستطيع النوم . أخذت دواءها النفسي علها تهدأ ولو قليلا . وراحت تذرع غرفتها تنتظر اتصالا من نسرين لتطمئنها كما طلبت منها ذلك . كان الإنتظار يزيدها توترا وإنتصاف الليل جعلها أكثر قلقا خافت وهي تفكر بالرسالة الأخيرة التي أرسلتها له في الجريدة ، وذكريات باريس التي أرادت إثارتها في نفسه .لم تتحمل الانتظار أكثر فاتصلت بنسرين ، وسألتها بقلق :
-ما هي أخبار شقيقك الآن ؟
- نقلوه إلى العناية المركزة في الساعة الثامنة وسيبقونه تحت المراقبة لمدة عشر ساعات .. لم يسمحوا لنا برؤيته فعدنا إلى البيت وسنذهب لزيارته غدا صباحا .
تنهدت وسألت صديقاتها :
- هل ستذهبين إلى المستشفى ؟
- لن أذهب فهذا الأسبوع التدريبي الأخير لي ولدي أيام اضطرارية مدخرة .
تمنت لعماد الشفاء فقالت لها نسرين وهي تبكي :
- أمي منهارة لقد انتحبت بحسرة وهم ينقلونه أمامنا إلى غرفة العناية المركزة .
- ومن طعنه بالسكين ؟
- طعنه الكلب عادل ابن عم المتعجرفة .. تركت المنزل بالأمس وفزع لها ابن عمها .. تخيلي لم تأت للمستشفى لرؤيته .
أنهت حديثها مع نسرين وذهب إلى المطبخ لتجلب لها مشروبا باردا وذهبت لغرفتها . كانت تشرب وهي تنتظر بزوغ الشمس لتنتهي الساعات العشر وتطمئن على عمادها . دعت الله أن يمن عليه بالشفاء ، وقضت ليلتها بالتفكير والاتصال بالمستشفى والممرضات يرفضن إخبارها بحالته . أتصل بها ناصر عدة مرات ولم تجبه . بقيت تبكي وحدها في البيت تنتظر شروق الشمس . لم تذهب للمستشفى هي أيضا ، ظلت تنتظر الوقت الملائم لتذهب وترى عمادها وتطمأن عليه .
********
انتظرت انتصاف النهار لتتمكن من الذهاب للمستشفى لرؤية عماد بعد أن أخبرتها نسرين بأنهم تركوه وسيعودون لزيارته عصرا . كانت خائفة وسيارتها تتوقف في مواقف السيارات الخاصة بالمستشفى . ترجلت بسرعة وهي تلف اللثام على وجهها لتخفي القسم السفلي منه والنظارة الشمسية تخفي عينيها ، ويدها تمسك بباقة ورود فاخرة اختارتها من ورود الكاميليا البيضاء . توجهت مباشرة لقسم الجراحة فقد أخبرتها نسرين بأن حالته مستقرة وتم أخرجه من العناية المركزة . لم تكن تفكر بردة فعله عندما يراها ولا بما ستقوله له ، ولماذا تأتي لزيارته في المستشفى بعد كل الذي حدث .
لم تبال بشيء وهي تتذكر ناصر الغائب في عمله والذي لم يكف عن الاتصال بها منذ البارحة ولم تجبه . جل اهتمامها منصب على عماد وشفاءه فربما يعرف بأنها تحبه بإخلاص وتريد الاطمئنان عليه فقط . ربما يؤمن بأنها كانت ضحية لوالدها وتزوجت بأبن عمها مرغمة ، وكانت مستعدة لبذل الكثير في سبيل تلافي هذا الزواج وهو تخلى عنها عندما طلبت مساعدته . عله يصدق ذلك وينسى فكرة خداعه فمازال يهمها أن يعرف بأنها كانت صادقة معه .
اقتربت من محطة التمريض وسألت إحدى الممرضات عن غرفته فدلتها عليها وطلبت منها عدم إطالة الزيارة فالطبيب يوصي بذلك .
طرقت الباب بوجل وقلبها ينبض بقوة والدموع معلقة برموشها . قوت قلبها المرتبك ودخلت غرفته الخاصة ووجدته على السرير في حالة إعياء تام والمحاليل السائلة مغروزة في وريده وجهاز قياس الضغط متصل بذراعه ، وأنبوبة رفيعة تخرج من بطنه وتتصل بكيس بلاستيكي به سائل اصفر مختلط بالقليل من الدم . بدا شاحبا وهو مغمض العينين ، وكتفه الأيسر مغطى بضمادات وجبينه يضيء بالعرق وجسده مغطى بغطاء خفيف . كان نائما وساكنا وعندما كلمته برفق لم يسمعها . وضعت الورود على الطاولة وجلست على الكرسي القريب منه وقالت له بهمس والدموع مختبئة بين رمشيها :
- دودي .. حمد الله على سلامتك يا بعد عمري .
كان يئن بصوت منخفض ، فقالت :
- أرجوك .. أفتح عينيك أجبني .
وعندما لم يستفيق سكتت تتأمل وجهه الشاحب . أحست بشوق عارم له أشهر طويلة مرت على لقاءها الأخير به كم بدا متغيرا ، بدا نحيلا والشعرات البيضاء ظهرت أكثر في جانبي رأسه . لم تتمكن من حبس دموعها ، وهي تكلمه بهمس لا يكاد يسمع :
- تعافى وكن قويا كما عرفتك .. أنظر إلى بعينيك السوداويين فأنا لم أرى أجمل منهما في حياتي .. أنهض فأنا أحتاجك في هذه الحياة حتى لو لم تكن بجانبي يكفيني أن تكون موجودا ومتعافيا يا حب حياتي الكبير .. تعافى يا من وعدتني بالحب والسعادة فأنا مازلت أنتظر وعدك وما زلت أحبك رغم خذلانك لي .
والتفتت لصوت جهاز قياس الضغط الالكتروني وهو يقيس ضغط دمه من جديد فسكتت وهي تلملم دموعها . بلعت ريقها والممرضة تدخل لتقيس حرارته . سألتها بقلق عن حالته ، فطمأنتها :
- حالته مستقرة .. لكنه يعاني من ارتفاع في درجة الحرارة بين وقت وآخر .
مسحت دموعها وسألتها :
- ولماذا لا يرد علي ولا يفتح عينيه ؟
طمأنتها بأنه مازال يشعر بإعياء ناتج عن إصابته ومن النزيف والعملية ، كما أنها أعطته حقنة مسكنة قبل ساعة لذا هو نائم الآن . مدت كاميليا يدها نحو عماد وأمسكت بيده الدافئة من ارتفاع حرارته وهمست له :
- كن قويا وتعافى من أجلي .
نهضت من الكرسي وأزاحت اللثام عن وجهها . اقتربت منه وطبعت على جبينه قبلة متجاهلة كل الأفكار القديمة وما قاله رجل الدين عن الحب المحرم . أعادت اللثام على وجهها وخرجت بدموعها التي أخفتها بالنظارة . أمسكت بمقبض الباب واستدارت تلقي عليه نظرة أخيرة قبل أن تخرج وشعرت برغبة للاقتراب منه مجددا واحتضانه لكنها منعت نفسها من ذلك خشية أن يأتي أحد من أفراد عائلته وهي لا تود أن يراها أحد هنا .
*********
فتح عماد عينيه مساءا وجد والديه وأختيه وفيصل وأمل وعصام حوله جالسون في غرفته الخاصة يحيطونه بباقات الورود والشوكلاتة الفاخرة . قالت له نسرين ممازحة وعينيها على ورود الكاميليا بجواره :
- من أحضر لك الورود البيضاء .
نظر للورود وتذكر كاميليا فقد كان يهديها ورود الكاميليا البيضاء دائما . هز رأسه وقال بأنه لا يعرف من أحضرها . فنهضت نسرين وأحضرت له البطاقة المرفقة وقرأت بصوت عالي :
- مكتوب في البطاقة .. غلبتني دموعي عندما عرفت بما حصل .. ومن كل قلبي أتمنى لك الشفاء العاجل وموفور الصحة .. وتوقيع الرسل .. مع التحية والبقية تأتي .
ضحكت ندى وقالت :
- من هذا الزائر الغريب .. لم لا يذكر أسمه ؟
أنقبض قلبه وهو يسمع ما قالته أخته ، وطلب من نسرين أن تعطيه البطاقة . أمسك بها وقرأها بعينيه وذهنه يصوب أفكاره نحو كاميليا فهذا توقيعها في الجريدة وعبارة البقية تأتي تختم بها همساتها وتتوعده بها منذ زمن . تساءل في سره متى جاءت وكيف لم يشعر بوجودها ، ربما أرسلت الورود فقط ولم تأتي بنفسها . جلس مع عائلته وفكره مشغول بكاميليا وبالورود التي أرسلتها ، خرج من أفكاره وأمه تسأله :
- ألم تأتي ريم لزيارتك ؟
- ولماذا تأتي ؟.. هي مشغولة بسفرها .
- أنت زوجها ولا تأت لزيارتك .. ربما هي من جلبت الورود .
كان متأكد بأن الورود من كاميليا ولكنه سكت ، وأمه تتابع :
- حتى وإن كنتما على خلاف يجب أن تأتي لتراك وتطمئن عليك .. هذا تقصير منها .
سكت عماد وهو يشعر بألم انتابه مكان العملية ، فقال عصام لزوجة خاله :
- هي متأثرة بما حصل بينها وبين عماد .. لقد طردها من المنزل .
ظل عماد ساكتا وغير مبال بما قالته ريم عنه ، فقالت أمه مخاطبة عصام بحدة :
- وابن عمك النذل .. لماذا يؤذي ابني ؟
- عادل تصرف من نفسه فقد كان في منزلنا عندما جاءت ريم وهي تبكي .. أنفعل وصار يهدد ويتوعد أمامنا .. ظننا كلامه ناتج عن غضبه فقط لكنه فعلها .
- لعنه الله لن نتنازل عن حبسه والشرطة تبحث عنه الآن وسيجدونه قريبا .. سينال جزاءه كالذي أحرق قلبي قبل سنوات .
قالت كلمتها والشرر يتطاير من عينيها الدامعتين ، فاقتربت منها ندى وعانقتها وقالت لها :
- كوني مطمئنة وهادئة ستسير الأمور على ما يرام .
لم يجد عصام ما يقوله ، فكلهم أقارب والوضع أصبح شائكا بين أخته وزوجها وابن عمه . بعد قليل استأذن الجميع ونهض مع أمل وخرجا من المستشفى داعين لعماد بالشفاء العاجل . بقي والديه وأختيه معه لبعض الوقت وبعد آذان المغرب خرجوا وتركوه لأفكاره بكاميليا وبالورود التي أحظرتها له ، لا بد أن تكون هي . بعد دقائق طرق الباب وجاءت عمته وزوجها ومعهما ريم التي جلست في مقعد بعيد عنه وقالت له بحدة :
- أنا أفضل منك .. أتيت لرؤيتك بعد الذي فعلته بي .
طلبت منها أمها أن تكون أكثر لطفا مع زوجها وتنسى ما حصل ، ووجهت كلامها لعماد وقالت له :
- ما الذي ستفعله مع عادل الآن ؟
- سأبحث الأمر مع والدي .
زمت ريم شفتيها ثم سألته :
- ومتى ستخرج من المستشفى ؟
- أشعر بتحسن بعد أن انخفضت الحرارة وأود الخروج في أقرب وقت .
- يجب أن يطمئنوا من عدم وجود أي التهاب ناتج عن الإصابة .. إضافة لعدم تكرار النزيف والتئام جروح الطحال وشق العملية .. لذا عليك أن تبقى حتى تتعافى كليا .
سكتت للحظة ثم أردفت :
- أتمنى أن تخرج قبل سفري .. وإذا سافرت فسأتصل وأطمأن عليك .
شكر اهتمامها البالغ به بتهكم ضايقها ، فلم يكن مهتما ببقائها أو سفرها فهو يعرف بأنه لا يعني لها شيئا وهي لاتهمه ولا روابط تربطهما كزوجين . ربما سفرها وابتعادها يجعله أكثر هدوءا وراحة . ربما ينام براحة دون أن يفكر فيها وفي مشاكلها ولا بكاميليا وبورودها ورسائلها .