الفلاحي صاحي
¬°•| عضو مثالي |•°¬
إذا كان الامام ناصر بن مرشد قد انجز تحقيق الوحدة الوطنية ، إلا أن الوجود البرتغالي على السواحل العمانية كان في حاجة إلى إمكانات جديدة تفوق تلك الامكانات التقليدية التي استخدمها اليعاربة في سبيل القضاء على الحروب الاهلية والانصياع لسلطة الدولة الموحدة ... لقد وقعت كل المعارك التي خاضها لامام ناصر بن مرشد من أجل الوحدة على اليابسة ، اما البرتغاليون فقد كانوا أهل بحار ، وطريقتهم في الحرب اعتمدت على السفن التي شهدت طفرة كبيرة منذ الكشوف الجغرافية ، ولذا فان سياستهم الاستعمارية اعتمدت على احتلالهم لكثير من المدن والقلاع والحصون التي تقع في طريق البحار والمحيطات ، دون اللجوء الى التعمق في اليابسة والذي لا يتناسب وامكاناتهم البشرية .
ادرك اليعاربة مقدرة عدوهم القادم من أقصى الطرف الاوروبي كدولة بحرية خاضت معارك طاحنة في سبيل الحفاظ على مكانتها ، ولذا فقد كانت العناية بالاسطول وتنمية الموارد الاقتصادية من الركائز الاساسية التي اعتمد عليها العياربة ، ولذلك فقد طوروا اسطولهم التجاري والعسكري مستفيدين من خبرة الدول الأكثر تقدماً في هذا المجال وخصوصاً شركة الهند الشرقية البريطانية ، حيث أقاموا معها علاقات طيبة مستفيدين من تنافسها مع السياسة البرتغالية في تلك الفترة (35) قبل ان تنشأ بينهما سياسة الوفاق الجديدة .
وبمجرد أن انشأ الامام ناصر بن مرشد اسطوله وانتهى من القضاء على جميع القوى المحلية المناوئة ألقى بكل ثقله في محاربة البرتغاليين حيث انتزع منهم صور وقريات ، على يد ابن عمه سلطان ابن سيف اليعربي (36) .
ويبدو ان انتزاع صور وقريات لم تكن مهمة سهلة ، فقد كان التباين واضحاً بين حجم وكفائة القوتين المتنافستين ، إضافة إلى أن الوحدة الوطنية لم تكن قد تحققت بما يتناسب واعباء المواجهة التي كانت تقضي بقد كبير من الانسجام والتفاهم خصوصاً وان البرتغاليين كانوا قد استردوا انفاسهم منذ أن طردوا من هرمز 1622م بسبب انشغال القبائل بالحروب الاهلية وقبل كل ذلك قد استجدت على مسرح الاحداث سياسة وفقا جديدة بين البرتغال وشركة الهند الشرقية بدءاً من عام 1044هـ/1634م (37) . تحولت إلى صداقة متينة وتعاون بين الطرفين ، وخصوصاً بعد ان استرد البرتغاليون استقلالهم من اسبانيا عام 1050هـ/1640م (38) .
وكانت هذه المغيرات السياسية ، سواءً المحلية أو الدولية في مقدمة عوامل كثيرة جعلت أهل عمان يناضلون في ظروف اشد قسوة إلا أن نجاحهم في تحقيق الوحدة الوطنية اضافة إلى المشاعر الدينية الجياشة ، التي فاقت اية مشاعر وطنية أو عرقية كان من أهم العوامل التي جعلتهم يقبلون علىعلى التضحية بنفس راضية وبحماس ورغبة في الاستشهاد وهي عوامل كان يفتقدها البرتغاليون المتحصنون في الثغور العمانية . ان المتتبع لحركة كفاح اليعاربة ضد البرتغال يدرك للوهلة الأولى أهمية الوحدة القومية كقضية دينية وسياسية وهو ما يؤكد أن الامام ناصر بن مرشد قد ادرك تلك الحقيقة للوهلة الأولى ، وفي ظل التجزئة تنمو الخلافات وتتنامى الاحقاد إلى حد يهون فيه الوطن ، وتتبدد القيم الكبرى في سبيل تحقيق مصالح شخصية رخيصة .
وقد ادرك ناصر بن مرشد هذه الحقيقة بوعي شديد ورأى أن الوحدة هي العامل الحاسم في تحقيق أي عمل كبير ، وبدونها تتبدد القوى وتتاح كل فرص الوقيعة والشتات لابناء الوطن الواحد والعقيدة الواحدة ، ونتيجة لهذه السياسة فقد شهدت الجبهة الداخلية تفوقاً ملحوظاً لقوات الامام ناصر بن مرشد ساعده في توسيع نطاق نضاله ضد البرتغاليين القابعين في المناطق الساحية ، ولعل صحار كانت محوراً استراتيجياً هاماً في سياسة اليعاربة حيث ضربوا عليها حصاراً شديداً، بينما تحصن البرتغاليون داخل القلاع والحصون وراحوا يمطرون قوات الامام بوابل من نيران مدفعيتهم ، الأمر الذي اطال امد الحصار مما دفع الامام إلى بناء قلعة في مواجهة القلعة البرتغالية.
ومنذ عام 1050هـ/1640م بدأ ناصر بن مرشد يجني ثمار الوحدة الوطنية ، فبمجرد أن علمت القبائل بحضاء صحار اخذت تستنفر همم شبابها الذي شاركوا في بناء القلعة ، وخصوصاً من مناطق لوى وبات وكافة المناطق المتاخمة لصحار ، وبينما ضرب العمانيون حصاراً منيعاً حلو صحار ، كانت سرية اخرى قد وصلت إلى مسقط بقيادة خميس بن سعيد الشقصي وبأمر الامــام (39) ، وعلى الرغم من أن تلك السرية لم تحقق نتائج حاسمة (40) ، إلا أنها اربكت القوات البرتغالية ، سواءً في صحار أو مسقط مما مهد لسلسلة من الهجمات العمانية الخطيرة ضد كافة المعاقل البرتغالية .
ففي عام 1053هـ/1643م استولى الامام ناصر بن مرشد على مدينة صحار وبني بها حصناً مقابلاً للحصن الذي يسيطر عليه البرتغاليون ، كما نجح العمانيون في الحصول على عدد من السفن المتقدمة ، وكذا الذخيرة والبارود من الانجليز مما ضاعف حجم العمليات العسكرية ضد القواعد البرتغالية (41) . وعموماً فلم يصل حجم المساعدات البريطانية لعمان بما يتناب وامكانات البرتغال مثل ما حدث في اتفاقية ميناب عام 1032هـ/1622م ، حيث حاربت بريطانيا بجانب الفرس لتحرير هرمز اما اليعاربة فقد حاربوا في ظروف مختلفة حيث لم يستعينوا بقوة اجنبية ، إضافة إلى أن البرتغال أثناء طردها من هرمز كانت في ظل التبعية الاسبانية في حين أن العمانيين قد تتضاعف جهودهم بشكل ملحوظ بعد أن استردت البرتغال استقلالها (42) . إذا كانت العلاقات العمانية البريطانية لم تحقق نتائج محددة على عهد ناصر بن مرشد ، إلا أنها قد تطورت بشكل ملحوظ على عهد الامام سيف بن سلطان ، وأن كنا لا نتفق مع الرأي القائل بأن الانجليز شاركوا بشكل فعال في الصراع العماني البرتغالي ، وهو ما أكده احد الباحثين الاوروبيين ، على اعتبار أن ثمة تعاطفاً انجليزياً مع العمانيين ضد البرتغاليين كما يرجح الباحث (BOXER) أسباب ذلك إلى الصراعات المذهبية بين الانجليز والبرتغاليين إضافة إلى سياسة الاحتكار التي مارسها البرتغاليون والتي كانت تتعارض مع مصالح شركة الهند الشرقية البريطانية (43) .
ويؤكد أحد الباحثين في تاريخ الخليج على عكس هذه المقولة تماماً ويشير إلى انزعاج الانجليز من تصاعد القوة العمانية وهو امر يتعارض مع مصالحهم على طول الخط (44) إضاف إلى ان انجلترا والبرتغال كانتا قد ابرمتا معاهدة في عام 1072هـ/1661م (45) .
وليس من المنطقي أن يشارك الانجليز في الحرب بجانب العمانيين وهم يعملون أن قوة العمانيين تتعارض مع مصالحهم ، ولعل النشاط الاقتصادي الذي تمارسه شركة الهند الشرقية البريطانية قد بدد من سياسة الاحتكار الذي كان يمارسه البرتغاليون ، مما أعطي فرصة لليعاربة لكي يضاعفوا من نشاطهم التجاري والحربي ، مما اتاح لهم قدراً كبيراً من المنافسة التي ادت إلى تطوير سفنهم بسبب الاحتكار الذي تعددت مجالاته سواءً مع السفن الانجليزية أو الهولندية أو حتى مع السفن البرتغالية نفسها .
ولا شك أن التفوق البحري العماني قد أقلق الانجليز إلى حد كبير ، وقد عبر برانجوين Branguin وكل شركة الهند الشرقية في بندر عباس عن هذا القلق بقوله : (أن العمانيين سيصبحون كارثة على الهند مثلما كان الجزائريون كارثة على أوروبا) (46) ، بل والأكثر من ذلك فقد اخذت العلاقات تسوء بين اليعاربة والانجليز الذين اصبحت سفنهم مستهدفة من قبل اليعاربة لدرجة أن حاكم مدراس كتب إلى رئاسة الشركة طالباً المزيد من السفن والجنود تحسباً لهجمات العمانيين (47) ولعل من المناسب في هذا الصدد أن نطرح سؤالاً ؟
إذا كان اليعاربة قد أصبحوا خطراً على الانجليز فلماذا لم يتصد الانجليز لمواجهتهم ؟
والإجابة على هذا السؤال تتلخص في أن الانجليز انشغلوا بتثبيت نفوذهم في الهند ، وتضاعف انشغالهم بسبب تورطهم في حرب الوراثة الاسبانية ، كما أن القوة البحرية العمانية وصلت إلى درجة من القوة مع نهاية القرن السابع عشر جعلت التفكير في التصدي لها بمثابة مقامرة غير مضمونة العواقب . ومهما كان الأمر فقد امتد صراع اليعاربة ضد منافسهم لفترات زمنية طويلة تباينت فيها المواقف السياسية ، إلا أن اصعب الفترات واخطرها هي فترة الامام ناصر بن مرشد ، حيث كان يقاتل في سبيل تحقيق وحدة وطنية قوية كبدته قدراً هائلاً من الجهد والوقت كما انه استخدم كل الامكانات المتاحة بمهارة شديدة بما في ذلك المفاوضات السياسية التي لجأ إليها في (شوال 1058هـ/31 اكتوبر 1648م) ، وعند وفاته (48) لم يبق تحت السيطرة البرتغالية الا مسقط ومطرح وحصن لهم في صحار (49) ، وقد حاول الامام أن يسترد هاتين المدينتين وبعث بمسعود بن رمضان على رأس جيش بهدف تحريرهما ، وتمكن مسعود بن رمضان من الوصول إلى مطرح وضرب عليها حصاراً في وقت تفشى فيه مرض الطاعون واصيب البرتغاليون بهلع شديد (50) .
ولم يؤد هذا الحصار إلى تحرير مسقط ومطرح وانما نجم عنه ابرام هدنة جاءت معظم بنودها في صالح العمانيين (51) .
وكان ابرام هذه الهدنة بمثابة اختبار عملي لقوة كل من الطرفين حيث ادرك العمانيون حالة الوهن الذي وصل إليه البرتغاليون وفي الوقت نفسه كان الامام ناصر بن مرشد في اشد الحاجة لالتقاط الانفاس واعادة تقييم الموقف . ومن جانب اخر فقد شعر البرتغاليون بنوع من الارتياح خصوصاً وقد سبق لهم ان ابرموا صلحاً مع الانجليز ، إلا أنهم تورطوا في صراع جديد مع الهولندييـــن (52).
وقد تضاعفت طموحات العمانيين وادركوا انهم قاب قوسين أو أدنى من تحرير بلادهم من احتلال دام اكثر من مائة واربعين عاماً . وبوفاة الامام ناصر بن مرشد كان العمانيون قد وضعوا اقدامهم عند نهاية الطريق بعد رحلة طويلة من الجهاد والتضحيات وامتد جهادهم إلى جلفار (رأس الخيمة) التي كان البرتغاليون يحتلون احدى قلاعها بينما الفرس بقيادة ناصر الدين الفارسي يحتلون القلعة الثانية (53) .
وتشير كتب التراث العماني إلى أن ناصر الدين الفارسي هذا كان متحالفاً مع اعداء الامام وعلى علاقة قوية مع مانع بن سنان وناصر بن قطن وهما من اكثر الزعامات المحلية عداوة للامام ، ولهذا كان تحرير جلفار يمثل رغبة اكيدة في مخططات اليعاربة ، حيث قاد علي بن أحمد حملة اعتمدت على عنصر المباغته والالتفاف بشكل سريع مما اربك الحاميات المدافعة عن جلفار وعندما ضاعفت القوات العمانية من حصارها طالب البرتغاليون السماح لهم بالانتقال إلى مسقط، وهكذا بدأت تتهاوى كل القوى المناوئة لليعاربة ، مع ملاحظة أن كل انتصار كان يفتح المجال لمزيد من التفكير لانتصار اخرى وهكذا . استطاع سلطان بن سيف الذي بويع بالامامة (ربيع الثاني 1059هـ/ابريل 1649م) بعد وفاة الامام ناصر بن مرشد أن يواصل الجهاد ، حيث سبق له أن تمرس على الاعمال الحربية ، حينما ارسل عدة مرات إلى مسقط لتسليم الجزية المستحقة على البرتغاليين ، ولذا فقد كان الامام الجديد اهلاً لتولي القيادة في وقت كانت البلاد في اشد الحاجة إلى مواصلة المسيرة التي بدأها الامام ناصر بن مرشد .
ومن البداية أخذ الامام الجديد يعد العدة للقضاء على البرتغاليين ، وأدرك أهمية الوقت كعامل هام في الاجهاز عليهم وخصوصاً بعد أن نما إلى علمه إن عدد جنودهم قد نقص نقصاً كبيراً بسبب حملات برتغالية كانت قد ارسلت إلى الهند (54) إعتقاداً بأن موت الإمام ناصر بن مرشد يعد سبباً كافياً لإرجاء أي نوايا عدوانية نحو مسقط ومطرح ، إلا أن سلطان بن سيف لم يمكث إلا أياماً قليلة وأسرع متخذاً من طوي الرولة قاعدة للهجوم الشامل عليهم ، بينما تحصن البرتغاليون بقلاع وأسوار عالية ، حيث رابط جنودهم بعد أن ثبتوا مدافعهم الثقيلة في كل إتجاه ، وزيادة في الحيطة فقد حفروا خندقاً عميقاً حول الأسوار ، كما بنوا على رؤوس الجبال المحيطة بمسطق ومطرح مجموعة أبراج ثبتوا في داخلها جنوداً أشداء أخذوا يمطرون القوات العمانية بوابل من نيران مدافعهم (55) .
وكانت الحرب سجالاً بين الفريقين ، فلم تكن للبرتغاليين قدرة على مواجهة العمانيين ولم يكن للعمانيين قدرة على دخول مسقط ومطرح ، وأعتمد الجيشان على القنص كلما اتيحت الفرصة لذلك، وهكذا طالت الحرب حتى كاد سلطان بن سيف أن يتراجع عن حصاره ، وخصوصاً بعد أن نما إلى علمه أن بعض القبائل بدأت تفكر في التراجع عن مساندته .
ولكن حدث شيء لم يكن في الحسبان ، إذ أن الإمام سلطان بن سيف قد تلقى معلومات على غاية من الأهمية من العرب القاطنين حول مسقط (56) ، مكنته من دخول المدينة ولا يستبعد أن تكون هذه المعلومات كانت تعبر عن حقيقة الأوضاع داخل المدينة وخصوصاً عند نهاية ذي الحجة 1059هـ/ديسمبر 1649م وهو موعد راس السنة الميلادية ، حيث لم تكن هناك ثمة مراقبة دقيقة مما سهل على العرب مهمة التسلسل إلى داخل مسقط (57) وأطلعوا على أحوال البرتغاليين ونقلوا الى الإمام ما رأوه . ولم تلبث قوات الامام ان حاصرت البرتغاليين في قلعة الجلالي ، وبعد أن نفدت مؤونتهم اضطروا إلى التسليم وتركوا القلعة (58) ، وهذا ما حدث في مطرح أيضاً ولم يبق للبرتغاليين غير سفينتين كانت تحاصران مسقط إلا أن العمانيين تمكنوا من اسرهما ، وعندما وصلت هذه الاخبار إلى السلطات البرتغالية في الهند اسرعت بارسال اسطول برتغالي كبير ولكنه وصل متأخراً ، فقد كانت كل القلاع وكل الحصون البرتغالية قد تهاوت وسقطت في يد العمانييـن (59) ، واصيب البرتغاليون بخسائر جسيمة ، حيث قتل معظم جنودهم ، وكل المحاولات التي قاموا بها في الهند لامتداد مسقط باءت بالفشل ، وبنهاية 1063هـ/1652م لم يبق للبرتغاليين في الخليج إلا وكالتهم في كنج على الساحل الشرقي من الخليج .
ومع ذلك فلم يفقد البرتغاليون الامل في استعادة ساحل عمان ، حيث راحوا يدعمون مركزهم في كنج بل واخذوا يتفاوضون مع الفرس على السماح لهم بانشاء وكالة تجارية في جزيرة هانجام ، إلا أن الشروط الفارسية كان مبالغاً فيها ، ولذا فقد رفض البرتغاليون العرض الفارسي (60) ويؤكد لوريمر ان سبب رفض البرتغاليين للعرض الفارسي هو تطلعهم إلى الساحل العربي ، حيث كانت تبذل محاولات في هذا الصدد (61) .
وفي الوقت نفسه لم يتوقف العمانيون عن مطاردة البرتغاليين حتى ، بعد أن التجأوا إلى وكالتهم التجارية في كنج ، والتي لم تنج من هجمات العمانيين الذين أخذوا يتعقبون عدوهم في الهند وشرق افريقيا ، مما جعل خطوط الملاحة بين الوكالة التجارية للبرتغاليين في كنج وبين شرق افريقيا والهند تبدوا مستحيلة في ظل السيطرة العمانية ، ولذلك اضطر البرتغاليون الى الانسحاب من كنج نهائياً (62) . وهكذا طرد البرتغاليون من عمان والخليج ، ولاشك أن طردهم نهائياً من الخليج يعد عملاً بطولياً وصفحة مشرفة في التاريخ العماني .
لم يكتف العمانيون بطرد البرتغاليين من سواحل عمان بل شنوا عليهم حرباً تمثلت في سلسلة من الغارات ضدهم في المحيط الهندي برا وبحراً ، وتعرضت المواقع البرتغالية في الهند إلى تلك الهجمات ... بومباي 1072هـ/1661م ديو في رجب 1079هـ/نوفمبر 1668م وفي شوال 1086هـ الموافق يناير 1676م وكذلك في سنة 1081هـ الموافق 1670م ، وباسين Bassein في 1085هـ الموافق 1674م ، وامتدت المعارك لتشمل غرب المحيط الهندي حيث خاض الطرفان صراعاً طويلاً للسيطرة على شرقي افريقيا (63) . فقد اتصل سكان زنجبار الذين ربطتهم عوامل دينية وقومية مع العمانيين بالامام سلطان بن سيف من اجل تحريرهم من الاستعباد البرتغالي وبالرغم من الانتصارات التي حققها الامام سلطان بن سيف في مياه زنجبار ، إلا أن الجلاء البرتغالي لم يتم الا في عهد ابنه الامام سيف بن سلطان الذي وضع حجر الاساس لبحرية عمان الشهيرة التي سيطرت على جميع الساحل الافريقي الشرقي من (ممباسة) الى (كلوه) اذ سيطر العمانيون على ممباسة 1110هـ/1698م وسيطروا على بيما وزنجبار وبته Patta وكلوه، وكانت (موزمبيق) هي الوحيدة التي قاومت الاسطول العربي العماني وبقيت بايدي البرتغاليين إلى القرن العشرين (64) . وقد حاول البرتغاليون استعادة مراكزهم البحرية الضائعة وقاموا بهجوم موحد على زنجبار ومسقط في آن واحد عام 1142هـ /1729م ، ولكنهم اصيبوا بهزيمة منكرة ، وبذلك انهارت آمال البرتغال في استعادة سيادتها على الخليج العربي والمحيط الهندي (65) ، وامتد نفوذ عمان من جنوب الجزيرة العربية وسواحل شرقي افريقيا في الغرب إلى سواحل وادي السند في الشرق .
وفي هذه الفترة اصبحت مسقط تتمتع بـ (مركز التوزيع التجاري الرئيسي) ، لمنطقة الخليج العربي ، فاصبحت واحدة من الموانىء الرئيسية في المحيط الهندي وسواحل الخليج وايران والعراق والجزيرة العربية ، وفي حدوده الغربية امتد هذا النفوذ إلى البحيرات الافريقية المركزية ، وفي الشرق لامس (66) دلتا الكنج .
وهكذا ظهرت قوة عمان بعد القضاء على الهيمنة البرتغالية بشكل بات يخشاه الجميع ، فقد اصبحت السفن العمانية هي التي تبحث عن سفن الاعداء في مياه الخليج العربي والمحيط الهنـدي (67) ، واضطرت السفن الهولندية والانكليزية إلى تعزيز دفاعاتها تخوفاً من عرب عمان (68) . وقد عبر المقيم البريطاني في بندر عباس عن مخاوفه من تنامي قوة عمان بقوله ، سنة 1106هـ/1694م : (انهم سيثبتون انهم كارثة كبرى على الهند كالجزائرين في اروبا) (69) .
وقد أشارت السلطات الصفوية ايضاً إلى تفوق العمانيين في هذه الفترة من خلال مذكرة رفعتها إلى الحكومة الفرنسية جاء فيها : (ان تمتعهم بموقع جغرافي مهم يتيح لهم الفرصة للسيطرة على الخليج ، وهذا يفسر قوة العمانيين الذين يتمكنون بما يناهز الثلاثين قارباً من الاستيلاء على الغنائم)(70) .
ذلك ان الانتصارات التي حققها اليعاربة اثارت فارس التي كانت تتطلع إلى وراثة النفوذ البرتغالي، ولذا فقد تعددت المواجهات العمانية الفارسية والتي جاءت في صالح اليعاربة ، بدرجة ان التجارة الفارسية اصيبت بضرر بالغ مما دفع بالفرس الى الاستعانة بالقوى الاوروبية بهدف القضاء على منافسة عمان لها في هذا الميدان ، واتصلوا بالانجليز لتحقيق هذا الهدف (71) .
وإذا كان الانجليز لم يتحمسوا للعرض الفارسي خوفاً على مصالحهم الاقتصادية من الاسطول العماني ، فقد توجهت فارس الى فرنسا على عهد لويس الرابع عشر وتمخضت الاتصالا عن توقيع معاهدة بينهما في عام 1119هـ/1707م وكان من بين النصوص السرية التي احتوتها تلك المعاهدة ان يقوم الفرنسيون بارسال اسطول لمساعدة فارس في غزو مسقط ، إلا أن فرنسا ترددت قبل الاقدام على تلك الخطوة بنفس السبب الذي منع الانجليز من تضامنهم مع فارس ، على الرغم من الدبلوماسية النشطة التي مارسها الفرس في محاولة للضغط على لويس الرابع عشر .. وعموماً فلم تسفر الاتصالات عن قيام تحالف فارسي فرنسي على الرغم من ابرام اتفاقية جديدة في عام 1127هـ/1715 ، ولعل ما حال دون اقدام فرنسا على تنفيذ بنود المعاهدة الجديدة تلك الفوضى التي اجتاحت فارس وما ترتب عليها من غزو افغاني لها في عام 1135هـ/1722م . كانت البرتغال قد ادركت في تلك الفترة أن زمن الضعف العربي قد ذهب وأن مواجهة اليعاربة في كل مراحل الصراع قد باءت بالفشل وان استمرار الوضع يعني ضياع كل الممتلكات البرتغالية على سواحل الهند وشرق افريقيا ولذا فقد راحوا ينسقون مع الفرس في محاولة لقيام تحالف عسكري يكون قادراً على ضرب اليعاربة .
وقد ادرك سلطان بن سيف خطورة هذا التحالف الجديد ، ولذا فقد عجل بضرب البرتغاليين وتصفية نفوذهم ، وقسم اسطوله الى قسمين احدهما توجه إلى شرق افريقيا حيث نجح في انتزاع ممبسا 1110هـ/1698م تمهيداً لانتزاع الجزيرة الخضراء وكلوه (72) .
اما القسم الاخر من الاسطول فقد توجه الى الهند ، حيث نجح في تدمير الوكالة البرتغالية في مانجالور على الساحل الهندي (73) .
ويعد سقوط ممبسا في يد اليعاربة نقطة تحول خطيرة في تاريخ الاسلام ، فمن المعروف ان البرتغاليين قد تمكنوا من خلال تواجدهم في شرق افريقيا والهند من العمل على نشر عقيدتهم الكاثوليكية ، إلا أن اليعاربة كان لهم اكبر الاثر ليس في توقف هذا النشاط الكاثوليكي فقط ، بل وارغام البرتغاليين على الجلاء عن جميع الساحل الذي يقع شمال خليج دلجادو .
وهكذا استطاع اليعاربة كسر شوكة البرتغاليين وانهاء سيادتهم الاحتكارية والقضاء على مراكزهم الاستراتيجية سواء على الشاطىء الافريقي أو على سواحل الهند ، ويقرر المؤرخ الانجليزي كوبلاند Coupland ان البحرية العمانية مع مطلع القرن السابع عشر قد وصلت إلى درجة من القوة فاقت أي قوة بحرية اخرى حيث كانت الاساطيل الانجليزية والهولندية تخشاها ، ويكفي ان هذا الاسطول استطاع أن يقوم بكل هذه العمليات الناجحة في هذه المنطقة الشاسعة وان يجعل الرعب يملاً قلوب الجميع ، سواءً سكان البلاد الواقعة على الخليج أو المحيط أو التجار الاوروبيين (74) . وبكل المقاييس فقد نجح العمانيون وحتى نهاية عهد سلطان بن سيف الثاني عام 1130هـ / 1718م في ايجاد قدر كبير من التوازن الدولي انعكست نتائجه على كل المستويات ، وترك انطباعاَ هائلاً لدى الاوروبيين عن هيبة الدولة ، حيث عملت العديد من القوى الاوروبية على كسب ودها ، ولعل الازدهار الاقتصادي الذي وصلت اليه دولة اليعاربة ومكانة اسطولها البحري كان نتاجاً طبيعياً لقوة الدولة وحجم نقلها البحر يفي كافة البحار الشرقية ، في ظل جو مناسب من الالفة لدى عناصر السكان في عمان ، حيث انعكس ذلك على كافة مشروعات التنمية الاقتصادية في شتى مناحيها وبات الناس في امن على حياتهم وارزاقهم في ظل سياج من الهيبة والعدل .
واذا كان اليعاربة قد نجحوا كل النجاح في تحقيق هذا الازدهار الذي ترتب على انهيار النفوذ البرتغالي وكسر احتكاره لتجارة المنطقة ، فان من المفيد في هذا المجال ان نعرض للأسباب التي ادت إلى انهيار هذا النفوذ ومكن اليعاربة من هذا النجاح . والحقيقة فان الاسباب التي عجلت بانهيار النفوذ البرتغالي في عمان والخليج العربي عديدة منها :
أولاً : طبيعة الاستعمار البرتغالي للمنطقة التي كانت ترتكز على سلسلة من القواعد العسكرية الواقعة على الطريق البحري بين الهند والبرتغال ، فلم يتوغل البرتغاليون في عمق البلاد التي استعمروها ، وما كانوا يستطيعون ذلك لقلة عدد سكان البرتغال ، ولاتساع امبراطوريتهم وكان الابقاء على تلك القواعد في ايديهم مرهون بقوة البحرية البرتغالية فلما ضعفت ضاع كل شيء.
ثانياً : كانت حركة المد البرتغالي تمثل الموجة الاستعمارية الاولى المتعطشة للغزو ونهب ثروات الشعوب وكان الميدان خالياً أمامها ، فلما دخلته قوة اوروبية اخرى اكثر منها قوة مثل هولندا وبريطانيا وفرنسا ، ولا تقل عنها تطلعا في ان يكون لها نصيب في الغنيمة يتفق مع ثقلها السياسي والعسكري ، لم تقو البرتغال على الصمود امام هذه القوى الطامعة .
ثالثاً : حسن اختيار العمانيين للظروف الدولية المناسبة لتوجيه ضرباتهم القاضية ضد الوجود البرتغالي في عمان فالتنافس الذي ساد العلاقات بين البرتغاليين من جهة والفرس والهولنديين والانجليز من جهة اخرى ، ورغبة الفريق الثاني في القضاء على النفوذ البرتغالي وابعادهم عن الخليج ساعد العمانيين إلى الحد الكبير .
رابعاً: اتبع البرتغاليون سياسة الشدة والبطش في معاملاتهم للشعوب التي حكموها وقيامهم باستنزاف ثرواتها ومواردها زاد في كراهية الشعوب لهم وجعلها تتحين الفرص المناسبة للخلاص من نيرهم .
خامساً: ازدياد قوة العمانيين وثقتهم بانفسهم وتفوقهم في الملاحة البحرية إذ ادرك العمانيون حقيقة الصراع بينهم وبين البرتغاليين انه صراع بحري أولاً وقبل كل شيء ... ولذا فقد اعدوا اسطولاً بحرياً مدرباً ومنظماً ومعداً احسن اعداد ومن ثم امكنهم ان يتغلبوا على أهم نقاط القوة لدى البرتغاليين . وكان من أهم العوامل التي أدت إلى القضاء على النفوذ البرتغالي في عمان والمحيط الهندي .
سادساً: الوحدة الوطنية باعتبارها الدرس الأول الذي التزم به ناصر بن مرشد ، وبغير الوحدة لن تتحقق المصالح العليا للبلاد ، وفي سبيل الالتزام بهذا المبدأ خاض الامام حروباً ضارية ضد انصار التجزئة كما سبق القول .
سابعاً: عناية اليعاربة باستثمار كل مقومات النجاح ، وكانت الزراعة في مقدمة اهتماماتهم حيث شقت الافلاج وتم جلب كثير من المحاصيل الزراعية من شرق افريقيا حيث نجحت تجربة زراعتها بشكل ملحوظ مما اوجد رواجاً اقتصادياً .
ثامناً : عناية اليعاربة بتوفير كل مقومات النجاح لحركة التجارة بعد أن تم القضاء على سياسة الاحتكار التي ابتدعها البرتغاليون وباتت تجارة الخليج العربي جزءاً من حركة التجارة العالمية وهو ما عاد على عمان بطفرة اقتصادية هائلة .
تاسعاً: العودة إلى الجذور العمانية الاصيلة بابراز الهوية العربية والاسلامية وفي هذا المجال نجح اليعاربة بشكل ضاعف من ترابط دولتهم وادى إلى طرد عدوهم أسباب كثيرة كما نرى ادت وساعدت على القضاء على النفوذ البرتغالي سواءً في عمان أو في ساحل شرقي افريقيا ، بل وفي المحيط الهندي كله وكما رأينا فقد كان للعمانيين في عهد اليعاربة القدح المعلى والنصيب الاوفر في القضاء على هذا النفوذ الذي استمر قرابة قرن ونصف من الزمان .
وكما كان هنالك اسباب ادت الى القضاء على النفوذ البرتغالي ، فهناك ايضاً نتائج على درجة كبيرة من الاهمية ترتبت على ذلك وعلى خروجهم من عمان بالذات واثرت تأثيراً عميقاً على المنطقة كلها . ويمكن اجمال هذه النتائج فيما يلي :
أولاً : ان نجاح العمانيين وحدهم في اجلاء البرتغاليين من ارضهم قد رفع روحهم المعنوية واشعرهم بقوتهم وبمدى ما يمكن ان يقوموا به وهيأت لهم هذه الفرصة ان يلعبوا دوراً في النشاط البحري في الخليج ولا سيما منذ منتصف القرن السابع عشر وحتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر .
ثانياً : افلح العمانيون في القضاء على سياسة احتكار التجارة التي انتهجها البرتغاليون وحققوا مبدأ حرية التجارة لجميع الاجناس ، فعاد الانتعاش الاقتصادي اليهم وساعدهم هذا على ان يصبحوا قوة مؤثرة في منطقتهم ، بل وفي شرق افريقيا كذلك .
ثالثاً : تطلع الفرص في ان يحلوا محل البرتغاليين وان تكون لهم الزعامة في الخليج ، وساعدتهم بريطانيا على ذلك لاسباب عديدة ، منها وجود مصالح عامة لشركة الهند الشرقية الانجليزية في فارس وكذلك مساعدة الفرس للبريطانيين في القضاء على منافسة الهولنديين في الخليج اضف الى ذلك عدم وجود تنظيمات عربية تلفت الانتباه والدخول معها في علاقات مباشرة في ذلك الوقت .. وتترتب على ذلك دخول فارس في صراع مع العمانيين ، وطلبهم المساعدة من القوى الاستعمارية الطامعة في الخليج .
رابعاً : أن زوال الوجود البرتغالي من عمان على وجه الخصوص ومن الخليج العربي على وجه العموم ، اتاح للقوى العربية ان (تؤكد لنفسها زعامة الخليج) (75) وظهرت هذه الزعامة بشكل واضح في القرن الثامن عشر .
خامساً: اعقب خروج البرتغاليين من الخليج العربي تحركات جماعية ادت إلى وجود تشكيلات سياسية استقرت على السواحل الغربية للخليج ، مثل العتوب في الكويت وامتداد فروعهم في قطر والبحرين .
وهكذا نرى ان هنالك نتائج عديدة وهامة نتجت عن طرد البرتغاليين من الخليج العربي ، وكانت الوحدة الوطنية التي حققها اليعاربة الاوائل هي محور الزوايا في هذا النجاح العظيم ، وايضاً في تحقيق كثيراً من الانجازات الداخلية التي تمت في عهد اليعاربة الاوائل ، وفي عهد من خلفهم من الائمة ، واولهم الامام بلعرب بن سلطان بن سيف .
المصدر : كتاب "عمان في التاريخ"ادرك اليعاربة مقدرة عدوهم القادم من أقصى الطرف الاوروبي كدولة بحرية خاضت معارك طاحنة في سبيل الحفاظ على مكانتها ، ولذا فقد كانت العناية بالاسطول وتنمية الموارد الاقتصادية من الركائز الاساسية التي اعتمد عليها العياربة ، ولذلك فقد طوروا اسطولهم التجاري والعسكري مستفيدين من خبرة الدول الأكثر تقدماً في هذا المجال وخصوصاً شركة الهند الشرقية البريطانية ، حيث أقاموا معها علاقات طيبة مستفيدين من تنافسها مع السياسة البرتغالية في تلك الفترة (35) قبل ان تنشأ بينهما سياسة الوفاق الجديدة .
وبمجرد أن انشأ الامام ناصر بن مرشد اسطوله وانتهى من القضاء على جميع القوى المحلية المناوئة ألقى بكل ثقله في محاربة البرتغاليين حيث انتزع منهم صور وقريات ، على يد ابن عمه سلطان ابن سيف اليعربي (36) .
ويبدو ان انتزاع صور وقريات لم تكن مهمة سهلة ، فقد كان التباين واضحاً بين حجم وكفائة القوتين المتنافستين ، إضافة إلى أن الوحدة الوطنية لم تكن قد تحققت بما يتناسب واعباء المواجهة التي كانت تقضي بقد كبير من الانسجام والتفاهم خصوصاً وان البرتغاليين كانوا قد استردوا انفاسهم منذ أن طردوا من هرمز 1622م بسبب انشغال القبائل بالحروب الاهلية وقبل كل ذلك قد استجدت على مسرح الاحداث سياسة وفقا جديدة بين البرتغال وشركة الهند الشرقية بدءاً من عام 1044هـ/1634م (37) . تحولت إلى صداقة متينة وتعاون بين الطرفين ، وخصوصاً بعد ان استرد البرتغاليون استقلالهم من اسبانيا عام 1050هـ/1640م (38) .
وكانت هذه المغيرات السياسية ، سواءً المحلية أو الدولية في مقدمة عوامل كثيرة جعلت أهل عمان يناضلون في ظروف اشد قسوة إلا أن نجاحهم في تحقيق الوحدة الوطنية اضافة إلى المشاعر الدينية الجياشة ، التي فاقت اية مشاعر وطنية أو عرقية كان من أهم العوامل التي جعلتهم يقبلون علىعلى التضحية بنفس راضية وبحماس ورغبة في الاستشهاد وهي عوامل كان يفتقدها البرتغاليون المتحصنون في الثغور العمانية . ان المتتبع لحركة كفاح اليعاربة ضد البرتغال يدرك للوهلة الأولى أهمية الوحدة القومية كقضية دينية وسياسية وهو ما يؤكد أن الامام ناصر بن مرشد قد ادرك تلك الحقيقة للوهلة الأولى ، وفي ظل التجزئة تنمو الخلافات وتتنامى الاحقاد إلى حد يهون فيه الوطن ، وتتبدد القيم الكبرى في سبيل تحقيق مصالح شخصية رخيصة .
وقد ادرك ناصر بن مرشد هذه الحقيقة بوعي شديد ورأى أن الوحدة هي العامل الحاسم في تحقيق أي عمل كبير ، وبدونها تتبدد القوى وتتاح كل فرص الوقيعة والشتات لابناء الوطن الواحد والعقيدة الواحدة ، ونتيجة لهذه السياسة فقد شهدت الجبهة الداخلية تفوقاً ملحوظاً لقوات الامام ناصر بن مرشد ساعده في توسيع نطاق نضاله ضد البرتغاليين القابعين في المناطق الساحية ، ولعل صحار كانت محوراً استراتيجياً هاماً في سياسة اليعاربة حيث ضربوا عليها حصاراً شديداً، بينما تحصن البرتغاليون داخل القلاع والحصون وراحوا يمطرون قوات الامام بوابل من نيران مدفعيتهم ، الأمر الذي اطال امد الحصار مما دفع الامام إلى بناء قلعة في مواجهة القلعة البرتغالية.
ومنذ عام 1050هـ/1640م بدأ ناصر بن مرشد يجني ثمار الوحدة الوطنية ، فبمجرد أن علمت القبائل بحضاء صحار اخذت تستنفر همم شبابها الذي شاركوا في بناء القلعة ، وخصوصاً من مناطق لوى وبات وكافة المناطق المتاخمة لصحار ، وبينما ضرب العمانيون حصاراً منيعاً حلو صحار ، كانت سرية اخرى قد وصلت إلى مسقط بقيادة خميس بن سعيد الشقصي وبأمر الامــام (39) ، وعلى الرغم من أن تلك السرية لم تحقق نتائج حاسمة (40) ، إلا أنها اربكت القوات البرتغالية ، سواءً في صحار أو مسقط مما مهد لسلسلة من الهجمات العمانية الخطيرة ضد كافة المعاقل البرتغالية .
ففي عام 1053هـ/1643م استولى الامام ناصر بن مرشد على مدينة صحار وبني بها حصناً مقابلاً للحصن الذي يسيطر عليه البرتغاليون ، كما نجح العمانيون في الحصول على عدد من السفن المتقدمة ، وكذا الذخيرة والبارود من الانجليز مما ضاعف حجم العمليات العسكرية ضد القواعد البرتغالية (41) . وعموماً فلم يصل حجم المساعدات البريطانية لعمان بما يتناب وامكانات البرتغال مثل ما حدث في اتفاقية ميناب عام 1032هـ/1622م ، حيث حاربت بريطانيا بجانب الفرس لتحرير هرمز اما اليعاربة فقد حاربوا في ظروف مختلفة حيث لم يستعينوا بقوة اجنبية ، إضافة إلى أن البرتغال أثناء طردها من هرمز كانت في ظل التبعية الاسبانية في حين أن العمانيين قد تتضاعف جهودهم بشكل ملحوظ بعد أن استردت البرتغال استقلالها (42) . إذا كانت العلاقات العمانية البريطانية لم تحقق نتائج محددة على عهد ناصر بن مرشد ، إلا أنها قد تطورت بشكل ملحوظ على عهد الامام سيف بن سلطان ، وأن كنا لا نتفق مع الرأي القائل بأن الانجليز شاركوا بشكل فعال في الصراع العماني البرتغالي ، وهو ما أكده احد الباحثين الاوروبيين ، على اعتبار أن ثمة تعاطفاً انجليزياً مع العمانيين ضد البرتغاليين كما يرجح الباحث (BOXER) أسباب ذلك إلى الصراعات المذهبية بين الانجليز والبرتغاليين إضافة إلى سياسة الاحتكار التي مارسها البرتغاليون والتي كانت تتعارض مع مصالح شركة الهند الشرقية البريطانية (43) .
ويؤكد أحد الباحثين في تاريخ الخليج على عكس هذه المقولة تماماً ويشير إلى انزعاج الانجليز من تصاعد القوة العمانية وهو امر يتعارض مع مصالحهم على طول الخط (44) إضاف إلى ان انجلترا والبرتغال كانتا قد ابرمتا معاهدة في عام 1072هـ/1661م (45) .
وليس من المنطقي أن يشارك الانجليز في الحرب بجانب العمانيين وهم يعملون أن قوة العمانيين تتعارض مع مصالحهم ، ولعل النشاط الاقتصادي الذي تمارسه شركة الهند الشرقية البريطانية قد بدد من سياسة الاحتكار الذي كان يمارسه البرتغاليون ، مما أعطي فرصة لليعاربة لكي يضاعفوا من نشاطهم التجاري والحربي ، مما اتاح لهم قدراً كبيراً من المنافسة التي ادت إلى تطوير سفنهم بسبب الاحتكار الذي تعددت مجالاته سواءً مع السفن الانجليزية أو الهولندية أو حتى مع السفن البرتغالية نفسها .
ولا شك أن التفوق البحري العماني قد أقلق الانجليز إلى حد كبير ، وقد عبر برانجوين Branguin وكل شركة الهند الشرقية في بندر عباس عن هذا القلق بقوله : (أن العمانيين سيصبحون كارثة على الهند مثلما كان الجزائريون كارثة على أوروبا) (46) ، بل والأكثر من ذلك فقد اخذت العلاقات تسوء بين اليعاربة والانجليز الذين اصبحت سفنهم مستهدفة من قبل اليعاربة لدرجة أن حاكم مدراس كتب إلى رئاسة الشركة طالباً المزيد من السفن والجنود تحسباً لهجمات العمانيين (47) ولعل من المناسب في هذا الصدد أن نطرح سؤالاً ؟
إذا كان اليعاربة قد أصبحوا خطراً على الانجليز فلماذا لم يتصد الانجليز لمواجهتهم ؟
والإجابة على هذا السؤال تتلخص في أن الانجليز انشغلوا بتثبيت نفوذهم في الهند ، وتضاعف انشغالهم بسبب تورطهم في حرب الوراثة الاسبانية ، كما أن القوة البحرية العمانية وصلت إلى درجة من القوة مع نهاية القرن السابع عشر جعلت التفكير في التصدي لها بمثابة مقامرة غير مضمونة العواقب . ومهما كان الأمر فقد امتد صراع اليعاربة ضد منافسهم لفترات زمنية طويلة تباينت فيها المواقف السياسية ، إلا أن اصعب الفترات واخطرها هي فترة الامام ناصر بن مرشد ، حيث كان يقاتل في سبيل تحقيق وحدة وطنية قوية كبدته قدراً هائلاً من الجهد والوقت كما انه استخدم كل الامكانات المتاحة بمهارة شديدة بما في ذلك المفاوضات السياسية التي لجأ إليها في (شوال 1058هـ/31 اكتوبر 1648م) ، وعند وفاته (48) لم يبق تحت السيطرة البرتغالية الا مسقط ومطرح وحصن لهم في صحار (49) ، وقد حاول الامام أن يسترد هاتين المدينتين وبعث بمسعود بن رمضان على رأس جيش بهدف تحريرهما ، وتمكن مسعود بن رمضان من الوصول إلى مطرح وضرب عليها حصاراً في وقت تفشى فيه مرض الطاعون واصيب البرتغاليون بهلع شديد (50) .
ولم يؤد هذا الحصار إلى تحرير مسقط ومطرح وانما نجم عنه ابرام هدنة جاءت معظم بنودها في صالح العمانيين (51) .
وكان ابرام هذه الهدنة بمثابة اختبار عملي لقوة كل من الطرفين حيث ادرك العمانيون حالة الوهن الذي وصل إليه البرتغاليون وفي الوقت نفسه كان الامام ناصر بن مرشد في اشد الحاجة لالتقاط الانفاس واعادة تقييم الموقف . ومن جانب اخر فقد شعر البرتغاليون بنوع من الارتياح خصوصاً وقد سبق لهم ان ابرموا صلحاً مع الانجليز ، إلا أنهم تورطوا في صراع جديد مع الهولندييـــن (52).
وقد تضاعفت طموحات العمانيين وادركوا انهم قاب قوسين أو أدنى من تحرير بلادهم من احتلال دام اكثر من مائة واربعين عاماً . وبوفاة الامام ناصر بن مرشد كان العمانيون قد وضعوا اقدامهم عند نهاية الطريق بعد رحلة طويلة من الجهاد والتضحيات وامتد جهادهم إلى جلفار (رأس الخيمة) التي كان البرتغاليون يحتلون احدى قلاعها بينما الفرس بقيادة ناصر الدين الفارسي يحتلون القلعة الثانية (53) .
وتشير كتب التراث العماني إلى أن ناصر الدين الفارسي هذا كان متحالفاً مع اعداء الامام وعلى علاقة قوية مع مانع بن سنان وناصر بن قطن وهما من اكثر الزعامات المحلية عداوة للامام ، ولهذا كان تحرير جلفار يمثل رغبة اكيدة في مخططات اليعاربة ، حيث قاد علي بن أحمد حملة اعتمدت على عنصر المباغته والالتفاف بشكل سريع مما اربك الحاميات المدافعة عن جلفار وعندما ضاعفت القوات العمانية من حصارها طالب البرتغاليون السماح لهم بالانتقال إلى مسقط، وهكذا بدأت تتهاوى كل القوى المناوئة لليعاربة ، مع ملاحظة أن كل انتصار كان يفتح المجال لمزيد من التفكير لانتصار اخرى وهكذا . استطاع سلطان بن سيف الذي بويع بالامامة (ربيع الثاني 1059هـ/ابريل 1649م) بعد وفاة الامام ناصر بن مرشد أن يواصل الجهاد ، حيث سبق له أن تمرس على الاعمال الحربية ، حينما ارسل عدة مرات إلى مسقط لتسليم الجزية المستحقة على البرتغاليين ، ولذا فقد كان الامام الجديد اهلاً لتولي القيادة في وقت كانت البلاد في اشد الحاجة إلى مواصلة المسيرة التي بدأها الامام ناصر بن مرشد .
ومن البداية أخذ الامام الجديد يعد العدة للقضاء على البرتغاليين ، وأدرك أهمية الوقت كعامل هام في الاجهاز عليهم وخصوصاً بعد أن نما إلى علمه إن عدد جنودهم قد نقص نقصاً كبيراً بسبب حملات برتغالية كانت قد ارسلت إلى الهند (54) إعتقاداً بأن موت الإمام ناصر بن مرشد يعد سبباً كافياً لإرجاء أي نوايا عدوانية نحو مسقط ومطرح ، إلا أن سلطان بن سيف لم يمكث إلا أياماً قليلة وأسرع متخذاً من طوي الرولة قاعدة للهجوم الشامل عليهم ، بينما تحصن البرتغاليون بقلاع وأسوار عالية ، حيث رابط جنودهم بعد أن ثبتوا مدافعهم الثقيلة في كل إتجاه ، وزيادة في الحيطة فقد حفروا خندقاً عميقاً حول الأسوار ، كما بنوا على رؤوس الجبال المحيطة بمسطق ومطرح مجموعة أبراج ثبتوا في داخلها جنوداً أشداء أخذوا يمطرون القوات العمانية بوابل من نيران مدافعهم (55) .
وكانت الحرب سجالاً بين الفريقين ، فلم تكن للبرتغاليين قدرة على مواجهة العمانيين ولم يكن للعمانيين قدرة على دخول مسقط ومطرح ، وأعتمد الجيشان على القنص كلما اتيحت الفرصة لذلك، وهكذا طالت الحرب حتى كاد سلطان بن سيف أن يتراجع عن حصاره ، وخصوصاً بعد أن نما إلى علمه أن بعض القبائل بدأت تفكر في التراجع عن مساندته .
ولكن حدث شيء لم يكن في الحسبان ، إذ أن الإمام سلطان بن سيف قد تلقى معلومات على غاية من الأهمية من العرب القاطنين حول مسقط (56) ، مكنته من دخول المدينة ولا يستبعد أن تكون هذه المعلومات كانت تعبر عن حقيقة الأوضاع داخل المدينة وخصوصاً عند نهاية ذي الحجة 1059هـ/ديسمبر 1649م وهو موعد راس السنة الميلادية ، حيث لم تكن هناك ثمة مراقبة دقيقة مما سهل على العرب مهمة التسلسل إلى داخل مسقط (57) وأطلعوا على أحوال البرتغاليين ونقلوا الى الإمام ما رأوه . ولم تلبث قوات الامام ان حاصرت البرتغاليين في قلعة الجلالي ، وبعد أن نفدت مؤونتهم اضطروا إلى التسليم وتركوا القلعة (58) ، وهذا ما حدث في مطرح أيضاً ولم يبق للبرتغاليين غير سفينتين كانت تحاصران مسقط إلا أن العمانيين تمكنوا من اسرهما ، وعندما وصلت هذه الاخبار إلى السلطات البرتغالية في الهند اسرعت بارسال اسطول برتغالي كبير ولكنه وصل متأخراً ، فقد كانت كل القلاع وكل الحصون البرتغالية قد تهاوت وسقطت في يد العمانييـن (59) ، واصيب البرتغاليون بخسائر جسيمة ، حيث قتل معظم جنودهم ، وكل المحاولات التي قاموا بها في الهند لامتداد مسقط باءت بالفشل ، وبنهاية 1063هـ/1652م لم يبق للبرتغاليين في الخليج إلا وكالتهم في كنج على الساحل الشرقي من الخليج .
ومع ذلك فلم يفقد البرتغاليون الامل في استعادة ساحل عمان ، حيث راحوا يدعمون مركزهم في كنج بل واخذوا يتفاوضون مع الفرس على السماح لهم بانشاء وكالة تجارية في جزيرة هانجام ، إلا أن الشروط الفارسية كان مبالغاً فيها ، ولذا فقد رفض البرتغاليون العرض الفارسي (60) ويؤكد لوريمر ان سبب رفض البرتغاليين للعرض الفارسي هو تطلعهم إلى الساحل العربي ، حيث كانت تبذل محاولات في هذا الصدد (61) .
وفي الوقت نفسه لم يتوقف العمانيون عن مطاردة البرتغاليين حتى ، بعد أن التجأوا إلى وكالتهم التجارية في كنج ، والتي لم تنج من هجمات العمانيين الذين أخذوا يتعقبون عدوهم في الهند وشرق افريقيا ، مما جعل خطوط الملاحة بين الوكالة التجارية للبرتغاليين في كنج وبين شرق افريقيا والهند تبدوا مستحيلة في ظل السيطرة العمانية ، ولذلك اضطر البرتغاليون الى الانسحاب من كنج نهائياً (62) . وهكذا طرد البرتغاليون من عمان والخليج ، ولاشك أن طردهم نهائياً من الخليج يعد عملاً بطولياً وصفحة مشرفة في التاريخ العماني .
لم يكتف العمانيون بطرد البرتغاليين من سواحل عمان بل شنوا عليهم حرباً تمثلت في سلسلة من الغارات ضدهم في المحيط الهندي برا وبحراً ، وتعرضت المواقع البرتغالية في الهند إلى تلك الهجمات ... بومباي 1072هـ/1661م ديو في رجب 1079هـ/نوفمبر 1668م وفي شوال 1086هـ الموافق يناير 1676م وكذلك في سنة 1081هـ الموافق 1670م ، وباسين Bassein في 1085هـ الموافق 1674م ، وامتدت المعارك لتشمل غرب المحيط الهندي حيث خاض الطرفان صراعاً طويلاً للسيطرة على شرقي افريقيا (63) . فقد اتصل سكان زنجبار الذين ربطتهم عوامل دينية وقومية مع العمانيين بالامام سلطان بن سيف من اجل تحريرهم من الاستعباد البرتغالي وبالرغم من الانتصارات التي حققها الامام سلطان بن سيف في مياه زنجبار ، إلا أن الجلاء البرتغالي لم يتم الا في عهد ابنه الامام سيف بن سلطان الذي وضع حجر الاساس لبحرية عمان الشهيرة التي سيطرت على جميع الساحل الافريقي الشرقي من (ممباسة) الى (كلوه) اذ سيطر العمانيون على ممباسة 1110هـ/1698م وسيطروا على بيما وزنجبار وبته Patta وكلوه، وكانت (موزمبيق) هي الوحيدة التي قاومت الاسطول العربي العماني وبقيت بايدي البرتغاليين إلى القرن العشرين (64) . وقد حاول البرتغاليون استعادة مراكزهم البحرية الضائعة وقاموا بهجوم موحد على زنجبار ومسقط في آن واحد عام 1142هـ /1729م ، ولكنهم اصيبوا بهزيمة منكرة ، وبذلك انهارت آمال البرتغال في استعادة سيادتها على الخليج العربي والمحيط الهندي (65) ، وامتد نفوذ عمان من جنوب الجزيرة العربية وسواحل شرقي افريقيا في الغرب إلى سواحل وادي السند في الشرق .
وفي هذه الفترة اصبحت مسقط تتمتع بـ (مركز التوزيع التجاري الرئيسي) ، لمنطقة الخليج العربي ، فاصبحت واحدة من الموانىء الرئيسية في المحيط الهندي وسواحل الخليج وايران والعراق والجزيرة العربية ، وفي حدوده الغربية امتد هذا النفوذ إلى البحيرات الافريقية المركزية ، وفي الشرق لامس (66) دلتا الكنج .
وهكذا ظهرت قوة عمان بعد القضاء على الهيمنة البرتغالية بشكل بات يخشاه الجميع ، فقد اصبحت السفن العمانية هي التي تبحث عن سفن الاعداء في مياه الخليج العربي والمحيط الهنـدي (67) ، واضطرت السفن الهولندية والانكليزية إلى تعزيز دفاعاتها تخوفاً من عرب عمان (68) . وقد عبر المقيم البريطاني في بندر عباس عن مخاوفه من تنامي قوة عمان بقوله ، سنة 1106هـ/1694م : (انهم سيثبتون انهم كارثة كبرى على الهند كالجزائرين في اروبا) (69) .
وقد أشارت السلطات الصفوية ايضاً إلى تفوق العمانيين في هذه الفترة من خلال مذكرة رفعتها إلى الحكومة الفرنسية جاء فيها : (ان تمتعهم بموقع جغرافي مهم يتيح لهم الفرصة للسيطرة على الخليج ، وهذا يفسر قوة العمانيين الذين يتمكنون بما يناهز الثلاثين قارباً من الاستيلاء على الغنائم)(70) .
ذلك ان الانتصارات التي حققها اليعاربة اثارت فارس التي كانت تتطلع إلى وراثة النفوذ البرتغالي، ولذا فقد تعددت المواجهات العمانية الفارسية والتي جاءت في صالح اليعاربة ، بدرجة ان التجارة الفارسية اصيبت بضرر بالغ مما دفع بالفرس الى الاستعانة بالقوى الاوروبية بهدف القضاء على منافسة عمان لها في هذا الميدان ، واتصلوا بالانجليز لتحقيق هذا الهدف (71) .
وإذا كان الانجليز لم يتحمسوا للعرض الفارسي خوفاً على مصالحهم الاقتصادية من الاسطول العماني ، فقد توجهت فارس الى فرنسا على عهد لويس الرابع عشر وتمخضت الاتصالا عن توقيع معاهدة بينهما في عام 1119هـ/1707م وكان من بين النصوص السرية التي احتوتها تلك المعاهدة ان يقوم الفرنسيون بارسال اسطول لمساعدة فارس في غزو مسقط ، إلا أن فرنسا ترددت قبل الاقدام على تلك الخطوة بنفس السبب الذي منع الانجليز من تضامنهم مع فارس ، على الرغم من الدبلوماسية النشطة التي مارسها الفرس في محاولة للضغط على لويس الرابع عشر .. وعموماً فلم تسفر الاتصالات عن قيام تحالف فارسي فرنسي على الرغم من ابرام اتفاقية جديدة في عام 1127هـ/1715 ، ولعل ما حال دون اقدام فرنسا على تنفيذ بنود المعاهدة الجديدة تلك الفوضى التي اجتاحت فارس وما ترتب عليها من غزو افغاني لها في عام 1135هـ/1722م . كانت البرتغال قد ادركت في تلك الفترة أن زمن الضعف العربي قد ذهب وأن مواجهة اليعاربة في كل مراحل الصراع قد باءت بالفشل وان استمرار الوضع يعني ضياع كل الممتلكات البرتغالية على سواحل الهند وشرق افريقيا ولذا فقد راحوا ينسقون مع الفرس في محاولة لقيام تحالف عسكري يكون قادراً على ضرب اليعاربة .
وقد ادرك سلطان بن سيف خطورة هذا التحالف الجديد ، ولذا فقد عجل بضرب البرتغاليين وتصفية نفوذهم ، وقسم اسطوله الى قسمين احدهما توجه إلى شرق افريقيا حيث نجح في انتزاع ممبسا 1110هـ/1698م تمهيداً لانتزاع الجزيرة الخضراء وكلوه (72) .
اما القسم الاخر من الاسطول فقد توجه الى الهند ، حيث نجح في تدمير الوكالة البرتغالية في مانجالور على الساحل الهندي (73) .
ويعد سقوط ممبسا في يد اليعاربة نقطة تحول خطيرة في تاريخ الاسلام ، فمن المعروف ان البرتغاليين قد تمكنوا من خلال تواجدهم في شرق افريقيا والهند من العمل على نشر عقيدتهم الكاثوليكية ، إلا أن اليعاربة كان لهم اكبر الاثر ليس في توقف هذا النشاط الكاثوليكي فقط ، بل وارغام البرتغاليين على الجلاء عن جميع الساحل الذي يقع شمال خليج دلجادو .
وهكذا استطاع اليعاربة كسر شوكة البرتغاليين وانهاء سيادتهم الاحتكارية والقضاء على مراكزهم الاستراتيجية سواء على الشاطىء الافريقي أو على سواحل الهند ، ويقرر المؤرخ الانجليزي كوبلاند Coupland ان البحرية العمانية مع مطلع القرن السابع عشر قد وصلت إلى درجة من القوة فاقت أي قوة بحرية اخرى حيث كانت الاساطيل الانجليزية والهولندية تخشاها ، ويكفي ان هذا الاسطول استطاع أن يقوم بكل هذه العمليات الناجحة في هذه المنطقة الشاسعة وان يجعل الرعب يملاً قلوب الجميع ، سواءً سكان البلاد الواقعة على الخليج أو المحيط أو التجار الاوروبيين (74) . وبكل المقاييس فقد نجح العمانيون وحتى نهاية عهد سلطان بن سيف الثاني عام 1130هـ / 1718م في ايجاد قدر كبير من التوازن الدولي انعكست نتائجه على كل المستويات ، وترك انطباعاَ هائلاً لدى الاوروبيين عن هيبة الدولة ، حيث عملت العديد من القوى الاوروبية على كسب ودها ، ولعل الازدهار الاقتصادي الذي وصلت اليه دولة اليعاربة ومكانة اسطولها البحري كان نتاجاً طبيعياً لقوة الدولة وحجم نقلها البحر يفي كافة البحار الشرقية ، في ظل جو مناسب من الالفة لدى عناصر السكان في عمان ، حيث انعكس ذلك على كافة مشروعات التنمية الاقتصادية في شتى مناحيها وبات الناس في امن على حياتهم وارزاقهم في ظل سياج من الهيبة والعدل .
واذا كان اليعاربة قد نجحوا كل النجاح في تحقيق هذا الازدهار الذي ترتب على انهيار النفوذ البرتغالي وكسر احتكاره لتجارة المنطقة ، فان من المفيد في هذا المجال ان نعرض للأسباب التي ادت إلى انهيار هذا النفوذ ومكن اليعاربة من هذا النجاح . والحقيقة فان الاسباب التي عجلت بانهيار النفوذ البرتغالي في عمان والخليج العربي عديدة منها :
أولاً : طبيعة الاستعمار البرتغالي للمنطقة التي كانت ترتكز على سلسلة من القواعد العسكرية الواقعة على الطريق البحري بين الهند والبرتغال ، فلم يتوغل البرتغاليون في عمق البلاد التي استعمروها ، وما كانوا يستطيعون ذلك لقلة عدد سكان البرتغال ، ولاتساع امبراطوريتهم وكان الابقاء على تلك القواعد في ايديهم مرهون بقوة البحرية البرتغالية فلما ضعفت ضاع كل شيء.
ثانياً : كانت حركة المد البرتغالي تمثل الموجة الاستعمارية الاولى المتعطشة للغزو ونهب ثروات الشعوب وكان الميدان خالياً أمامها ، فلما دخلته قوة اوروبية اخرى اكثر منها قوة مثل هولندا وبريطانيا وفرنسا ، ولا تقل عنها تطلعا في ان يكون لها نصيب في الغنيمة يتفق مع ثقلها السياسي والعسكري ، لم تقو البرتغال على الصمود امام هذه القوى الطامعة .
ثالثاً : حسن اختيار العمانيين للظروف الدولية المناسبة لتوجيه ضرباتهم القاضية ضد الوجود البرتغالي في عمان فالتنافس الذي ساد العلاقات بين البرتغاليين من جهة والفرس والهولنديين والانجليز من جهة اخرى ، ورغبة الفريق الثاني في القضاء على النفوذ البرتغالي وابعادهم عن الخليج ساعد العمانيين إلى الحد الكبير .
رابعاً: اتبع البرتغاليون سياسة الشدة والبطش في معاملاتهم للشعوب التي حكموها وقيامهم باستنزاف ثرواتها ومواردها زاد في كراهية الشعوب لهم وجعلها تتحين الفرص المناسبة للخلاص من نيرهم .
خامساً: ازدياد قوة العمانيين وثقتهم بانفسهم وتفوقهم في الملاحة البحرية إذ ادرك العمانيون حقيقة الصراع بينهم وبين البرتغاليين انه صراع بحري أولاً وقبل كل شيء ... ولذا فقد اعدوا اسطولاً بحرياً مدرباً ومنظماً ومعداً احسن اعداد ومن ثم امكنهم ان يتغلبوا على أهم نقاط القوة لدى البرتغاليين . وكان من أهم العوامل التي أدت إلى القضاء على النفوذ البرتغالي في عمان والمحيط الهندي .
سادساً: الوحدة الوطنية باعتبارها الدرس الأول الذي التزم به ناصر بن مرشد ، وبغير الوحدة لن تتحقق المصالح العليا للبلاد ، وفي سبيل الالتزام بهذا المبدأ خاض الامام حروباً ضارية ضد انصار التجزئة كما سبق القول .
سابعاً: عناية اليعاربة باستثمار كل مقومات النجاح ، وكانت الزراعة في مقدمة اهتماماتهم حيث شقت الافلاج وتم جلب كثير من المحاصيل الزراعية من شرق افريقيا حيث نجحت تجربة زراعتها بشكل ملحوظ مما اوجد رواجاً اقتصادياً .
ثامناً : عناية اليعاربة بتوفير كل مقومات النجاح لحركة التجارة بعد أن تم القضاء على سياسة الاحتكار التي ابتدعها البرتغاليون وباتت تجارة الخليج العربي جزءاً من حركة التجارة العالمية وهو ما عاد على عمان بطفرة اقتصادية هائلة .
تاسعاً: العودة إلى الجذور العمانية الاصيلة بابراز الهوية العربية والاسلامية وفي هذا المجال نجح اليعاربة بشكل ضاعف من ترابط دولتهم وادى إلى طرد عدوهم أسباب كثيرة كما نرى ادت وساعدت على القضاء على النفوذ البرتغالي سواءً في عمان أو في ساحل شرقي افريقيا ، بل وفي المحيط الهندي كله وكما رأينا فقد كان للعمانيين في عهد اليعاربة القدح المعلى والنصيب الاوفر في القضاء على هذا النفوذ الذي استمر قرابة قرن ونصف من الزمان .
وكما كان هنالك اسباب ادت الى القضاء على النفوذ البرتغالي ، فهناك ايضاً نتائج على درجة كبيرة من الاهمية ترتبت على ذلك وعلى خروجهم من عمان بالذات واثرت تأثيراً عميقاً على المنطقة كلها . ويمكن اجمال هذه النتائج فيما يلي :
أولاً : ان نجاح العمانيين وحدهم في اجلاء البرتغاليين من ارضهم قد رفع روحهم المعنوية واشعرهم بقوتهم وبمدى ما يمكن ان يقوموا به وهيأت لهم هذه الفرصة ان يلعبوا دوراً في النشاط البحري في الخليج ولا سيما منذ منتصف القرن السابع عشر وحتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر .
ثانياً : افلح العمانيون في القضاء على سياسة احتكار التجارة التي انتهجها البرتغاليون وحققوا مبدأ حرية التجارة لجميع الاجناس ، فعاد الانتعاش الاقتصادي اليهم وساعدهم هذا على ان يصبحوا قوة مؤثرة في منطقتهم ، بل وفي شرق افريقيا كذلك .
ثالثاً : تطلع الفرص في ان يحلوا محل البرتغاليين وان تكون لهم الزعامة في الخليج ، وساعدتهم بريطانيا على ذلك لاسباب عديدة ، منها وجود مصالح عامة لشركة الهند الشرقية الانجليزية في فارس وكذلك مساعدة الفرس للبريطانيين في القضاء على منافسة الهولنديين في الخليج اضف الى ذلك عدم وجود تنظيمات عربية تلفت الانتباه والدخول معها في علاقات مباشرة في ذلك الوقت .. وتترتب على ذلك دخول فارس في صراع مع العمانيين ، وطلبهم المساعدة من القوى الاستعمارية الطامعة في الخليج .
رابعاً : أن زوال الوجود البرتغالي من عمان على وجه الخصوص ومن الخليج العربي على وجه العموم ، اتاح للقوى العربية ان (تؤكد لنفسها زعامة الخليج) (75) وظهرت هذه الزعامة بشكل واضح في القرن الثامن عشر .
خامساً: اعقب خروج البرتغاليين من الخليج العربي تحركات جماعية ادت إلى وجود تشكيلات سياسية استقرت على السواحل الغربية للخليج ، مثل العتوب في الكويت وامتداد فروعهم في قطر والبحرين .
وهكذا نرى ان هنالك نتائج عديدة وهامة نتجت عن طرد البرتغاليين من الخليج العربي ، وكانت الوحدة الوطنية التي حققها اليعاربة الاوائل هي محور الزوايا في هذا النجاح العظيم ، وايضاً في تحقيق كثيراً من الانجازات الداخلية التي تمت في عهد اليعاربة الاوائل ، وفي عهد من خلفهم من الائمة ، واولهم الامام بلعرب بن سلطان بن سيف .