قُدر لي أن أصبح معلمة !
أول فكرة غزت ذهني بينما كنت أنزل من السيارة ويدي اليمنى تحاول عدم إفلات الكتب المتكومة على بعضها .
أنصتُ لوقع خطواتي على الرصيف المصبوغ باللون الأسود والأبيض والذي تداخل مع آلاف الخطوات المنسابة كلحن نشاز من آلة موسيقية عتيقة بين يدي موسيقار مبتدئ ،كانت الوجوه كثيرة ، متباينة تحمل تثاؤب الصباح الأول محاولة الالتصاق ببعضها في صفوف متوازية للقضاء على الهواء البارد الذي لم تستطع الشمس التهامه بعد . بينما اللون الكحلي والبياض الشاحب الذي يحيط بها يبدو كمزيج باهت يزيد من حدة اللون الأسود الذي طغى على مساحات واسعة من الأرض التي أقف عليها ، ثم تدافعت الأجساد في صفوف عبر الباب الأسود الكبير .
وهدأ كل شيء في لحظات وأصبحتُُ قادرة على تمييز وقع حذائي مرة أخرى .
أثناء دخولي إلى المدرسة حدقتُ في اللافتة المنتصبة في أعلى جهة من يمين الباب الأسود، وكان من الواضح أن يد الخطاط عبثت ببعض حروفها محاولة إصلاح ما اندثر من أجزائها.
أثناء سيري بدأ الغبار يلتصق بأجزاء من عباءتي التي انسدل جزء كبير منها في الأرض ،كنت أحاول إحصاء عدد الشجيرات على جانبي ممر المدرسة وواصل الغبار تسلقه المتسارع مع كل شجرة أحصيتها .
وقفتُ أمام لافتة متواضعة تحمل اسم "غرفة المعلمات "بدت لي الغرفة مهترئة بصرير بابها الطويل ،استقبلني أثناء دخولي صف من الكراسي البلاستيكية وستارة مالت على الجانب الآخر بدون ترتيب ،حتى الغبار الكثيف لم أجد له تفسيرا إلا بعد أن أدركتُ وجود عاملة واحدة تسارع الخطى في جهاد دائم لكنس ما تصل إليه يداها من الأكوام المتجمعة هنا وهناك .
جلستُ في أول مقعد صادفني ، وضعتُ الكتب على الطاولة ،ما زالت الغرفة فارغة من الأجساد ،كومة أوراق مبعثرة حاولت تجنبها وأنا افتح الشباك المجاور الذي أصدر صوتا طويلا ترافق مع الهواء البارد الذي بدأ يلسع وجهي بقسوة .
جلستُ، أمسكتُ القلم الأحمر ونظرت إلى أول ورقة في دفتري، مازال الهواء البارد يصطدم بظهري مثيرا ارتجافا حاولت تجاهله مرارا.
قدر لي أن أصبح معلمة !
مازلت أمقت الطاولات والكراسي ورائحة الكتب وكل ما يتصل بها وأذكر إنني جمعتُ أكداسا من الدفاتر بعد نهاية كل فصل ينصرم لأمارس هوايتي المفضلة ، " رسم الوجوه" لم أجد تفسيرا لهذا العمل حتى بعد دراستي لعلم النفس في الكلية ،ورضيت في النهاية تفسيره على أنه محاولة هروب من الواقع إلى أرض أرسمها بنفسي أنا اختار الوجوه فيها،المسميات ،الأحداث والنهايات السعيدة وتطور الأمر الى خلق شخصيات خيالية تشاركني الكثير من المواقف الحياتية ،تنتابني عندها حالة من النشوة وأنا أصارع من اجل البطل محاولة رسم نهاية تناسبه وتناسبني، أحب رسم الوجوه أعشقها أعيش في عالمها متجاهلة كل نداء يحاول أن يخرجني عنوة من بينها حذرتني أختي عندها من تطور الأمر الى حد الإصابة بأحد الأمراض النفسية . وأجبتها بصمت جعل صراخها يعلو ويعلو ...
مازالت رائحة الكتب تخنقني أحاول الفرار منها بعد كل فصل ،ألقيها في درج محكم الإغلاق ،أنسى كل ما يربطني بها وأتحول مباشرة الى هوايتي "رسم الوجوه".
جمعت الآن رصيدا لا باس به من الأوراق التي تحمل وجوها عدة باكية، ضاحكة، متعجبة،...........وقبيحة.
تمنيت عندها أن أتعلم الرسم حتى استطيع أن أخط وجوها اكبر وتقاسيم أجمل وضحكات أكثر لا أظن أن معلمة الفنية رحبت بي آنذاك .ورغم هذا واصلت إنتاج العديد من تلك الوجوه وازداد رصيدي من الأوراق التي أملكها .
قدر لي أن أصبح معلمة !
في آخر سنة دراسية أجبرت على مضغ مزيد من الكتب "أنها السنة الأخيرة السنة التي تحدد مستقبلي "على حد قول أختي.
أكوام من كتب الكيمياء تنام من حولي وأوراق كثيرة غيرت من لون سجادة الغرفة الأحمر الى اللون الأبيض الممزوج بحبر من ألوان شتى ، تعفن جسدي مع كل تلك الكتب التهمتُ أوراقها التهاما أصبح صباحي كتب ومسائي كتب وحياتي أوراق وكتب ،تناسيتُ الوجوه التي طالما رسمتها وضعتها في الدرج العميق وأقفلتُ عليها بإحكام ،نزعتُ كل تلك الشخصيات من عقلي وتجاهلتُ هذه الرغبة في أحيان كثيرة والوجه الوحيد الذي كان يترأى لي هو وجهي المنعكس على زجاج نافذة غرفتي كان يبدو متعبا واضطررتُ عندها لتغيير جلستي حتى لا أرى انعكاسه الشاحب وأصبحتٌ أعيش للكتب وفي الكتب وبالكتب وحدها .
قدر لي أن أصبح معلمة !
اليوم مازالت الكتب تشاركني حياتي وقفت كثيرا لأتذكر وجوه أبطالي ولكن ذاكرتي النخرة لم تستطع إلا أن تصور وجوها دائرية وشعرا طويلا مسترسلا وعيونا واسعة أعطيها اللون الأزرق في أغلب الأحيان و.............
أيقظني صوت الجرس المترافق مع احتكاك الأجساد القادمة والهمهمات التي بدأت تثور مع الهواء البارد الذي ملأ صدر الغرفة .
نظرت إلى الورقة كانت تحمل أكثر من وجه، طويتها ووضعتها في حقيبتي لم استطع أن أتذكر فيما بعد هل ابتسمت أم.........؟!
حملت سجلاتي من على الطاولة، نفضت الغبار الملتصق بها،وفور انتهاء طابور الصباح اتجهت نحو وجوه الطالبات المصفوفة بجوار بعضها البعض السكون سيطر على الغرفة كانت الوجوه ترمقني تنتظر كلماتي بريق يزين تقاسميها ابتسمتُ وأصبحتٌ مستعدة لأنطق أول كلمات الدرس أمام وجوه، وجوه متباينة مبتسمة، متعجبة و...........ولكنها من لحم ودم هذه المرة.
gmar/ 2007