كلكامش
¬°•| عضو مبتدى |•°¬
شاكر الصغير هو مسؤولي المباشر في مقهى يوسف ويكبرني بسنوات، وأنا رغم كثرة أوامره سعيد برفقته فنحن الاطفال الوحيدون في المقهى نعمل فيه كل إجازة صيفية.
.. يوسف هو رأس الهرم في المقهى وصاحبه وينحصر عمله بالجلوس عصراً في صدر المقهى مع الزبائن المهمين ويسهر ليلة كل خميس للاشراف على تسجيل مطربي المقهى في داخله وبطريقة بدائية، حيث يتوسط الطاولة المسجل أبو البكرة ـ الاسطوانة القديمة، وعلى مقربة منه اعضاء الفرقة الموسيقية: عازف الكمان فالح حسن الملقب بشيطان الكمان واسكندر الاسمر عازف الايقاع ـ الطبلة بانواعها وعازف الدف ـ الرق ـ عبد رويع ثم المغني: والمغني قد يكون سيد محمد أو سلمان المنكوب أو حسين سعيدة.
لا بد من شخص ثري يعشق هذه الاصوات يقوم بدفع التكاليف المالية من مأكولات ومشروبات وطبع الأشرطة، ذلك مقابل ان يذكر المطربون اسمه عدة مرات بين فواصل الغناء.
.. أما«لفتة» ـ أبو هاشم فهو الذراع اليمين ليوسف، المسؤول المباشر عن ادارة المقهى من شراء الشاي والسكر ـ والنومي بصره والليمون والماء والثلج وترتيب الكراسي وعلب الدوميينو وتشغيل مسجل المقهى العتيق واستبدال الأغاني وتسليم طلبات الزبائن باختيار أغاني مطربهم المفضل.. وهو الذي يتسلم الأجور بعد الرجوع إلى شاكر عن الكمية المستهلكة من السوائل من الزبون المغادر.
.. وأما شاكر فهو الذي يحمل اكواب الشاي والليمون الى الزبائن ويحفظ اسماءهم ويحصي طلباتهم ثم يعيد غسل الأكواب.
أحتل أنا المركز الأخير بسقي الزبائن اكواب الماء ثم جمعها وكنت أعاني كثيرا أمام البرميل الفخم في اقصى زاوية في المقهى.. كنت أحمل آنيتي وأقف على دكة خشبية واكاد أغطس في البرميل كي اغترف منه.. أعود لاهثاً مبللاً وأسقي الزبائن وهم لا يرتوون لو أفرغت نهر دجلة في أجوافهم.. ماء.. ماء.. ماء.. واستجدت لي مهمة أخرى عملت إنقلاباً في مساء عملي، فقد كلفني أحد الزبائن وهو يعطيني ورقة وقلماً أن اكتب له كلمات أحدى الاغاني ليحفظها، وكم استسهلت طلبه لأني حفظت أغاني المقهى عن ظهر قلب فأنا أسمعها عشرات المرات وتطن برأسي حتى النوم. فرح الرجل وجاء زبون آخر وثالث ورابع وراح الزبائن يقدمون لي مكافأة منفردة ـ خمسة فلوس ـ فتفوق أجري اليومي على اجر شاكر بكثير، غضب شاكر وهددني وساومني بأن يقتسم معي الاجور، فلم أجد طريقا إلا الموافقة، غير ان شاكر أصابته غيرة أخرى فهو لا يود أن يسمع ثناء الزبائن عليَّ.. بعد ان أصبحت أضع الآنية الكبيرة على الطاولة ويقومون هم بشرب الماء، فاقترح عليّ أن يتسلم هو الأجور مباشرة ثم يسلمني حصتي كل اسبوع.. فرفضت بشدّة، وقلت: سأترك العمل بالمقهى.
قال ـ هه.. سيموت الزبائن عطشاً.. مع السلامة.
وامتثل العم ـ لفتة أبو هاشم ـ لنكاية شاكر فأبلغوا أبي انني فشلت في عملي.. وأنا في الحقيقة فشلت في الدفاع عن نفسي أمام أبي. فلم أضيع الوقت والتحقت بمهنة اخرى كان يمارسها خضير عبد الله ابن الجيران ـ مهنة بيع المثلجات في عربة جوّالة والتطواف على الاحياء الشعبية، وهي مهنة شاقة خطيرة على من هو في عمري.
قابلت صاحب معمل المثلجات فقال: اعطني جنسيتك.
فأول شروط هذه المهنة ان تسلم للمالك بطاقة الأحوال المدنية، فالعربة معرضة للسرقة والمثلجات معرضة للذوبان.
دفعت عربتي فجراً ولم أترك شارعاً إلا سلكته وقد بُحّ صوتي من المناداة لترويج بضاعتي.. في البداية كنت سعيداً لأني حر في اختيار الشوارع والاحياء ولا أحد فوق رأسي يأمر وينهي ثم إنني اتنفس هواء نقياً وأقف متى أردت حتى عند قصور الأثرياء.. وهكذا فعلت فمن باب أحد القصور خرج طفلان أنيقان كم يشبهان الأولاد المرسومين في كتاب القراءة.. اتجها إليّ بسرور واشتريا بلمح البصر وكم سررت بأول صفقة بيع مباشرة. إلا انني أخطأت في التجوال كثيراً في نفس الشارع وناديت وناديت فلا من مجيب.. وحين غيرت الشارع قابلني عشرات البائعين الصغار أمثالي.. ولم أبع قطعة مثلجة أخرى أبداً، ومن شارع لآخر ومن ساعة لأخرى حتى غابت الشمس وذابت معها مثلجاتي، فاحتبس صوتي وأنا افتح بطن العربة لأجد المثلجات وقد أصبحت بركة من الحليب السائل.
وها أنا أرتجف أمام شتائم صاحب المعمل وهو يزعق ـ لا أعطيك جنسيتك إذهب وهات أباك ومعكما ثمن المثلجات.
ـ كيف أذهب إلى أبي.. أأذهب إلى أهلي أجلب منهم نقوداً وهم الذين بعثوني لأجلب النقود؟ لن أذهب.
قال خضير عبد الله : سأذهب أنا وأخبر أباك فوراً.
ـ لا يا خضير سأذهب إلى شاكر فأنا أطلبه الكثير من النقود وهو السبب في كل ما حدث.. لا أحد غيري سيحل الموضوع.. أراك سعيداً بالخبر يا خضير.. أهيَّ بشرى سارة وصرخ صاحب المعمل ملوحاً بهراوته ـ أغربا عن وجهي.
.. عند باب المقهى أمسكت بتلابيت شاكر وبيدي قطعة من الحصى المدبب.
ـ إعطني كيس الدراهم وإلا شججت رأسك.
بهت شاكر فهو لم يرني أبداً بهذه الصورة وسلمني الكيس وهو يرتجف، وعدت جرياً فأنهيت مشكلتي مع صاحب المثلجات وتسلمت ـ جنسيتي ـ لتبدأ مشكلتي مع كيس الدراهم وشاكر وأبي والعم لفته الذي قال:
ـ لا بد أن يعود كريم إلى المقهى فشاكر كان مرتبكاً مريضاً لغيابه وان الزبائن تعودوا عليه.. تصور حتى الأسطا ـ يوسف صاحب المقهى سألني: أين اختفى الصبي أبو الماء هذا النشيط الأخرس؟
ضحكنا جميعاً فهو لم يسمعني في يوم ما أتكلم فظنني
.. يوسف هو رأس الهرم في المقهى وصاحبه وينحصر عمله بالجلوس عصراً في صدر المقهى مع الزبائن المهمين ويسهر ليلة كل خميس للاشراف على تسجيل مطربي المقهى في داخله وبطريقة بدائية، حيث يتوسط الطاولة المسجل أبو البكرة ـ الاسطوانة القديمة، وعلى مقربة منه اعضاء الفرقة الموسيقية: عازف الكمان فالح حسن الملقب بشيطان الكمان واسكندر الاسمر عازف الايقاع ـ الطبلة بانواعها وعازف الدف ـ الرق ـ عبد رويع ثم المغني: والمغني قد يكون سيد محمد أو سلمان المنكوب أو حسين سعيدة.
لا بد من شخص ثري يعشق هذه الاصوات يقوم بدفع التكاليف المالية من مأكولات ومشروبات وطبع الأشرطة، ذلك مقابل ان يذكر المطربون اسمه عدة مرات بين فواصل الغناء.
.. أما«لفتة» ـ أبو هاشم فهو الذراع اليمين ليوسف، المسؤول المباشر عن ادارة المقهى من شراء الشاي والسكر ـ والنومي بصره والليمون والماء والثلج وترتيب الكراسي وعلب الدوميينو وتشغيل مسجل المقهى العتيق واستبدال الأغاني وتسليم طلبات الزبائن باختيار أغاني مطربهم المفضل.. وهو الذي يتسلم الأجور بعد الرجوع إلى شاكر عن الكمية المستهلكة من السوائل من الزبون المغادر.
.. وأما شاكر فهو الذي يحمل اكواب الشاي والليمون الى الزبائن ويحفظ اسماءهم ويحصي طلباتهم ثم يعيد غسل الأكواب.
أحتل أنا المركز الأخير بسقي الزبائن اكواب الماء ثم جمعها وكنت أعاني كثيرا أمام البرميل الفخم في اقصى زاوية في المقهى.. كنت أحمل آنيتي وأقف على دكة خشبية واكاد أغطس في البرميل كي اغترف منه.. أعود لاهثاً مبللاً وأسقي الزبائن وهم لا يرتوون لو أفرغت نهر دجلة في أجوافهم.. ماء.. ماء.. ماء.. واستجدت لي مهمة أخرى عملت إنقلاباً في مساء عملي، فقد كلفني أحد الزبائن وهو يعطيني ورقة وقلماً أن اكتب له كلمات أحدى الاغاني ليحفظها، وكم استسهلت طلبه لأني حفظت أغاني المقهى عن ظهر قلب فأنا أسمعها عشرات المرات وتطن برأسي حتى النوم. فرح الرجل وجاء زبون آخر وثالث ورابع وراح الزبائن يقدمون لي مكافأة منفردة ـ خمسة فلوس ـ فتفوق أجري اليومي على اجر شاكر بكثير، غضب شاكر وهددني وساومني بأن يقتسم معي الاجور، فلم أجد طريقا إلا الموافقة، غير ان شاكر أصابته غيرة أخرى فهو لا يود أن يسمع ثناء الزبائن عليَّ.. بعد ان أصبحت أضع الآنية الكبيرة على الطاولة ويقومون هم بشرب الماء، فاقترح عليّ أن يتسلم هو الأجور مباشرة ثم يسلمني حصتي كل اسبوع.. فرفضت بشدّة، وقلت: سأترك العمل بالمقهى.
قال ـ هه.. سيموت الزبائن عطشاً.. مع السلامة.
وامتثل العم ـ لفتة أبو هاشم ـ لنكاية شاكر فأبلغوا أبي انني فشلت في عملي.. وأنا في الحقيقة فشلت في الدفاع عن نفسي أمام أبي. فلم أضيع الوقت والتحقت بمهنة اخرى كان يمارسها خضير عبد الله ابن الجيران ـ مهنة بيع المثلجات في عربة جوّالة والتطواف على الاحياء الشعبية، وهي مهنة شاقة خطيرة على من هو في عمري.
قابلت صاحب معمل المثلجات فقال: اعطني جنسيتك.
فأول شروط هذه المهنة ان تسلم للمالك بطاقة الأحوال المدنية، فالعربة معرضة للسرقة والمثلجات معرضة للذوبان.
دفعت عربتي فجراً ولم أترك شارعاً إلا سلكته وقد بُحّ صوتي من المناداة لترويج بضاعتي.. في البداية كنت سعيداً لأني حر في اختيار الشوارع والاحياء ولا أحد فوق رأسي يأمر وينهي ثم إنني اتنفس هواء نقياً وأقف متى أردت حتى عند قصور الأثرياء.. وهكذا فعلت فمن باب أحد القصور خرج طفلان أنيقان كم يشبهان الأولاد المرسومين في كتاب القراءة.. اتجها إليّ بسرور واشتريا بلمح البصر وكم سررت بأول صفقة بيع مباشرة. إلا انني أخطأت في التجوال كثيراً في نفس الشارع وناديت وناديت فلا من مجيب.. وحين غيرت الشارع قابلني عشرات البائعين الصغار أمثالي.. ولم أبع قطعة مثلجة أخرى أبداً، ومن شارع لآخر ومن ساعة لأخرى حتى غابت الشمس وذابت معها مثلجاتي، فاحتبس صوتي وأنا افتح بطن العربة لأجد المثلجات وقد أصبحت بركة من الحليب السائل.
وها أنا أرتجف أمام شتائم صاحب المعمل وهو يزعق ـ لا أعطيك جنسيتك إذهب وهات أباك ومعكما ثمن المثلجات.
ـ كيف أذهب إلى أبي.. أأذهب إلى أهلي أجلب منهم نقوداً وهم الذين بعثوني لأجلب النقود؟ لن أذهب.
قال خضير عبد الله : سأذهب أنا وأخبر أباك فوراً.
ـ لا يا خضير سأذهب إلى شاكر فأنا أطلبه الكثير من النقود وهو السبب في كل ما حدث.. لا أحد غيري سيحل الموضوع.. أراك سعيداً بالخبر يا خضير.. أهيَّ بشرى سارة وصرخ صاحب المعمل ملوحاً بهراوته ـ أغربا عن وجهي.
.. عند باب المقهى أمسكت بتلابيت شاكر وبيدي قطعة من الحصى المدبب.
ـ إعطني كيس الدراهم وإلا شججت رأسك.
بهت شاكر فهو لم يرني أبداً بهذه الصورة وسلمني الكيس وهو يرتجف، وعدت جرياً فأنهيت مشكلتي مع صاحب المثلجات وتسلمت ـ جنسيتي ـ لتبدأ مشكلتي مع كيس الدراهم وشاكر وأبي والعم لفته الذي قال:
ـ لا بد أن يعود كريم إلى المقهى فشاكر كان مرتبكاً مريضاً لغيابه وان الزبائن تعودوا عليه.. تصور حتى الأسطا ـ يوسف صاحب المقهى سألني: أين اختفى الصبي أبو الماء هذا النشيط الأخرس؟
ضحكنا جميعاً فهو لم يسمعني في يوم ما أتكلم فظنني