كلكامش
¬°•| عضو مبتدى |•°¬
رسالة لأمي، كتبت الرسالة من داخل السجن، وأمي لا تعرف القراءة والكتابة ولكن من حولها الكثيرين ممن يسرون لترجمتها لها.
ارتعش حاجبا حارس الزنزانة وتراجع وأنا أمد يدي بالورقة العارية من بين القضبان.
ـ رسالة عادية.. اقرأها بنفسك.. إنها لأمي التي تركتها مريضة وزادها مرضاً اختفائي المفاجئ الطويل، لن أنسى لك هذا الفضل ما حييت.
* يحصل هذا يا شاطر في السجون العادية وأنت وأنا نعلم ان النسمة هنا لا تغادر إلا بعد سين وجيم.
ـ مسألة انسانية يا أخي.
* الإنسانية ان لا تعيد عليَّ الموضوع ثانية.
ـ اقرأها.
* لن اقرأها.
ـ قسماً بالله لا رموز فيها ولا غموض.. أتعلم إنها قصيدة شعر؟ قصيدة لأمي.
*وأنا أيضاً عندي أم.. وسيعلم الله لو أوصلت رسالتك هل ستبقى أمي أو أنا على ظهر الوجود.. احمد الله إنك غير متزوج.. أنا عندي فريق كرة قدم في البيت ستؤهله رسالتك إلى كأس العالم.
ـ أتعرف الفنان سعدون جابر؟
*وأحب أغانيه.
ـ سلمها له فقط.
* والله لن ألمسها لو كانت للسيدة أم كلثوم.
ثم أقبلت ضوضاء أحذية عسكرية.. وأدى الحرس التحية عن بعد.
ـ نعم سيدي.. نعم سيدي..
هربت بجسدي إلى الخلف وتكورت في زاوية الزنزانة، ولم أفهم من سيل الحوارات العنيفة شيئاً ثم اختفت الاصوات وعم الليل ولم يشاركني سجني الانفرادي إلا ذلك المصباح الصغير الذي يذكرني بمصباح بيتنا القديم الذي كنت أفرش تحته دفاتر المدرسة الابتدائية وتشتعل فوق رأسي ملاسنات أبي وأمي المزمنة.. وأنا اتحداهما مردداً:
إلى متى يبقى البعيرُ على التل؟ ـ يبقى البعير على التل إلى المساء. عدتُ إلى رسالة أمي فطويتها وأودعتها في صندوق عدة الحلاقة.
من أنا؟ تساءلت في تلك اللحظة.. أنا ذلك النحيل المنسي.. سأبلغ العشرين من عمري قريباً غير اني لم أشبع من طفولتي لعباً ولا مرحاً.. داهمني العناء مبكراً فقد كنت الابن الأكبر لأب يجري تحت خط الفقر، ونجحت في التوفيق بين الدراسة والعمل إنما أضافت لي الأيام موهبة الكتابة مبكراً.. ففي الطفولة بدأت أنشر القصائد والحكايات، وذلك المسار أزعج أبي كثيراً خوفاً من أن تمنعني مجالس الأدب عن تحقيق حلمه بأن أكون ضابط شرطة، وأَما أُمي فلا بد أن تكون ضد رأي أبي مثل كل مرّة فانحازت إلى جانبي وشجعتني لا حباً في الشعر أو القصة أو الأغنية ولكن بغضاً لآراء أبي.
ونجحت في الشعر فأوصلتني القصائد إلى أحضان الشرطة فتصوّروا الآن حجم المعارك بين أبي وأمي.. فريق الشعر وفريق الشرطة.
.. عدت ثانية إلى الرسالة القصيدة وبدأت أتلوها والبعوض ولهيب أنفاسي هم جمهوري، إنه اختبار مبكر لرجولتي.. لأنسانيتي، ترى هل سأعيش ثانية؟..
وحيد والعزلة تعصرُ قلبي.. أتنفس حكايات أمي الشعبية فأستمد منها القوة والحكمة والصبر، أنا والشعر وحكاياتها بدأنا نخترع دواءً لصيانة الروح المحاصرة، وعلى جناح الأمل طرت متسللاً من كوة الزنزانة على جسر من النور الطويل أخذني الى شوارع مدينتي وضوضاء أصحابي الحانقين المتجمهرين حول بيت أهلي يعيدون كل ما قلته وما كتبته، بل ويكررون حتى نكاتي وأسراري الصغيرة، وتسللت الى بيتنا.. بيت أهلي.. بيت الطين والقصب والخشب.. ذلك البيت الذي تدخله الشمس والهواء من كل أركانه. ها هي باحة الحوش الترابية المرشوشة بماء دجلة.. رائحة الأرض مبللة بالماء.. يا ربي كم أعشقها.. لا عطر في الدنيا يعادلها.
هناك يشمخ ـ تنّور ـ أُمي كمدفع الافطار، يتصاعد منه الدخان حاملاً رائحة الخبز إلى السماء فتهبط العصافير والفاختات على نخلة الدار ويضج غناؤها مباركاً مائدة صغيرة لأسرة كبيرة، وحيث ترنو عيون إخوتي إلى أبي العملاق المهموم القليل الكلام الذي تخاف أمي وأولادها أن يمسه الغضب لحظات الافطار خاصة، فكأنه إذا غضب زلزال كاسح.
.. وجه أمي الذي يتصبب عرقاً أمام لهيب التنور توهج داخل زنزانتي وأنارها وطرد الوساوس والبعوض وهمهمات الضعف، ها هي تفتح باب الزنزانة وأخرج معها وتقف أمام أبناء الحي مزغردة:
ـ ها هو ابني.. ألم أقل لكم سيعود مرفوع الرأس؟!
لماذا أشعتِ إنه غاب تحت التراب.. لماذا أنا أم جاسم؟
زغردي يا أم داوود لأنك تحبينه.. عاد أخو داوود يا أم داوود.
وها هو أبي يعانقني مرتبك الخطى ولأنه بدين وثقيل كاد يقضم أذني وهو يقبلني، وحتما في هذا الموقف لم تغب نبرته العصبية:
ـ لم أترك مسؤولاً إلا قابلته لم أترك وزيراً إلا قبلت يديه.. لماذا يا ولدي؟ أهي معركة بين رجلين لأنهيها؟ أهي مشاجرة بين قبيلتين فاجتهد لحسمها، وضعتنا يا ابني بين أنياب الحكومة وأنا الذي حذرتك من اثنتين في هذه الدنيا.. السياسة والنساء فعارضته أمي: مَن مِن النساء تقصد؟!
ارتعش حاجبا حارس الزنزانة وتراجع وأنا أمد يدي بالورقة العارية من بين القضبان.
ـ رسالة عادية.. اقرأها بنفسك.. إنها لأمي التي تركتها مريضة وزادها مرضاً اختفائي المفاجئ الطويل، لن أنسى لك هذا الفضل ما حييت.
* يحصل هذا يا شاطر في السجون العادية وأنت وأنا نعلم ان النسمة هنا لا تغادر إلا بعد سين وجيم.
ـ مسألة انسانية يا أخي.
* الإنسانية ان لا تعيد عليَّ الموضوع ثانية.
ـ اقرأها.
* لن اقرأها.
ـ قسماً بالله لا رموز فيها ولا غموض.. أتعلم إنها قصيدة شعر؟ قصيدة لأمي.
*وأنا أيضاً عندي أم.. وسيعلم الله لو أوصلت رسالتك هل ستبقى أمي أو أنا على ظهر الوجود.. احمد الله إنك غير متزوج.. أنا عندي فريق كرة قدم في البيت ستؤهله رسالتك إلى كأس العالم.
ـ أتعرف الفنان سعدون جابر؟
*وأحب أغانيه.
ـ سلمها له فقط.
* والله لن ألمسها لو كانت للسيدة أم كلثوم.
ثم أقبلت ضوضاء أحذية عسكرية.. وأدى الحرس التحية عن بعد.
ـ نعم سيدي.. نعم سيدي..
هربت بجسدي إلى الخلف وتكورت في زاوية الزنزانة، ولم أفهم من سيل الحوارات العنيفة شيئاً ثم اختفت الاصوات وعم الليل ولم يشاركني سجني الانفرادي إلا ذلك المصباح الصغير الذي يذكرني بمصباح بيتنا القديم الذي كنت أفرش تحته دفاتر المدرسة الابتدائية وتشتعل فوق رأسي ملاسنات أبي وأمي المزمنة.. وأنا اتحداهما مردداً:
إلى متى يبقى البعيرُ على التل؟ ـ يبقى البعير على التل إلى المساء. عدتُ إلى رسالة أمي فطويتها وأودعتها في صندوق عدة الحلاقة.
من أنا؟ تساءلت في تلك اللحظة.. أنا ذلك النحيل المنسي.. سأبلغ العشرين من عمري قريباً غير اني لم أشبع من طفولتي لعباً ولا مرحاً.. داهمني العناء مبكراً فقد كنت الابن الأكبر لأب يجري تحت خط الفقر، ونجحت في التوفيق بين الدراسة والعمل إنما أضافت لي الأيام موهبة الكتابة مبكراً.. ففي الطفولة بدأت أنشر القصائد والحكايات، وذلك المسار أزعج أبي كثيراً خوفاً من أن تمنعني مجالس الأدب عن تحقيق حلمه بأن أكون ضابط شرطة، وأَما أُمي فلا بد أن تكون ضد رأي أبي مثل كل مرّة فانحازت إلى جانبي وشجعتني لا حباً في الشعر أو القصة أو الأغنية ولكن بغضاً لآراء أبي.
ونجحت في الشعر فأوصلتني القصائد إلى أحضان الشرطة فتصوّروا الآن حجم المعارك بين أبي وأمي.. فريق الشعر وفريق الشرطة.
.. عدت ثانية إلى الرسالة القصيدة وبدأت أتلوها والبعوض ولهيب أنفاسي هم جمهوري، إنه اختبار مبكر لرجولتي.. لأنسانيتي، ترى هل سأعيش ثانية؟..
وحيد والعزلة تعصرُ قلبي.. أتنفس حكايات أمي الشعبية فأستمد منها القوة والحكمة والصبر، أنا والشعر وحكاياتها بدأنا نخترع دواءً لصيانة الروح المحاصرة، وعلى جناح الأمل طرت متسللاً من كوة الزنزانة على جسر من النور الطويل أخذني الى شوارع مدينتي وضوضاء أصحابي الحانقين المتجمهرين حول بيت أهلي يعيدون كل ما قلته وما كتبته، بل ويكررون حتى نكاتي وأسراري الصغيرة، وتسللت الى بيتنا.. بيت أهلي.. بيت الطين والقصب والخشب.. ذلك البيت الذي تدخله الشمس والهواء من كل أركانه. ها هي باحة الحوش الترابية المرشوشة بماء دجلة.. رائحة الأرض مبللة بالماء.. يا ربي كم أعشقها.. لا عطر في الدنيا يعادلها.
هناك يشمخ ـ تنّور ـ أُمي كمدفع الافطار، يتصاعد منه الدخان حاملاً رائحة الخبز إلى السماء فتهبط العصافير والفاختات على نخلة الدار ويضج غناؤها مباركاً مائدة صغيرة لأسرة كبيرة، وحيث ترنو عيون إخوتي إلى أبي العملاق المهموم القليل الكلام الذي تخاف أمي وأولادها أن يمسه الغضب لحظات الافطار خاصة، فكأنه إذا غضب زلزال كاسح.
.. وجه أمي الذي يتصبب عرقاً أمام لهيب التنور توهج داخل زنزانتي وأنارها وطرد الوساوس والبعوض وهمهمات الضعف، ها هي تفتح باب الزنزانة وأخرج معها وتقف أمام أبناء الحي مزغردة:
ـ ها هو ابني.. ألم أقل لكم سيعود مرفوع الرأس؟!
لماذا أشعتِ إنه غاب تحت التراب.. لماذا أنا أم جاسم؟
زغردي يا أم داوود لأنك تحبينه.. عاد أخو داوود يا أم داوود.
وها هو أبي يعانقني مرتبك الخطى ولأنه بدين وثقيل كاد يقضم أذني وهو يقبلني، وحتما في هذا الموقف لم تغب نبرته العصبية:
ـ لم أترك مسؤولاً إلا قابلته لم أترك وزيراً إلا قبلت يديه.. لماذا يا ولدي؟ أهي معركة بين رجلين لأنهيها؟ أهي مشاجرة بين قبيلتين فاجتهد لحسمها، وضعتنا يا ابني بين أنياب الحكومة وأنا الذي حذرتك من اثنتين في هذه الدنيا.. السياسة والنساء فعارضته أمي: مَن مِن النساء تقصد؟!