شهران ويأتينا الامتحان الوزاري ـ البكى لوريا ـ ونحن نبكي قبل لوريا.. بطرق شتى نركض على جسد من قلق فنحن أولاد الفقراء رزقنا الله بآباء فحول وأمهات وادوات ملأوا بيوتنا بالمواطنين الصالحين ومشاكلنا كثيرة، لكن أبرزها ونحن طلبة هي مكان المذاكرة، فبيوتنا لا تسعنا وتلقائياً اضطررنا للهروب الى العراء جماعات وفرادى.
كنا نتأبط كتبنا وشيئاً من المأكولات المتواضعة ونهيم في مساحة برية على أطراف مدينة بغداد في مكان يقال له ـ الشماعية ـ وقد ارتبط اسمها بمستشفى المجانين.
طرق ترابية تنتهي إلى أشجار وتمتد إلى معامل الطابوق ـ الآجر ـ نمر خلالها بمستشفى المجانين ومدينة الرشاد، حيث توجد إصلاحية الشباب الجانحين، ثم مأوى الأطفال اللقطاء ودار المسنين ومبان مغلقة تماماً لا نعرف عنها شيئاً.
وكالعادة ننطلق أنا وصديقي عبد جعفر الذي ارتدى النظارة الطبية مبكراً وثالثنا جاسم الطيار، ذلك المشاكس الفوضوي الذي يحلم أن يصبح طياراً وهو على خلاف دائم مزعج مع عبد جعفر ونبدأ المذاكرة فوراً ونحن نمشي بهدوء، فواحد يقرأ الدرس بصوت مرتفع وينهي القطعة ليبدأ الثاني بالشرح ويتناول الثالث موضوع القراءة، ثم تبدأ الأسئلة والمحاورة، وهكذا والخلافات النارية مشتعلة بين جاسم الطيار وعبد جعفر وكأني وجدت خصيصاً لحل هذه المشاحنات بدبلوماسيتي المعهودة.
كنا نقطع طريق السدة الترابي الطويل إلى حيث معامل ـ الطابوق ـ التي تلوح مداخنها المزروعة في قلب الصحراء، حيث نلتحق بعشرات الطلبة المنتشرين هناك كالبدو الرّحل، وقبل ان نحل ضيوفاً على صديقنا عبد الله سخي الذي هو معنا في نفس الفصل، لكنه يبدو أضخم منا حجماً ومكانة، بل وأناقة واعتزازاً بالنفس حد الغرور، ففي هذه المدة وصل نزاع جاسم وعبد جعفر إلى مرحلة خطيرة، حيث اشتبكا بالأيدي وتطايرت الكتب والأقلام، ولم تنفع لا دبلوماسيتي ولا توسلاتي بهما، بل شملاني بلكمات طائشة، ومن حسن حظ الجميع هرول إلينا عبد الله وهو يحمل غصن شجرة فأشبع عبد جعفر وجاسم الطيار ضرباً.. وفجأة هدأت المعركة.
بشرفك أتريد أن تصبح طياراً؟ وأنت هل ستصبح أديباً كبيراً؟ تخلف.. مهزلة! قل لي يا كريم ما سبب خصامهما هذه المرة؟
كان موضوع درسنا الفيتامينات وأهمية الجزر لتقوية البصر، فاقترح جاسم على عبد جعفر أن تشتري له عائلته طناً من الجزر فيأكله ويستغني عن النظارة الطبية. قال له عبد جعفر: أأنت متأكد؟ فقال جاسم: نعم فابن جارنا رياض كان شبه أعمى ولما التهم برميلاً من الجزر عاد له بصره. فضحك عبد جعفر ضحكته الشهيرة التي تشبه زمارة سيارة الاسعاف فلكمه جاسم واعادها له عبد وها انت ترى النتائج المحزنة.
هتف عبد الله بحرص وأبوية: الى متى هذه الخلافات التافهة؟ أهالينا يعدون لنا الأيام ونحن نضيع وقتنا الثمين، أرجوكما تصالحا فوراً ولتؤجل كل الخلافات بعد الامتحان، هيا قبلا بعضكما.
وبينما عبد الله يتكلم تناهت إلينا ضجة مدوية هرول باتجاهها كل الطلبة، بل وعمال معامل الطابوق.. ولم نتأخر عن الركب نحن الأربعة ولما وصلنا التجمع الغفير رأينا شابا يعتلي حصاناً وهو ينادي: أرجو الهدوء أرجو الإصغاء.. أرجو الانتباه. فمن أجلكم جئنا إلى هنا. ثم خطب راكب الحصان بلسان فصيح:
كنا نتأبط كتبنا وشيئاً من المأكولات المتواضعة ونهيم في مساحة برية على أطراف مدينة بغداد في مكان يقال له ـ الشماعية ـ وقد ارتبط اسمها بمستشفى المجانين.
طرق ترابية تنتهي إلى أشجار وتمتد إلى معامل الطابوق ـ الآجر ـ نمر خلالها بمستشفى المجانين ومدينة الرشاد، حيث توجد إصلاحية الشباب الجانحين، ثم مأوى الأطفال اللقطاء ودار المسنين ومبان مغلقة تماماً لا نعرف عنها شيئاً.
وكالعادة ننطلق أنا وصديقي عبد جعفر الذي ارتدى النظارة الطبية مبكراً وثالثنا جاسم الطيار، ذلك المشاكس الفوضوي الذي يحلم أن يصبح طياراً وهو على خلاف دائم مزعج مع عبد جعفر ونبدأ المذاكرة فوراً ونحن نمشي بهدوء، فواحد يقرأ الدرس بصوت مرتفع وينهي القطعة ليبدأ الثاني بالشرح ويتناول الثالث موضوع القراءة، ثم تبدأ الأسئلة والمحاورة، وهكذا والخلافات النارية مشتعلة بين جاسم الطيار وعبد جعفر وكأني وجدت خصيصاً لحل هذه المشاحنات بدبلوماسيتي المعهودة.
كنا نقطع طريق السدة الترابي الطويل إلى حيث معامل ـ الطابوق ـ التي تلوح مداخنها المزروعة في قلب الصحراء، حيث نلتحق بعشرات الطلبة المنتشرين هناك كالبدو الرّحل، وقبل ان نحل ضيوفاً على صديقنا عبد الله سخي الذي هو معنا في نفس الفصل، لكنه يبدو أضخم منا حجماً ومكانة، بل وأناقة واعتزازاً بالنفس حد الغرور، ففي هذه المدة وصل نزاع جاسم وعبد جعفر إلى مرحلة خطيرة، حيث اشتبكا بالأيدي وتطايرت الكتب والأقلام، ولم تنفع لا دبلوماسيتي ولا توسلاتي بهما، بل شملاني بلكمات طائشة، ومن حسن حظ الجميع هرول إلينا عبد الله وهو يحمل غصن شجرة فأشبع عبد جعفر وجاسم الطيار ضرباً.. وفجأة هدأت المعركة.
بشرفك أتريد أن تصبح طياراً؟ وأنت هل ستصبح أديباً كبيراً؟ تخلف.. مهزلة! قل لي يا كريم ما سبب خصامهما هذه المرة؟
كان موضوع درسنا الفيتامينات وأهمية الجزر لتقوية البصر، فاقترح جاسم على عبد جعفر أن تشتري له عائلته طناً من الجزر فيأكله ويستغني عن النظارة الطبية. قال له عبد جعفر: أأنت متأكد؟ فقال جاسم: نعم فابن جارنا رياض كان شبه أعمى ولما التهم برميلاً من الجزر عاد له بصره. فضحك عبد جعفر ضحكته الشهيرة التي تشبه زمارة سيارة الاسعاف فلكمه جاسم واعادها له عبد وها انت ترى النتائج المحزنة.
هتف عبد الله بحرص وأبوية: الى متى هذه الخلافات التافهة؟ أهالينا يعدون لنا الأيام ونحن نضيع وقتنا الثمين، أرجوكما تصالحا فوراً ولتؤجل كل الخلافات بعد الامتحان، هيا قبلا بعضكما.
وبينما عبد الله يتكلم تناهت إلينا ضجة مدوية هرول باتجاهها كل الطلبة، بل وعمال معامل الطابوق.. ولم نتأخر عن الركب نحن الأربعة ولما وصلنا التجمع الغفير رأينا شابا يعتلي حصاناً وهو ينادي: أرجو الهدوء أرجو الإصغاء.. أرجو الانتباه. فمن أجلكم جئنا إلى هنا. ثم خطب راكب الحصان بلسان فصيح: