عرش الملوك
¬°•| عضو مبتدى |•°¬
النافذة المفتوحة - ترجمة د. زياد الحكيم - قصة من الادب البريطاني
--------------------------------------------------------------------------------
الكاتب البريطاني هيكتور هيو منرو (1870-1916)
ترجمة د. زياد الحكيم
قالت فتاة هادئة في الخامسة عشرة من عمرها: عمتي ستحضر في الحال يا سيد ناتل، وفي هذه الأثناء عليك أن تكون صبورا معي.
وحاول فرامتون ناتل أن يقول الشيء المناسب ليعطي الفتاة ما تستحقه من الثناء دون أن يقلل من شأن عمتها التي ستحضر بعد قليل. وساوره الشك أكثر من أي وقت مضى في جدوى هذه الزيارات الرسمية التي يقوم بها لمنازل غرباء في معالجة أعصابه المرهقة.
كانت أخته قد قالت له عندما كان يعد العدة للسفر إلى هذا المنتجع الريفي: أعرف ما سيكون عليه الحال. سوف تدفن نفسك هناك ولن تتحدث إلى أحد. وستكون أعصابك في وضع أسوأ مما هي عليه الآن بسبب الكآبة. سأزودك برسائل تتعرف بوساطتها إلى جميع الناس الذين أعرفهم هناك. وكان بعضهم فيما أذكر أناسا طيبين جدا.
ولم يكن فرامتون على يقين من أن السيدة سابلتون التي سيقدم لها رسالة من أخته هي من فئة الناس الطيبين.
سألت الفتاة عندما أدركت أن فترة كافية مرت بما فيها من تبادل صامت للأفكار: هل تعرف أناسا كثيرين في هذه المنطقة؟
قال فرامتون: لا أعرف أحدا. كانت أختي تقيم هنا في بيت تابع للكنيسة قبل حوالي أربعة أعوام. وقد أعطتني رسائل أتعرف بوساطتها إلى بعض الناس هنا.
قال ذلك بصوت ينم عن أسف شديد.
فقالت الفتاة الهادئة مواصلة الحديث: إذن أنت لا تعرف شيئا يذكر عن عمتي.
واعترف الزائر قائلا: أعرف اسمها وعنوانها فحسب. كان يتساءل في قرارة نفسه عما إذا كانت السيدة سابلتون من فئة المتزوجات أو فئة المترملات. ولكنه أحس أن في الحجرة شيئا غير محدد يوحي بأن رجلا يقيم في البيت.
قالت الفتاة: وقعت مأساتها الكبرى قبل ثلاثة أعوام – أي بعد إقامة أختك هنا.
رد فرامتون: مأساتها؟، مستغربا أن مأساة يمكن أن تقع في منطقة ريفية هادئة.
قالت الفتاة مشيرة إلى نافذة فرنسية الطراز مفتوحة تطل على مرج أخضر: ربما تستغرب أننا نبقي النافذة تلك مفتوحة على مصراعيها في مساء يوم من أيام شهر أكتوبر.
قال فرامتون: إنه يوم حار في مثل هذا الوقت من السنة. ولكن هل للنافذة علاقة بالمأساة؟
قالت الفتاة: في مثل هذا اليوم بالتحديد قبل ثلاثة أعوام خرج من هذه النافذة زوجها وأخواها الشابان في رحلة صيد. ولم يعودوا. لقد غرقوا جميعا في تلك البقعة الغادرة في ما كانوا يعبرون البراري باتجاه موقعهم المفضل للصيد. حدث ذلك في الصيف الذي هطلت فيه أمطار غزيرة, فجعلت الأراضي الآمنة غير آمنة على حين فجأة. ولم يعثر أحد على جثثهم بعد ذلك. وهذا أسوأ ما في الأمر.
هنا فقد صوت الفتاة نبرته الواثقة وأصبح أكثر حنانا. وتابعت قائلة: عمتي المسكينة تعتقد أنهم سيعودون في يوم من الأيام، ومعهم كلبهم الأسمر الصغير الذي كان بصحبتهم. ولهذا فهي تبقي النافذة مفتوحة كل مساء حتى يحل الظلام. لطالما روت لي عمتي الحبيبة المسكينة كيف خرجوا: زوجها بمعطفه الأبيض الواقي من المطر على ذراعه، وروني، أخوها الأصغر، وهو يغني: يا بيرتي لماذا تشاكسين؟ كما كان يفعل دائما عندما يريد أن يداعبها فقد كانت تقول إن الأغنية تثير أعصابها. ويغلب علي إحساس في مثل هذا المساء الهادئ أنهم سيعودون ويدخلون من هذا النافذة.
وتوقفت عن الحديث مرتعدة. وأحس فرامتون بالارتياح عندما دخلت العمة إلى الحجرة بفيض من الاعتذارات لتأخرها في الحضور.
قالت العمة: أرجو أن تكون فيرا قد وفرت لك بعض التسلية.
قال فرامتون: لقد كانت ظريفة جدا.
فقالت السيدة سابلتون بسرعة: أرجو أن لا تمانع في الإبقاء على النافذة مفتوحة، إذ سيعود زوجي وأخواي من رحلة صيد، وهم يعودون دائما من هنا. وقد خرجوا اليوم للصيد في البراري الطينية. ولا شك أن ذلك سيتسبب في اتساخ السجاد. هذا دأبكم أنتم معشر الرجال، أليس كذلك؟
وراحت تثرثر في مرح عن الصيد وعن ندرة الطيور والبط في الشتاء. وكان الأمر كله بالنسبة إلى فرامتون باعثا على فزع شديد. وحاول محاولة يائسة وغير ناجحة نجاحا كاملا أن يغير مجرى الحديث إلى موضوع أقل ترويعا. أدرك أن محدثته كانت تفرد له جزءا صغيرا من انتباهها، وكانت عيناها سارحتين على نحو متصل باتجاه النافذة المفتوحة والمرج الذي تطل عليه. لا ريب أنها كانت مصادفة غير سعيدة أن يقوم بالزيارة في هذه الذكرى السنوية الحزينة.
قال فرامتون: يجمع الأطباء على ضرورة أن آخذ قسطا كاملا من الراحة وأن أتجنب الإثارة الذهنية والتمارين البدنية العنيفة. كان فرامتون في قبضة الوهم المنتشر انتشارا واسعا بان الغرباء ومن يجتمع بهم المرء بطريق الصدفة حريصون على معرفة دقائق أمراضه وأوجاعه وأسبابها وعلاجها. وواصل فرامتون قائلا: أما فيما يخص الحمية فهم غير متفقين إلى الدرجة نفسها.
قالت السيدة سابلتون: لا؟ بصوت حل محل تثاؤب في آخر لحظة. بعد ذلك وعلى حين فجأة اشتد انتباهها، ولكن ليس لما كان يقوله فرامتون.
هتفت: ها هم جاءوا في آخر الأمر، في الوقت المناسب لتناول وجبة المساء. ألا يبدو أنهم ملوثون بالطين من إقدامهم وحتى رؤوسهم؟
ذعر فرامتون قليلا. والتفت إلى الفتاة في نظرة تنم عن شيء من التعاطف والفهم. كانت الفتاة تنظر إلى النافذة وقد بدا على وجهها رعب شديد. وفي هلع يمتنع عن الوصف استدار فرامتون بكرسيه ونظر في الاتجاه نفسه.
في الظلام المتعاظم في الخارج ظهر ثلاثة رجال يسيرون على المرج باتجاه النافذة. وكان كل واحد منهم يحمل بندقية صيد تحت إبطه. وكان واحد منهم يحمل معطفا أبيض على كتفيه. وكان كلب أسمر صغير يهرول على مقربة منهم. واقتربوا من البيت دون إحداث أي ضجيج. عندئذ انطلق صوت شاب أجش من قلب الظلام: قلت يا بيرتي لماذا تشاكسين؟
قبض فرامتون بقوة على عصاه وقبعته، وانطلق في لحظة عبر مدخل البيت والرصيف الحجري والبوابة الخارجية. واضطر راكب دراجة أن يصطدم بسياج ليتجنب الاصطدام به.
قال حامل المعطف الأبيض الواقي من المطر وهو يدخل من النافذة: ها قد عدنا يا عزيزتي ملوثين بالطين. ولكن معظم الطين جاف. من كان ذاك الرجل الذي انطلق خارجا عندما دخلنا؟
قالت السيدة سابلتون: رجل غريب الأطوار يدعى السيد ناتل. لا يحسن الحديث إلا عن أمراضه. وانطلق مسرعا دون كلمة وداع أو اعتذار عندما وصلتم. يخيل إلي أنه رأى شبحا من الأشباح.
قالت الفتاة في هدوء: أحسب أن السبب هو الكلب. لقد روى لي انه يخشى الكلاب. ففي إحدى المرات طاردته ثلة منهم إلى مقبرة على ضفاف نهر الغانج وتعين عليه أن يقضي تلك الليلة في قبر مفتوح بينما كانت الكلاب تنبح وتكشر وتزبد فوق رأسه على نحو يفقد أي امرئ أعصابه.
كانت تجيد عند الحاجة اصطناع قصص مثيرة دونما إبطاء.
--------------------------------------------------------------------------------
الكاتب البريطاني هيكتور هيو منرو (1870-1916)
ترجمة د. زياد الحكيم
قالت فتاة هادئة في الخامسة عشرة من عمرها: عمتي ستحضر في الحال يا سيد ناتل، وفي هذه الأثناء عليك أن تكون صبورا معي.
وحاول فرامتون ناتل أن يقول الشيء المناسب ليعطي الفتاة ما تستحقه من الثناء دون أن يقلل من شأن عمتها التي ستحضر بعد قليل. وساوره الشك أكثر من أي وقت مضى في جدوى هذه الزيارات الرسمية التي يقوم بها لمنازل غرباء في معالجة أعصابه المرهقة.
كانت أخته قد قالت له عندما كان يعد العدة للسفر إلى هذا المنتجع الريفي: أعرف ما سيكون عليه الحال. سوف تدفن نفسك هناك ولن تتحدث إلى أحد. وستكون أعصابك في وضع أسوأ مما هي عليه الآن بسبب الكآبة. سأزودك برسائل تتعرف بوساطتها إلى جميع الناس الذين أعرفهم هناك. وكان بعضهم فيما أذكر أناسا طيبين جدا.
ولم يكن فرامتون على يقين من أن السيدة سابلتون التي سيقدم لها رسالة من أخته هي من فئة الناس الطيبين.
سألت الفتاة عندما أدركت أن فترة كافية مرت بما فيها من تبادل صامت للأفكار: هل تعرف أناسا كثيرين في هذه المنطقة؟
قال فرامتون: لا أعرف أحدا. كانت أختي تقيم هنا في بيت تابع للكنيسة قبل حوالي أربعة أعوام. وقد أعطتني رسائل أتعرف بوساطتها إلى بعض الناس هنا.
قال ذلك بصوت ينم عن أسف شديد.
فقالت الفتاة الهادئة مواصلة الحديث: إذن أنت لا تعرف شيئا يذكر عن عمتي.
واعترف الزائر قائلا: أعرف اسمها وعنوانها فحسب. كان يتساءل في قرارة نفسه عما إذا كانت السيدة سابلتون من فئة المتزوجات أو فئة المترملات. ولكنه أحس أن في الحجرة شيئا غير محدد يوحي بأن رجلا يقيم في البيت.
قالت الفتاة: وقعت مأساتها الكبرى قبل ثلاثة أعوام – أي بعد إقامة أختك هنا.
رد فرامتون: مأساتها؟، مستغربا أن مأساة يمكن أن تقع في منطقة ريفية هادئة.
قالت الفتاة مشيرة إلى نافذة فرنسية الطراز مفتوحة تطل على مرج أخضر: ربما تستغرب أننا نبقي النافذة تلك مفتوحة على مصراعيها في مساء يوم من أيام شهر أكتوبر.
قال فرامتون: إنه يوم حار في مثل هذا الوقت من السنة. ولكن هل للنافذة علاقة بالمأساة؟
قالت الفتاة: في مثل هذا اليوم بالتحديد قبل ثلاثة أعوام خرج من هذه النافذة زوجها وأخواها الشابان في رحلة صيد. ولم يعودوا. لقد غرقوا جميعا في تلك البقعة الغادرة في ما كانوا يعبرون البراري باتجاه موقعهم المفضل للصيد. حدث ذلك في الصيف الذي هطلت فيه أمطار غزيرة, فجعلت الأراضي الآمنة غير آمنة على حين فجأة. ولم يعثر أحد على جثثهم بعد ذلك. وهذا أسوأ ما في الأمر.
هنا فقد صوت الفتاة نبرته الواثقة وأصبح أكثر حنانا. وتابعت قائلة: عمتي المسكينة تعتقد أنهم سيعودون في يوم من الأيام، ومعهم كلبهم الأسمر الصغير الذي كان بصحبتهم. ولهذا فهي تبقي النافذة مفتوحة كل مساء حتى يحل الظلام. لطالما روت لي عمتي الحبيبة المسكينة كيف خرجوا: زوجها بمعطفه الأبيض الواقي من المطر على ذراعه، وروني، أخوها الأصغر، وهو يغني: يا بيرتي لماذا تشاكسين؟ كما كان يفعل دائما عندما يريد أن يداعبها فقد كانت تقول إن الأغنية تثير أعصابها. ويغلب علي إحساس في مثل هذا المساء الهادئ أنهم سيعودون ويدخلون من هذا النافذة.
وتوقفت عن الحديث مرتعدة. وأحس فرامتون بالارتياح عندما دخلت العمة إلى الحجرة بفيض من الاعتذارات لتأخرها في الحضور.
قالت العمة: أرجو أن تكون فيرا قد وفرت لك بعض التسلية.
قال فرامتون: لقد كانت ظريفة جدا.
فقالت السيدة سابلتون بسرعة: أرجو أن لا تمانع في الإبقاء على النافذة مفتوحة، إذ سيعود زوجي وأخواي من رحلة صيد، وهم يعودون دائما من هنا. وقد خرجوا اليوم للصيد في البراري الطينية. ولا شك أن ذلك سيتسبب في اتساخ السجاد. هذا دأبكم أنتم معشر الرجال، أليس كذلك؟
وراحت تثرثر في مرح عن الصيد وعن ندرة الطيور والبط في الشتاء. وكان الأمر كله بالنسبة إلى فرامتون باعثا على فزع شديد. وحاول محاولة يائسة وغير ناجحة نجاحا كاملا أن يغير مجرى الحديث إلى موضوع أقل ترويعا. أدرك أن محدثته كانت تفرد له جزءا صغيرا من انتباهها، وكانت عيناها سارحتين على نحو متصل باتجاه النافذة المفتوحة والمرج الذي تطل عليه. لا ريب أنها كانت مصادفة غير سعيدة أن يقوم بالزيارة في هذه الذكرى السنوية الحزينة.
قال فرامتون: يجمع الأطباء على ضرورة أن آخذ قسطا كاملا من الراحة وأن أتجنب الإثارة الذهنية والتمارين البدنية العنيفة. كان فرامتون في قبضة الوهم المنتشر انتشارا واسعا بان الغرباء ومن يجتمع بهم المرء بطريق الصدفة حريصون على معرفة دقائق أمراضه وأوجاعه وأسبابها وعلاجها. وواصل فرامتون قائلا: أما فيما يخص الحمية فهم غير متفقين إلى الدرجة نفسها.
قالت السيدة سابلتون: لا؟ بصوت حل محل تثاؤب في آخر لحظة. بعد ذلك وعلى حين فجأة اشتد انتباهها، ولكن ليس لما كان يقوله فرامتون.
هتفت: ها هم جاءوا في آخر الأمر، في الوقت المناسب لتناول وجبة المساء. ألا يبدو أنهم ملوثون بالطين من إقدامهم وحتى رؤوسهم؟
ذعر فرامتون قليلا. والتفت إلى الفتاة في نظرة تنم عن شيء من التعاطف والفهم. كانت الفتاة تنظر إلى النافذة وقد بدا على وجهها رعب شديد. وفي هلع يمتنع عن الوصف استدار فرامتون بكرسيه ونظر في الاتجاه نفسه.
في الظلام المتعاظم في الخارج ظهر ثلاثة رجال يسيرون على المرج باتجاه النافذة. وكان كل واحد منهم يحمل بندقية صيد تحت إبطه. وكان واحد منهم يحمل معطفا أبيض على كتفيه. وكان كلب أسمر صغير يهرول على مقربة منهم. واقتربوا من البيت دون إحداث أي ضجيج. عندئذ انطلق صوت شاب أجش من قلب الظلام: قلت يا بيرتي لماذا تشاكسين؟
قبض فرامتون بقوة على عصاه وقبعته، وانطلق في لحظة عبر مدخل البيت والرصيف الحجري والبوابة الخارجية. واضطر راكب دراجة أن يصطدم بسياج ليتجنب الاصطدام به.
قال حامل المعطف الأبيض الواقي من المطر وهو يدخل من النافذة: ها قد عدنا يا عزيزتي ملوثين بالطين. ولكن معظم الطين جاف. من كان ذاك الرجل الذي انطلق خارجا عندما دخلنا؟
قالت السيدة سابلتون: رجل غريب الأطوار يدعى السيد ناتل. لا يحسن الحديث إلا عن أمراضه. وانطلق مسرعا دون كلمة وداع أو اعتذار عندما وصلتم. يخيل إلي أنه رأى شبحا من الأشباح.
قالت الفتاة في هدوء: أحسب أن السبب هو الكلب. لقد روى لي انه يخشى الكلاب. ففي إحدى المرات طاردته ثلة منهم إلى مقبرة على ضفاف نهر الغانج وتعين عليه أن يقضي تلك الليلة في قبر مفتوح بينما كانت الكلاب تنبح وتكشر وتزبد فوق رأسه على نحو يفقد أي امرئ أعصابه.
كانت تجيد عند الحاجة اصطناع قصص مثيرة دونما إبطاء.