{ذلك مبلغهم من العلم} والمشار إليه كونهم متولين معرضين، لا يريدون إلا الحياة الدنيا، يعني ذلك منتهى بلوغ علمهم، لأن علمهم قاصر، لا ينظرون إلى المستقبل، ولا يصدقون بخبر، فتجد أكبر همهم أن يصلحوا حالهم في الدنيا معرضين عن حالهم في الآخرة، وفي الدعاء المأثور: «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا» (8) ، ثم قال - عز وجل -: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى } هو أعلم - عز وجل - بمن ضل عن سبيله فعلاً، ومن سيضل، لأنه عالم بما كان وبما يكون، فقوله: {بمن ضل} لا تعني أنه لا يعلم إلا من حصل منه الضلال بالفعل بل هو يعلم من حصل منه الضلال بالفعل، ومن سيحصل منه، لأن الله - سبحانه وتعالى - موصوف بالعلم التام في الحاضر والمستقبل والماضي، وقوله: {وهو أعلم بمن اهتدى } ضد الضلال، فالناس بين فئتين: إما مهتدٍ وإما ضال، وإنما بيَّن الله سبحانه وتعالى أنه أعلم بمن ضل عن سبيله، وبمن اهتدى؛ لفائدتين:
الفائدة الأولى: أن نعلم أن ما وقع من الضلال والهداية فهو صادر عن علم الله وبإرادته، إذ لا يمكن أن يوجد في خلقه خلاف معلومه، ولو قدر أن يوجد في خلقه خلاف معلومه لكان الله جاهلاً - وحاشاه من ذلك -.
الفائدة الثانية: التحذير من الضلال، والترغيب في الاهتداء، مادام الإنسان يعلم أن أي عمل صدر منه فعلمه عند الله، فإنه سوف يخشى أن يعصي الله، وسوف يسعى أن يرضي الله - عز وجل -.
كأنه يقول: إن ضللت فالله أعلم بك، وإن اهتديت فالله أعلم بك، فيجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
{ولله ما في السموات وما في الأَرض}يقول علماء البلاغة: إنه إذا تقدم شيء حقه التأخير فهو دليل على الحصر والتخصيص، فلننظر في هذه الآية هل فيه تأخير وتقديم: {ولله ما في السموات وما في الأَرض} (لله) خبر مقدم (وما في السموات) مبتدأ مؤخر، إذاً قدم فيها ما حقه التأخير وهو الخبر؛ لأن حق الخبر أن يكون متأخراً عن المبتدأ. تقول: الرجل قائم ولا تقول: قائم الرجل، فالأصل أن المبتدأ على اسمه يكون هو الأول والخبر هو الثاني، لكن أحياناً يقدم الخبر لفائدة، فهنا الفائدة: الحصر يعني: لله لا لغيره {ما في السموات وما في الأَرض} ولا أحد يملك ما في السماوات ولا ما في الأرض إلا الله تبارك وتعالى، ونحن نملك ما نملك من أموالنا ولكن ملكنا ليس عاماً، فملكي ليس ملكاً لك، وملكك ليس ملكاً لي، فأملاكنا ليست عامة، ثم نحن لا نملك التصرف بما هو ملكنا كما نشاء، فتصرفنا محدود حسب الشريعة، ولهذا لو تراضى اثنان في بيع الربا قلنا: لا تملكان ذلك، ولو أراد الإنسان أن يحرق ماله قلنا: هذا ممنوع، فملك غير الله قاصر، وغير شامل، والملك التام الواسع الشامل لله - عز وجل - ولهذا قال: {ولله ما في السموات وما في الأَرض} فهو مالك لذواتهما، ومالك لما فيهما أيضاً، وكم من ملك في السماوات، وكم من مخلوق في الأرض كله ملك لله - عز وجل - يتصرف فيه كما يشاء حسب ما تقتضيه حكمته، وإيماننا بأن لله ملك السماوات والأرض يفيد فائدتين عظيمتين:
الفائدة الأولى: الرضى بقضاء الله، وأن الله عز وجل لو قضى عليك مرضاً فلا تعترض، ولو قضى عليك فقراً فلا تعترض، لأنك ملكه يتصرف فيك كما يشاء، فهو كما يتصرف في السحاب يمطر أو لا يمطر، يمضي أو لا يمضي، ويتصرف في الشمس والقمر، ويتصرف في المخلوقات، يتصرف فيك أيضاً كما يشاء، إن شاء أعطاك صحة، وإن شاء سلبها، إن شاء أعطاك عقلاً، وإن شاء سلبك، إن شاء أعطاك مالاً، وإن شاء سلبك، أنت ملكه، فإذا آمنت بهذا رضيت بقضائه.
الفائدة الثانية: الرضا بشرعه وقبول شرعه والقيام به، لأنك ملكه، إذا قال لك: افعل. فافعل، وإذا قال: لا تفعل. فلا تفعل، أرأيت لو كان لك عبد رقيق فأمرته، ولكنه لم يفعل، أو نهيته ففعل، فالسيادة ناقصة، إذاً أنت إذا عصيت ربك: إما بفعل محرم وإما بترك واجب، فإنك خرجت عن مقتضى العبودية التامة؛ لأن مقتضى العبودية التامة أن تخضع لشرعه، كما أنك خاضع كرهاً أو طائعاً لقضائه وقدره، فانتبه ليس معنى قوله تعالى: {ولله ما في السموات وما في الأَرض} أن يخبرنا أنه مالك فقط، لكن لأجل أن نعتقد مقتضى هذا الملك، وهو الرضا بقضائه، والرضا بشرعه، هذه حقيقة الملك. {ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى } جاءت كلمة {ليجزى} كأن قائلاً يقول: وإذا تبين أن الملك لله - عز وجل - فما النتيجة؟ النتيجة أن الناس بين محسن وبين مسيء كما قال - عز وجل -: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} وإذا كانوا بين محسن ومسيء فما جزاء كل واحد {ليجزى الذين أساءوا بما عملوا} الذين أساءوا هم الذين خالفوا المأمور أو ارتكبوا المحظور، هؤلاء الذين أساءوا ليجزيهم بما عملوا، السيئة بالسيئة لا تزيد، أو يعفو - عز وجل - عمن يستحق العفو، وهو كل من مات على غير الشرك {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فلا يمكن أن يزيد سيئة لم يعملها الإنسان، ولهذا قال: {ليجزى الذين أساءوا بما عملوا}. بدون زيادة {ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى } ولم يقل: بما عملوا، لأن فضل الله أوسع من أعمالنا، يجزي الذين أحسنوا بالحسنى، فأنت إذا فعلت حسنة فتكون عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ونضرب مثلاً قريباً، الصلاة المفروضة عندما تتوضأ وتسبغ الوضوء ثم تخرج إلى الصلاة لا يخرجك من بيتك إلا الصلاة فما الثمرات التي تحصل عليها؟ كل خطوة تخطوها يرفع الله لك بها درجة، ويحط عنك بها خطيئة، فخطواتك لا يحصيها إلا الله عز وجل، مع أن المقصود شيء واحد وهو الصلاة، لكن سعيك إلى الصلاة فيه أجر مادمت خرجت من بيتك لا يخرجك إلا الصلاة، وتأهبت في بيتك، أسبغت الوضوء في بيتك، فأنت لا تخطو خطوة إلا رفع الله لك بها درجة، وحط عنك بها خطيئة، والخطوات لا يحصيها إلا الله، ثم إذا وصلت المسجد وصليت ما شاء الله، ثم انتظرت الصلاة ولو تأخر مجيء الإمام لصلاة الجماعة يكتب لك أجر المصلي، «لا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة» (9) ، وهذا أحسن من أعمالنا ولهذا قال: {ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى } أي بما هو أحسن وأكثر من عملهم، وهذا يدلك على سعة فضل الله - عز وجل - وإحسانه وكمال عدله. فالمسيئون يجازيهم بالعدل أو يعفو، والمحسنون يجازيهم بالفضل ثم ذكر شيئاً من أوصافهم فقال: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} أي: يبتعدون عنه، وسمي الابتعاد اجتناباً؛ لأن الإنسان في جانب، والذي أبعد عنه في جانب آخر، فيبعدون، ولا يتصلون بكبائر الإثم والفواحش إلا اللمم {كبائر الإثم} كبائر جمع كبيرة، والكبيرة بعض العلماء عدها، وبعض العلماء حدها، والصواب الحد، أي أنها محدودة وليست معدودة، والذين ذكروا عدداً الظاهر - والله أعلم - أنهم أرادوا المثال، فمثلاً إذا قال الإنسان: هي الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، هذه سبع، إذا قال الإنسان هذه هي الكبائر ليس معنى قوله إنها محصورة في هذا، إذ من الممكن أن يحمل كلامه أن ذلك على سبيل التمثيل فقط، أما الذين حدوها يعني جعلوا له ضابطاً. فقالوا في ضابطها: (كل ذنب رتب الله عليه لعنة، أو غضباً، أو سخطاً، أو تبرأ منه، أو ما أشبه ذلك فهو كبيرة)، ورأيت لبعضهم ومنهم شيخ الإسلام - رحمه الله - أنه قال: (كل ذنب جعلت له عقوبة خاصة إما في الدنيا، أو في الآخرة فهو كبيرة)، فالزنا كبيرة، لأن فيه عقوبة وهو الجلد أو الرجم، والسرقة كبيرة، وقطع الطرق كبيرة، وعقوق الوالدين كبيرة، وهلم جرا، فكلما رأيت شيئاً من الذنوب جعل الشارع له عقوبة خاصة فهو كبيرة، أما الذنب الذي نهى عنه فقط فهو صغيرة: كنظر الرجل للمرأة الأجنبية للشهوة، هذا ليس كبيرة هو صغيرة من الصغائر، لكن إن أصر الإنسان عليه وصار هذا ديدنه، صار كبيرة بالإصرار لا بالفعل. ومكالمة المرأة الأجنبية على وجه التلذذ حرام وليس بكبيرة، ولكن إذا أصر الإنسان عليه وصار ليس له هم إلا أن يشغل الهاتف على هؤلاء النساء ويتحدث إليهن صار كبيرة، فالإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة من حيث الإصرار، لأن إصراره على الصغيرة يدل على تهاونه بالله - عز وجل -، وأنه غير مبال بما حرم الله، وقوله: {والفواحش} أي: كبائر الكبائر، لأن الكبائر منه ما هو فاحش يستفحش ويستعظم ويستقبح بشدة، ومنها ما هو دون ذلك، فمثلاً الزنا فاحشة {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً} واللواط فاحشة أعظم من الزنا، لأن الله قال في الزنا: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً} وقال في اللواط: {أتأتون الفـاحشة} فأتى بأل الدالة على القبح، وأنها جامعة لكل أنواع الفواحش، ونكاح المحارم فاحشة، قال الله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فـاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً } فهو أشد من الزنا، فلو زنا الإنسان بامرأة أجنبية منه، وبأم زوجته مثلاً صار زناه بأم زوجته أعظم وأشد وأشنع، ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء: أن من زنا بامرأة من محارمه وإن لم يكن محصناً فإنه يرجم، لأن الله فرق بين الزنا وبين نكاح ذوات المحارم فالزنا بذوات المحارم وصفه الله تعالى: {إنه كان فـاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً } والزنا وصفه بوصف بواحد وهو: {إنه كان فاحشةً} وجاءت السنة بالتفريق بين من زنا بامرأة من محارمه أو بامرأة أجنبية، فجعلت حد الأول القتل بكل حال، وإن لم يتزوج وإن لم يكن ثيباً، لأن هذا أعظم والعياذ بالله، إنسان يزني بأمه أو أخته أو أم زوجته، أو بنت زوجته التي دخل بها هذا فاحشة عظيمة، إذاً هم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، والفواحش كبائر الكبائر وأعظم، ونأخذ من هذه الآية الكريمة أن الكبائر والفواحش تختلف؛ لأن كبائر وصف كل ما كان أعظم صار أشد كبيرة، والفواحش كذلك، وفيما سقناه من الآيات دليل على ذلك: {ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فـاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً } {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً} {أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العـالمين} ففرق الله بينها، مع أنها كلها فواحش، لكن بعضها أعظم من بعض.