منوة الروح
¬°•| مراقبة عامه سابقه |•°¬
- إنضم
- 4 مايو 2008
- المشاركات
- 4,146
بين العبقرية والجنون
الدكتور هاشم صالح / كاتب ومفكر
هناك شعرة رقيقة جداً تفصل بين العبقرية والجنون) مجهول
(مثلما أن المرض يحيط بالصحة من كل الجهات فإن الجنون يحيط بالعقل من كل الجهات) لودفيغ فتجنشتاين...
منذ قديم الأزمان كان الناس يعتقدون بأن هناك علاقة بين العبقرية والجنون. وكانوا دائماً يتحدثون عن العبقري بشيء من التهيب والوجل، فهو شخص غريب الأطوار معقد الشخصية يختلف عن جميع البشر، والواقع أننا إذا ما استعرضنا أسماء كباراً لكتاب وجدنا أن معظمهم إن لم يكن كلهم كانوا يتميزون بتركيبة نفسية خاصة وغير طبيعية بل إن بعضهم دخل في مرحلة الجنون الكامل. نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: هولدرلين ونيتشه، وجيرار دونيرفال، وأنطونين أرتو، وفان كوخ ، ودو موباسان، وفيرجينيا وولف، وشومان، وألتوسير،(1) الخ..
وقد طرح أحدهم على الكاتب الفرنسي أندريه موروا هذا السؤال: هل جميع الروائيين مجانين أو عصابيون؟ فأجاب الكاتب الكبير: لا الأصح أن نقول أنهم كانوا سيصيرون جميعهم عصابيين لولا أنهم أصبحوا روائيين.. فالعصاب يا سيدي، هو الذي يصنع الفنان، والفن هو الذي يشفيه(2). وكان جواباً مقنعاً ورائعاً. فالواقع أنه لولا العصاب لما كرس أشخاص من أمثال بلزاك أو ديستويفسكي أو فلوبير أنفسهم لفن الكتابة. ولولا أنهم نجحوا في هذا الفن وقدموا لنا روايات خالدة لما نجوا هم أنفسهم من مرض العصاب. هذه هي الدائرة المغلقة التي تجمع بين الإبداع والمرض أو بين العبقرية والجنون. ولكن السؤال المطروح هو: لماذا يسقط في ليل الجنون حتى أولئك الذين أبدعوا إبداعاً كبيراً ؟ لماذا لم يحمهم الإبداع أو الإنتاج الإبداعي من الجنون؟ فلا أحد يشك في أن نيتشه من كبار الفلاسفة، ومع ذلك فقد جن بشكل كامل في أواخر حياته وظل مجنوناً لمدة أحد عشر عاماً حتى مات سنة 0 190، ولا أحد يشك في أن هولدرلين هو واحد من أهم الشعراء في العالم، ومع ذلك فقد أمضى نصف عمره تقريباً في بحر الجنون... والواقع أنه تصعب الإجابة عن هذا السؤال، ولكن ربما التقينا به في مرحلة لاحقة، مهما يكن من أمر فإننا نظل متفقين مع أندريه مورو على القول بأن الفن يشفي من العصاب بشكل عام، ولولاه لجن معظم أولئك الكبار الذين سجلت أسماؤهم على صفحات التاريخ، ويكفي أن نستعرض سير حياتهم التي كتبت بعد وفاتهم لكي نتأكد من ذلك، وتكمن عظمتهم بالضبط في أنهم تجاوزوا عصابهم أو عقدتهم النفسية المتأصلة عن طريق الإبداع. فلا ريب في أن الإبداع يحرر من العقد ويعطي الشخصية ثقة بنفسها.
لماذا أتحدث عن هذا الموضوع الآن ؟ ولماذا اخترته للكتابة في هذه الدراسة المطولة، وكان لهذا عدة أسباب:
أولها أنه كان يعتمل في نفسي منذ زمن طويل. وثانيها أنه يمثل نوعاً من" التابو " أو المحرمات فيما يخص الثقافة العربية. فلا أحد من الكتاب العرب يجرؤ على الاعتراف بأنه مصاب بعقدة نفسية معينة أو بعصاب معين.
نقول ذلك على الرغم من أن هذا الأمر أصبح شائعاً ومعترفاً به لدى الكتاب الغربيين ولم يعد يثير أية حساسية، ولذلك فإني سأقصر دراساتي هنا على تاريخ الثقافة الغربية لكيلا أحرج أحداً. وثالثها، وربما أهمها، من أجل تبديد ذلك الوهم الشائع والمخيف الذي يحيط بكلمة عصاب، أو عقدة نفسية، أو جنون. فما دمنا لا نتجرأ على فتح هذا الملف والتحدث عنه، فإنه سيظل محاطاً بالغموض والأسرار والمخاوف. والواقع أن الجنون بالمعنى الذي نقصده، أي الجنون الإبداعي، ليس مخيفاً إلى مثل هذا الحد بل ربما كان محبباً وقريباً إلى النفس. وهو على أي حال لا يؤذي أحداً، اللهم إلا صاحبه... وكان يمكن أن استخدم محله كلمة التوتر الداخلي أو المعاناة أو الاضطراب النفسي الذي يدفع إلى الإبداع أو الذي يترافق مع الإبداع . فالشخص المتوازن كلياً، أي التافه والغبي لا يمكنه أن يشعر بأي حاجة للإبداع..
من أجل الاستئناس بهذا الموضوع يستحسن بنا أن نعود إلى الماضي لكتابة مقدمته التاريخية. يبدو أن أفلاطون كان أول من انتبه إلى هذه النقطة عندما قال بأن العباقرة يغضبون بسهولة ويخرجون عن طورهم. إنهم يعيشون وكأنهم خارج الزمن والوجود، وذلك على عكس الناس العاديين. ولكن أرسطو تلميذ أفلاطون ، هو الذي نظر لهذه العلاقة بشكل فلسفي محكم. وقد طرح هذا السؤال: لماذا يبدو جميع الرجال الاستثنائيين من فلاسفة وعلماء وشعراء وفنانين أشخاصاً سوداويين؟ نلاحظ أن أرسطو يستخدم كلمة الرجل الاستثنائي بدل العبقري، والسوداوي بدل المجنون. والواقع انه أقرب بذلك إلى تصورنا الحديث. فنحن لم نعد نقبل بكلمة العبقري أو العبقرية بسهولة، وإنما نفضل عليه تعبيراً أقل ضخامة أو أسطورية. ولم نعد نستخدم كلمة الجنون المرعبة وإنما كلمات حديثة أخرى من اختراع الطب النفسي كالاضطراب الذي يصيب المزاج ويجعله حساساً جداً أو متحفزاً جداً. ويقول أرسطو بأن السويداء تبتديء بميل الإنسان إلى الوحدة والعزلة والتأمل ثم تنتهي أحيانا بالصرع أو الجنون أو حتى الانتحار. ولكنها لدى المبدعين الكبار تتوقف عموماً عند حد معين لأن الإبداع يلجمها أو يوقفها عند حدها. ثم جاءت الثقافة الرومانية - اللاتينية بعد أرسطو واليونان وأخذت منه هذه الفكرة. ولذلك شاع المثل الذي يقول: لا يوجد شخص عظيم بدون حبة جنون ! وإذا ما انتقلنا بعدئذ إلى القرن الثامن عشر، أي إلى عصر التنوير، وجدنا أن ديادرو هو الذي بلور هذه الفكرة الشائعة التي تربط بين العبقرية والجنون. يقول هذا الفيلسوف الفرنسي:" آه : ما أكبر العلاقة بين العبقري والمجنون. فكلاهما يتميز بميزات خارقة للعادة إما باتجاه الخير وإما باتجاه الشر. فالمجنون يسجن في المصح العقلي والعبقري نرفع له التماثيل !..(3) ثم جاء القرن التاسع عشر وتأسس علم الطب النفسي لأول مرة على أسس حديثة. وأكد على وجود هذه العلاقة الوثيقة بين العبقرية والجنون. فالشخص العبقري لا يمكن أن يكون طبيعياً على طريقة الناس العاديين. يقول عالم الطب النفسي الكبير ايسكوريل بأن الشخصيات الكبرى في التاريخ هي شخصيات"مرضية" ويضرب على ذلك مثلاً لوثي وباسكال، وجان جاك روسو، الخ... وقد استعاد هذه الفكرة بعده طبيب نفسي أقل شهرة هو " لولوت " الذي كتب السيرة الذاتية المرضية لشخصيتين كبيرتين هما: سقراط وباسكال وكان عنوان الأولى: " شيطان سقراط " والثانية " تعويذة باسكال " فالعبقري في رأيه شخص ممسوس أو مسكون من الداخل من قبل شيطان العبقرية. وقد عرفت العرب هذه الفكرة في الماضي عندما تحدثوا عن "وادي عبقر "، والإلهام وشيطان الشعر... وقد أراد هذا الطبيب النفساني أن يستخدم حالة سقراط وحالة باسكال من أجل كتابة تاريخ الهلوسات . فالشخصيات الاستثنائية مهووسة بشي ء ما لاتدري حتى هي ، كنهها بالضبط. وهذا هو سر عبقريتها. وفي عام 1859 كتب "مورو دوتور" وهو طبيب نفساني دراسة تحليلية لشخصية الشاعر جيرار دونرفال الذي كان قد انتحر قبل وقت قريب. وأثبت فيها أنه كان مصاباً بتهيج هوسي دوري، هو السبب في إبداعه. فحالة الإبداع هي حالة هوسية يبلغ فيها التهيج حده الأقصى. ولو أن الشعراء والكتاب العرب تحدثوا لنا عن حالتهم النفسية أثناء عملية الإبداع لقدموا لنا إضاءات مهمة عن العلاقة بين التوتر والإبداع. ولكنهم لا يتجرؤون على ذلك خشية أن ينعتوا بالجنون !..
نقول ذلك على الرغم من أن بعضهم قد انتحر بسبب هذه المعاناة المتوترة جداً، ونضرب عليهم مثلاً الشاعر الكبير خليل حاوي. لكن الشعراء والمفكرين الأوروبيين لم يعودوا يخشون من ذلك بعد أن أزال التحليل النفسي تلك الهالة المرعبة التي كانت تحيط بالجنون والأمراض النفسية والعقد. بل إن بعضهم يفتخر بها للدلالة على مدى إبداعه وعبقريته ثم من أجل التمايز والخصوصية. والواقع أن مفكري أوروبا وشعراءها وفنانيها قد دفعوا ثمن تشكل الحداثة باهظاً. فمن نيتشه إلى بودلير إلى رامبو إلى هولدرلين إلى أنطونين أرتو إلى ميشيل فوكو إلى لويس ألتوسير إلى إدغار ألان بو إلى فيرجينيا وولف إلى كافكا إلى لوتريامون، نجد أن القائمة طويلة من أولئك الذين جنوا أو عانوا أو انتحروا.. نعم إن هناك علاقة بين التوتر النفسي والإبداع، ولكن ليس كل عبقري مجنوناً ، وليس كل مجنون عبقرياً ، فالعلاقة بينهما أكثر تعقيداً مما نظن. وهذا ما سنتعرض له تفصيلا فيما يلي:
يقول بعضهم بأن هناك نوعين من العبقريات. فهناك العبقرية الصاعقة، أي التي تنفجر انفجاراً عفوياً كالشلالات والينابيع، أو حتى كالزلازل والبراكين (وهذه هي حالة رامبو مثلاً أو هولدرلين أو خصوصاً نيتشه ). وهناك العبقرية الهادئة، المتدرجة التي تصنع نفسها عن طريق الصبر والمثابرة والعمل المتواصل (وهذه هي حالة فلوبير ). ولكن العبقري في جميع حالاته يكون عادة كائناً لا اجتماعياً، يميل إلى العزلة والوحدة والهامشية. لنضرب على ذلك مثلا محسوساً حالة الشاعر الفرنسي الكبير: آرثر رامبو. يقول بول كلوديل عنه: كان رامبو صوفياً في الحالة المتوحشة، أي في الحالة القسوى. كان نبعاً ضائعاً يتفجر من أرض ريانة. وأما جان كوكتو فيقول عنه هذه الكلمات الصائبة: لقد سرق رامبو جواهره من مكان ما. ولكن من أين؟ لا أحد يعرف. هذا هو السر (بالطبع فإنه يقصد بجواهره قصائده ). لقد تحول رامبو إلى أسطورة تستعصي على التفسير. فلم يعرف التاريخ عبقرية مبكرة مثل عبقريته إنه كالشهاب الذي ما إن اشتعل حتى احترق ! من المعلوم أن أشعاره كلها كتبت خلال أربع سنوات: أي من سن السادسة عشرة إلى سن التاسعة عشرة !.. هل يعقل أن يولد عبقري في مثل هذه السن المبكرة؟ ولذا رأى بعضهم أن القدرة الإلهية هي التي ألهمته وفجرت في جوانحه العبقرية الشعرية التي تتجاوز كل عبقرية في اللغة الفرنسية، إذا ما استثنينا بودلير. راح رامبو يمثل في تاريخ الشعر الفرنسي الطهارة البكر، أو البراءة الأصلية التي لا تشوبها شائبة. لقد اخترق رامبو سماء الشعر الأوروبي كالنيزك المارق: أي بسرعة البرق.
ثم هجر بيته وقريته وشعره، بل وتنكر حتى لشعره وراح يعيش حياة مغامرته المعروفة، في بلاد العرب في عدن واليمن. هذه هي العبقرية المتوحشة أو المتفجرة : بداية مبكرة إبداع خاطف، نهاية قبل الأوان. أما الروائي مارسيل بروست صاحب "بحثاً عن الزمن الضائع " فكان يرى أن العبقرية تجيء بشكل مفاجىء، أي في اللحظة التي لا نتوقعها. إنها تنفجر كالإشراق المباغت، أو كالإلهام الصاعق. وعندما يقول ذلك فإنه يعرف عما يتحدث لأنه شهد تلك اللحظة وعاشرها مثل بقية المبدعين الكبار. أما الشاعر سان جون بيرس فيصف تلك اللحظة بأنها "الصاعقة العذراء للعبقرية"، ويعترف كبار الكتاب بأنهم ليسوا هم الذين يكتبون أفكارهم، وإنما أفكارهم هي التي تكتب نفسها من تلقاء ذاتها، أو من خلالهم. وأتذكر بهذه المناسبة الحكاية التالية التي حصلت لي في جامعة دمشق. كنا في عام 1974- 1975 طلاباً في قسم الدراسات الأدبية العليا. وكان الناقد إحسان عباس يأتينا من بيروت مرة أو مرتين في الشهر لكي يلقي علينا دروساً نقدية حول الشعر الحديث. ولكن قبل التوصل إليه راح يتحدث عن الشعر الكلاسيكي السابق له، شعر بدوي الجبل وجيله.
وقال لنا بأنه سمع مرة بدوي الجبل يقول بأنه ليس هو الذي يكتب أشعاره ، وإنما هي التي تكتب نفسها بنفسها، فهي تجيئه وهو ماش أو نائم أو صاح وتنزل عليه كالإلهام. ويجد نفسه عندئذ وهو "يدندن" بها كما هو على غير علم منه. وما عليه عندئذ إلا أن يسجلها بسرعة على الورق قبل أن تتبخر وتضيع.. وأتذكر أن إحسان عباس قد أبدى بعض الشكوك فيما يخص هذه النقطة واعتبرها أحدى مبالغات الشعراء. ولكني الآن، وبعد مرور أكثر من عشرين سنة على هذه الحكاية، أميل إلى تصديق بدوي الجبل أكثر من ذي قبل، دون أن يعني ذلك إنكار دور الصنعة والجهد في إنتاج القصيدة.
فالمبدعون الكبار ينفجرون بالإبداع انفجاراً . ربما كان مايبدعونه يعتمل في داخلهم ويختمر لفترة طويلة، ثم تجيء فجأة لحظة الحسم التي لا يختاروها هم ، وإنما تختار هي نفسها بنفسها رغماً عنهم. مهما يكن من أمر فإن انفجار اللحظة الإبداعية قد يجيء بعد مرور الكاتب بأزمة، أو مباشرة بعد الصحو والخروج من الحلم : أي في حالات التنويم المغناطيسي تقريباً، والهلوسة، أو أحلام اليقظة.
ولكن هذه الحالات الإبداعية نادرة، ولذلك يحاول بعض الكتاب إثارتها في أنفسهم عن طريق تناول المخدرات أو شرب الكحول.. نضرب عليهم مثلاً نيتشه أو بودلير أو سارتر في عصونا الحاضر. فقد عرف عنهم تناول هذه"المنبهات" من أجل إيقاظ وعيهم الإبداعي وتحريكه. ولكن العملية خطرة وقد تؤدي إلى نتائج مزعجة. ولذلك يمكن القول بأن أفضل اللحظات الإبداعية هي تلك التي تجيء بشكل طبيعي لا مصطنع. وهي لحظات قصيرة وخارقة، ولكن تأثيرها يتجاوز الدهور، يكفي أن نفكر هنا ببعض هذه اللحظات الاستثنائية التي غيرت وجه التاريخ: ليلة 10 نوفمبر 1619، حيث نزل الإلهام على ديكارت وتوصل إلى الحقيقة. ثم يوم 13مايو 1797، أي قبل ما يزيد على 200 سنة حيث نزل الإلهام على الشاعر الألماني الكبير نوفاليس. ثم صيف 1831 حيث يشهد جوته فترة الهام مكثفة.. ولكن انفجار هذه اللحظات العبقرية في وعي أصحابها لا يمر عادة بسلام. وإنما يدفع ثمنه غالياً أحياناً . صحيح أنه يحرر الشخصية من عقدها وأوجاعها، صحيح أنه يحلق بها في الأعالي، أو أعلى الأعالي ولكنه يسقط إلى الحضيض بعدئذ. ثم تظل دائماً متأثرة به، حتى لكأنها تئن تحت وطأته. فليس كل الناس يستطيعون تحمل الإلهام، خصوصاً إذا ما كان منفجراً كالحمم من أفواه البراكين، وخصوصاً إذا ما نزل كالصاعقة. ولكن عدد الأشخاص الذين يشهدون مثل هذه اللحظات الاستثنائية قليل في التاريخ. لنتوقف هنا قليلا عند لحظة ديكارت من أجل تشريحها من الداخل ومحاولة فهم أبعادها. من المعروف أن الفيلسوف الفرنسي كان في بداية شبابه شخصاً ضائعاً لا يعرف ماذا يفعل بحياته. كان مغامراً يذهب من بلد أوروبي إلى آخر لكي يطلع على"كتاب العالم" كما يحب أن يقول: أي لكي يقرأ العالم ويطلع عليه كما تقلب صفحات كتاب، وقد انخرط في جيش أحد الأمراء في هولندا. وعندما اختلى بنفسه في غرفته في المعسكر جاءته الأحلام الثلاثة المرعبة التي هزته هزاً وكادت تودي به (4). ولكن العناية الإلهية شاءت أن تكون هداية له نحو الحقيقة التي يبحث عنها دون علم منه. لقد كانت ليلة ميلاد تلك التي عاشها ديكارت في العاشر من نوفمبر، ولولا حلم الله وعفوه لقضت عليه. وهكذا ولدت فلسفة ديكارت بعد مخاض شديد البأس. ونتجت عن تلك الليلة المنهجية العقلانية التي حكمت كل أوروبا طيلة ثلاثة قرون (أي حتى اليوم بشكل من الأشكال. أنظر المنهجية الديكارتية. أو العقلانية الديكارتية ).
وأما نوفاليس فقصته مختلفة. فقد شهد لحظة الإلهام الشعري في 13 مايو 1797، وشعر بفرح لا يوصف وحماسة خاطفة دامت عدة ثوان فقط. ولكنها أضاءته من الداخل بشكل لم يسبق له مثيل. وابتدأ عندئذ يكتب أشعاره الخالدة. هكذا نجد أن الإلهام جاء بعد لحظة غير طبيعية، لحظة تفوق كل اللحظات. ومن يعشها أو يذق طعمها لا يعود ينساها. والواقع أن هذه اللحظة جاءت بعد فاجعة حقيقية أصابته. فقد ماتت خطيبته وحبيبة عمره "صوفي" بمرض السل وعمرها لا يتجاوز الخمسة عشر ربيعاً. ثم مات أخوه بعدها مباشرة. وقد اعتملت الأشياء في داخله واختلجت وتفاعلت حتى انفجرت أخيراً في لحظة إلهام مدوية . يقول نوفاليس في تفجعه على حبيبته التي ماتت في عمر الزهور"رحت أنحني" وأبدد القبر وتراب القبر في نفسي. وأصبحت السنين ثواني وشعرت بحضورها، كدت ألمسها، شعرت بأن القبر سوف ينشق عنها فتخرج منه حية معافاة كما كانت، كما كنت أعرفها.."(5)، وقد كتب كل أعماله الشعرية في الأعوام الثلاثة التي تلت تلك اللحظة لحظة انفجار الإلهام والعبقرية في داخله. وما لبث أن مات هو أيضاً بمرض السل عام 1801 وعمره لا يتجاوز الثلاثين عاماً.
وأما عن جوته فحدث ولا حرج. فهذا الرجل الذي يعتبر مفخرة ألمانيا كلها لم يعش قرير العين. ولم يخل من الأزمات والهزات النفسية المؤلمة على عكس ما نتوهم. هو أيضا دفع ثمن إبداعه، أو ثمن عبقريته، باهظاً. وقد واتته الجرأة لكي يعترف في بعض اللحظات بأنه مريض نفسياً ، وبأنه يعاني معاناة هائلة لا يعرف كنهها ولا سببها. ولذلك استنتج أن هناك علاقة بين العبقرية وبين المرض النفسي أو العقد النفسية التي تصيب الشخصية. وربما لولا هذه العقد ومحاولة التغلب عليها لما كان الإبداع. فالشخصية المريضة لا تستطيع أن تتوازن إلا من خلال الإبداع. فالتناقض بين المبدع والعالم يكون حادا جداً إلى درجة أنه ينكد عيش الفنان ولا يدعه يستمتع بالحياة إلا في لحظات قليلة. ولذا يمكن أن نقول في ختام هذه الدراسة ينبغي ألا نحسد العباقرة كثيراً على شهرتهم، ففي بعض اللحظات يتمنون لو أنهم لم يولدوا.
تحدثنا عن العبقريات السريعة التي تلمع فجأة ثم تنطفىء كعبقرية رامبو مثلاً. لكن هناك عبقريات من نوع آخر، عبقريات بطيئة تتطلب وقتاً طويلاً وصبراً قبل أن تنضج وتتفتح. والواقع أن معظم العباقرة يتميزون بهذه الخاصية: الرغبة الكبيرة في الصبر والمثابرة عل نفس الخط لفترة طويلة من الزمن. إنهم لا ييأسون بسهولة ولا يتراجعون عن الهدف الذي وضعوه نصب أعينهم. يقول ألفريد دوموسيه بهذا الصدد ما يلي: لا توجد عبقرية حقيقية بدون صبر. وبالتالي فإن العبقرية لاتتشكل بين عشية وضحاها، وإنما هي خاتمة لمسار طويل عريض.
ويرى بودلير أن الإلهام لا ينزل علينا فجأة من السماء وإنما هو بالأحرى نتيجة للتدريب اليومي المستمر والمتواصل والدؤوب. نقول ذلك ونحن نعلم مدى القلق الذي يشعر به الكاتب أمام الصفحة البيضاء فهو لايستطيع أن يملأها إلا بشق الأنفس، وأحياناً لا يستطيع أن يكتب جملة واحدة. وقد عرف أحد الكتاب الانجليز العبقرية قائلاً بأنها نتيجة التعب والجهد بنسبة 99% ونتيجة الإلهام بنسبة 1% فقط ! وهذا دليل على أن الجهد هو الأساس، وأما ما تبقى فيجيء بعد بذل الجهد لا قبله. مهما يكن من أمر يبدو أن العناد هو أحدى الصفات الأساسية التي يتميز بها العباقرة. فالناس العاديون سرعان ما يملون بعد فترة من الزمن إذا لم يصلوا إلى نتيجة. وأما العباقرة فيظلون مصرين على نفس الخط رغم كل الخيبات والعقبات حتى يصلوا إلى نتيجة في نهاية المطاف.
وطالما تحدث الناس عن أسطورة بلزاك وقدرته الرهيبة على العمل خصوصاً ليلاً. فقد كان يغلق النوافذ عليه بدءاً من الساعة العاشرة مساء ثم يحضر "طنجرة" كاملة من القهوة ويبتديء الكتابة حتى الصباح دون توقف.
وهكذا كان يشتغل خمس عشرة ساعة يومياً، بعد أن يبتلع عشرات الفناجين من القهوة. ولولا ذلك لما استطاع كتابة كل هذا الإنتاج الضخم المتمثل بالكوميديا البشرية، وهو لم يعش أكثر من خمسين عاماً ! نعم إن العبقرية بحاجة إلى جهد جهيد، ولا تنزل علينا كهدية من السماء. يقول بلزاك في إحدى رسائله إلى حبيبة عمره مدام فانسكا: إن حياتي تتلخص بخمس عشرة ساعة من العمل، وبالمحن والعذاب، وهموم المؤلف، وصقل العبارات وتصحيحها(6).
ولكن هذا التدريب اليومي المستمر والدؤوب لا يفسر لنا وحده سبب العبقرية. فهناك دارسون أكاديميون يشتغلون ساعات وساعات يومياً دون أن يتوصلوا إلى أكثر من مرتبة دارس جيد أو جامع مفيد للمعلومات، وإذاً فهناك سبب آخر للعبقرية غير الجهد والتعب: إنه الموهبة أو شرارة الإبداع.
فهناك كتاب يمتلكونها، وآخرون لا يمتلكونها. ولذلك نسمعهم يقولون: هذا الكاتب موهوب،وهذا الكاتب عنده شيء، الخ... إذاً فالعبقرية هي نتاج الموهبة والجهد في آن معاً، وقد لا يكون حظ الموهبة فقط 1% كما قال الكاتب الانجليزي، وإنما 50% .
إن فلوبير يجسد في مجال الأدب، المثال الأعلى للمثابرة والمواظبة وبذل الجهد والتعب،. وكان يجلس وراء طاولته من عشر إلى اثنتي عشرة ساعة يومياً لكي يستطيع أن يكتب رواية واحدد كل أربع أو خمس سنوات. ولذلك لم يكتب كثيراً: خمس أو ست روايات طيلة حياته كلها ما عدا "مدام بوفاري" رائعته الخالدة. إنه يشبه المقلين في الشعر العربي القديم الذين اشتهروا بقصيدة واحدة أو عدة قصائد فقط. إنه يشبه عبيد الشعر الذين لا ينفكون يصقلونه ويعيدون النظر فيه أياما وشهوراً وربما سنوات. وطالما تحدث فلوبير عن عذاب الكتابة وكيف أنه يفني الساعات الطويلة. وأحياناً بضعة أيام، لكي يجد الجملة المناسبة أو حتى الكلمة المناسبة. وكم يلعن نفسه أثناء ذلك ويلعن الكتابة والأدب وكل شيء... وأذكر أني عندما زرت بيته الواقع في ضواحي مدينة"روان" على شواطىء نهر السين قبل بضع سنوات فوجئت بمدى التشطيب الذي كان يمارسه على كل صفحة يكتبها. فلا تكاد تقرأ فيها شيئاً واضحاً من كثرة الحذف والتشطيب والإضافة والتصحيح أو التعديل، الخ.. وقد تحول منزله إلى متحف يزوره الزائر متى يشاء كي يستمتع بالجو الذي كان يعيشه صاحب"مدام بوفاري" في القرن التاسع عشر. وعندئذ تستطيع أن تملأ عينيك بجمال الغابة المحيطة أو أن تراقب من النافذة مرور المراكب والسفن كما كان يراقبها فلوبير نفسه قبل قرن وهو جالس وراء مكتبه يسطر"مدام بوفاري"..
نعم إن فلوبير لم يكتب أكثر من خمس أو ست روايات في حين أن كتابنا العباقرة يتحفوننا كل عام أو حتى كل شهر برواية أو ديوان شعري أو كتاب فكري، الخ.. لماذا كل هذا الاستعجال يا أخوان؟ لماذا تحرقون الطبخة قبل أن تنضج؟ فلوبير كان حريصا على ألا يصدر شيئاً قبل أن يستنفد طاقته كلها فيه. يقول في إحدى رسائله إلى عشيقته لويز كوليه:"لقد داخت رأسي وجف حلقي من كثرة ما بحثت عن جملة واحدة. لقد قلبتها على عشرات الوجود ونجرتها وحفرتها، ثم ندبت وشتمت حتى توصلت أخيراً اليها... إنها رائعة، أعترف بذلك. ولكنها لم تولد دون مخاض وعذاب".
هناك خاصية أخرى يتميز بها العباقرة هي: حب الوحدة والعزلة والاستقلالية الشخصية. يكتب أحدهم: لقد قالوا عن العبقري بأنه يشبه المجنون. بمعنى أنه يولد ويموت وحيداً. انه شخص بارد، فاقد الحساسية لا علاقة له بالعواطف العائلية والتقاليد الاجتماعية. ولكن هذه مبالغة بالطبع. والواقع أن العباقرة يحبون العزلة من أجل التفرغ لإبداعهم وإنتاجهم، فلا تستطيع أن تبدع وأنت في زحمة الشارع أو في وسط البشر، ومن المعروف أن العلاقات العامة والاستقبالات والحفلات تأخذ وقتاً كثيراً ولا تسمح للمفكر بأن يتفرغ لنفسه وأفكاره وتأملاته. ولذلك اشتهر المفكرون بحب الوحدة والحرص عليها.
نضرب عليهم مثلاً شهيراً ديكارت الذي غادر بلاده فرنسا هرباً من المتطفلين والثرثارين الذين كانوا يلاحقونه باستمرار. وكان يشعر بسعادة كبيرة إذ يسكن في حي لا أحد يعرفه فيه، ويمشي في الشارع ولا أحد ينتبه إليه. فالشهرة أيضاً مزعجة وينبغي أن يحمي الإنسان نفسه منها. إن العبقري يتميز بالهامشية والعصيان وعدم الخضوع للتقاليد والأعراف السائدة مثله في ذلك مثل المجنون، ولكن الفرق الوحيد بينه وبين المجنون هو أنه لا ينتهكها بشكل مجاني أو مبتذل أو غير واع. يضاف إلى ذلك أن للعباقرة عاداتهم التي يلتزمون بها وتصبح جزءاً لا يتجزأ منهم.
قلنا سابقاً بأن بلزاك كان يسهر في الليل وينام في النهار. وهكذا كتب معظم مؤلفاته إن لم يكن كلها. وهذه الطريقة في الحياة تعتبر جنوناً بالنسبة للإنسان العادي. فالطبيعي أن تفعل العكس أي أن تنام في الليل وتشتغل في النهار. ولكن العبقري ليس إنساناً طبيعياً . إنه مهووس بمشروعه إلى درجة المرض ومستعد لأن يضحي بكل شيء من أجله. وقد لاحظنا من خلال قراءة سير العباقرة أن معظمهم لا ينجبون الأطفال ولا يكرسون وقتهم لتربية عائلة. فمؤلفاتهم هي أطفالهم، وهم حريصون عليها مثل حرص الرجل العادي على طفله. فديكارت لم يتزوج، وكذلك الأمر بالنسبة لكانط، وسبينوزا، ونيتشه، وسارتر، وميشيل فوكو،الخ.. بالطبع فهناك استثناءات (هيجل مثلاً ). ولكن عموماً فإن العبقري يكرس حياته لشيء واحد فقط: هو إنتاجه وإبداعه.
يضاف إلى ذلك أن عادات العباقرة عجيبة وغريبة وتختلف عن عادات البشر. فمثلاً ينسون أحياناً أن يأكلوا ويشربوا في فترات الابداع، وينسحبوا من الحياة اليومية كلياً لكي يضعوا إنتاجهم مثلما تنسحب المرأة الحامل لكي تضع طفلها. وهكذا عاش مارسيل بروست ومات عام 1922 ضمن ظروف بائسة في غرفة حقيرة لا تحتوي إلا على سرير وكرسي وثلاث طاولات ! وأما " فرانز كافكا " فكان أكثر شذوذاً وغرابة أطوار. كان يفرض على نفسه عادات صحية عجيبة خوفاً من المرض. وكان هوسه اليومي هذا على علاقة بهوسه الابداعي. كان يفرض على نفسه مثلاً الاستحمام بالماء البارد جداً والمثلج، ويمتنع عن تناول الكثير من الأطعمة اللذيذة ويعاقب جسده معاقبة صارمة. وكل ذلك بسبب العصاب الهوسي الذي يلاحقه والذي أدى إلى تفتح عبقريته على الرغم من كل شي ء. وهنا نلمس لمس اليد نقطة التواصل بين العصاب النفسي، وبين العبقرية. يضاف إلى ذلك أن العباقرة متطرفون في عاداتهم على عكس الناس العاديين أو المتوازنين. فمثلاً كان فولتير يشرب خمسين فنجان قهوة في اليوم ! وقل الأمر ذاته عن فلوبير وبلزاك. وذلك لأن القهوة تنبه الأعصاب وتجعلها متحفزة للابداع. وأما بودلير فقد تجاوزها إلى ما هو أخطر: شرب الكحول بشكل مسرف وتعاطي المخدرات. وقد دفعت صحتهم ثمن ذلك غالياً... ولكن في سبيل الابداع كل شيء رخيص.
والآن ماذا عن القلق؟ في الواقع أن العباقرة شخصيات قلقة حساسة إلى درجة المرض والتطرف الأقصى. ولو سمعنا كل حكاياتهم وقصصهم العجيبة الغريبة لحمدنا الله على أننا لسنا عباقرة ! لنضرب على ذلك مثلاً شوبنهاور. فقد كان مصابا بجنون العظمة وعقدة الاضطهاد في آن معاً. وكان يعتقد بأنه ملاحق باستمرار دون أن يلاحقه أحد.. ولم يكن أحد يستطيع أن ينزع من رأسه تلك الفكرة التي تقول بأن هناك مؤامرة كونية تحاك ضده من أجل خنق عبقريته أو القضاء على إبداعه الفلسفي. ألا يقترب ذلك من الجنون؟ أين تقع الحدود الفاصلة بين العقل والجنون؟ فمنذ عام ( 1814) أي عندما كان في السادسة والعشرين من عمره راح يقارن نفسه بالمسيح ويعتبر أنه مبعوث لهداية البشر على طريق الحقيقة. يقول:"يحصل لي ما حصل ليسوع الناصري عندما أيقظ حوارييه أو أتباعه النائمين. أنا رجل الحقيقة الوحيد في هذا العالم". ولكن جنون العظمة هذا تحول فيما بعد إلى عكسه، أي إلى عقدة الاضطهاد ثم أصبح مسكوناً بهاجس القلق الأقصى والمرعب إلى درجة أنه كان يرفض أن يسكن في الطابق الثاني أو الثالث من البناية خشية أن يحصل حريق فيها فلا يستطيع القفز أو الهرب قبل فوات الأوان ! فكان يحمل مسدساً معه باستمرار ويضع يده عليه مستنفراً ما إن يسمع ضجة خفيفة أو هبة ريح في الخارج باعتبار أن هناك دائماً أشخاصاً قادمين لاغتياله.. يضاف إلى ذلك أنه كان يكتب أفكاره للوهلة الأولى باللغات الإغريقية واللاتينية بل وحتى السنسكريتية ويخبئها بين صفحات كتبه كي لا يقع عليها أحدهم ويسرقها منه ! فقد كان يعتقد كما قلنا أنهم سيسرقونها منه وينسبونها إلى أنفسهم. وكان يحقد على معاصره هيجل حقداً شديداً لأنه نجح ولمع، في حين أنه هو بقي مجهولاً طيلة حياته كلها تقريباً. وكل هذا لم يمنع من أن يكون أحد كبار فلاسفة العصور الحديثة.
وإذاً ينبغي أن ننزع من أذهاننا تلك الصورة المثالية والأسطورية عن العبقري. فهو رجل عادي، بل وأقل من عادي في بعض تصرفاته إنه تافه جداً أحياناً. وربما كان هدف العبقري الدائم هو أن يصبح رجلاً عادياً كبقية البشر. ولكن بما أنه لايستطيع التوصل إلى ذلك فإنه يلجأ إلى الخلق والإبداع من أجل الحفاظ على توازنه. فإذا ما نجح في ذلك قال الناس عنه بأنا عبقري، وإذا ما فشل قالوا إنه مجنون. وهنا يكمن الفرق بين العبقرية والجنون.
لنتحدث الآن عن جان جاك روسو الذي يعتبر في الغرب نبي العصور الحديثة. أليس هو القائل: لو أردت أن أكون نبياً من كان سيمنعني؟! فقد كان مصابا بعقدة الاضطهاد أيضاً. وكان يعتقد أن هناك مؤامرة جهنمية تحاك ضده في كل مكان، وخصوصاً في الفترة الثانية من حياته. وكان يشك حتى بأصدقائه من أمثال ديادرو وهيوم وفولتير.. بل ويقال بأنه غير سكنه أكثر من مرة خوفاً من ملاحقة وهمية. وعندما سمع أحد الجيران بأن روسو هو الذي يسكن في الغرفة المجاورة له لم يكن يصدق. وقال: سأتعرف الآن على أكبر شخص في العالم ولكن روسو صده مباشرة متوهماً بأنه جاسوس ! فانكسر الرجل وحزن حزناً شديداً لأنه كان فقط يريد السلام عليه.. بالطبع فإن روسو لم يكن فقط ذلك، وإنما كان أيضاً إنساناً رحيماً شفوقاً يمتلئ بالعاطفة والحنان والمحبة للجنس البشري كله. ولكنه كان معقداً نفسياً لأسباب خاصة بحياته والمصاعب التي لاقاها والحسد الكبير الذي أثاره حوله بسبب عبقريته وشهرته الأسطورية. فالشهرة ليست خيراً كلها، وإنما تسبب متاعب كبيرة، بل ومخاطر جسيمة لأصحابها، وويل لمن يشتهر بدون إذن الناس ! لكأنه يسرق منهم شيئاً أو يعتدي عليهم.. ولكن قلق العباقرة يمكن أن يصل أحياناً إلى درجة الانهيار الكامل: أي الجنون الحقيقي. وهذا ما حصل للموسيقار روبيرت شومان الذي قال لأصدقائه عام 1854: " أريد أن أدخل المصح المقلي. لقد انتهيت. أنا لم أعد مسؤولاً عن تصرفاتي أرجوكم اسجنوني...".
وأما الشاعر جيرار دونرفال فقال لهم: " أخشى أن يضعوني في بيت العقلاء (أي في المصح العقلي ) والناس في الخارج كلهم مجانين !..." وأما أندريه بريتون الذي لم يكن مجنوناً إلا على الطريقة السوريالية فقد احتج على سجن العباقرة في المصحات العقلية وقال: إن كل هذا السجن تعسفي. لا أفهم كيف يحرمون شخصاً ما من حريته. لقد سجنوا ساد وسجنوا نيتشه، وسجنوا بودلير.." وكان يمكن أن يضيف: كونراد، وموباسان، وهولدرلين، وهمنجواي، وفان كوخ، وألتوسير وغيرهم.. هذا القلق النفسي الرهيب الذي كان يعاني منه معظم الكتاب يتجلى أيضاً لدى بيير كامو. فقد صرح لأحد أصدقائه المقربين أكثر من مرة بأنه يشعر بأن الخواء الداخلي يكتسحه كلياً، وأنه ملي ء باليأس القاتل ولا يستبعد أن يلجأ للانتحار لحمل لمشكلته.. والواقع أنه مات في حادث سيارة على طريق " ليون - باريس"، فهل كان ذلك انتحاراً واعيا أم لا؟ على أي حال لقد أنقذه الحادث من الانتحار. ونلاحظ أن الإحباط واليأس الكامل يتجليان في كتابه المعروف " أسطورة سيزيف ". وهو كتاب جميل ويستحق أن يقرأ من أجل تبيان فراغ الحداثة وهشاشة الوجود. ( لا أعرف فيما إذا كان قد ترجم إلى العربية أم لا ).
لنتحدث الآن عن بودلير .. فقد مات أبوه وهو صغير. وكان متعلقاً بأمه إلى درجة المرض. ولكن الكارثة حصلت عندما تزوجت أمه من الجنرال "أوبيك" بعد فترة قصيرة فقط من موت والده وهذا ما سبب له حزناً عميقاً لم يقم منه طيلة حياته كلها. فقد اعتبر أنهم سرقوا أمه منه، وأنها خانته، ولم يعد يستطيع أن يتخيل أنها مع رجل آخر… يا للخيانة ! ويا للغدر! في الواقع أن بودلير كان يعاني من عقدة أوديب التي اكتشفها فرويد، وبلورها لأول مرة. وقد فكر بالانتحار أكثر من مرة، بل وقام بمحاولة انتحار فاشلة عندما ضرب صدره بالسيف. يقول لأحدهم معبراً عن يأسه الداخلي وتقززه من الحياة : أسوف أقتل نفسي غير آسف عل الحياة . سوف انتحر لأني لم أعد قادراً على الحياة. لقد تعبت من النوم والاستيقاظ كل يوم. يا لها من عادة مملة رتيبة. أريد أن أنام مرة واحدة وإلى الأبد. سوف أنتحر لأني أصبحت عالة على الآخرين، لأني أشكل خطراً حتى على نفسي . سوف أنتحر لأني أعتقد بأني خالد ومليء باللا أمل"(9).
الواقع أن الاكتئاب شائع كثيراً لدى كبار المبدعين. نضرب على ذلك مثلاً بيتهوفن. فهو أحد كبار الموسيقيين على مر العصور. ولكنه لم يعش حياة مريحة أو هنيئة كلنا يعرف أنه كان أطرشاً لا يسمع. وقد سبب له ذلك عقدة نفسية حقيقية. وربما كانت هي الدافع إلى تفجر عبقريته. فالعبقرية تجيء كتعويض عن نقص ما أو خلل ما كما يقول التحليل النفسي. كان بيتهوفن بحسب ما يروي لنا معاصروه يتميز بالسوداوية والحزن العميق الذي لا شفاء منه. وحتى عندما كان يضحك فإن ضحكته كانت بشعة. عنيفة، ناشزة غير طبيعية. كانت ضحكة رجل لم يتعود على الفرح أبداً في حياته. وعندما كانت تجيئه لحظة الإلهام، فإنه كان يخرج عن طوره ويصبح وكأنه أصيب بمس من جنون يصبح غائباً، سارحاً، شارداً والناس يضجون من حوله، ولكنه لا يعبأ بهم عل الإطلاق. وكان يصرخ بأعلى صوته، ويتمتم، ويدندن، ويمسح غرفته، ذهاباً وإياباً. وهو في حالة من التوتر الأقصى، حتى تحصل الولادة السعيدة، أو القطعة الموسيقية المنشودة. وبالتالي فهناك علاقة واضحة بين التوتر النفسي ، إن لم نقل المرض النفسي وبين الإبداع.
نضرب على ذلك مثلاً أخيراً الرسام الفرنسي الشهير كلود مونيه، أحد مؤسسي المدرسة الانطباعية في الفن. فقد كان على حافة الانهيار النفسي، وكان يشهد حالة الإحباط التي تسبق وتتلو كل عملية إبداع: أي كلما رسم لوحة فنية، وكان مازوشياً زاهداً في نفسه، مستصغراً لقدراته ولا ينفك يقول: كل شيء ضاع، لن أنجح في حياتي أبداً، سوف تخسر كل أعمالي، سوف أضطر لبيع البيت والفرش والأدوات الخ.. ومع ذلك فقد سجله التاريخ كأحد كبار الفنانين في العصر الحديث..
قلنا إذاً بأن العبقري يشترك مع المجنون (أو مع المريض العقلي ) بصفة أساسية واحدة: هي التأزم الداخلي، ولكن الفرق بينهما هو أن أزمة العبقري تنحل عن طريق الإبداع، في حين أن أزمة المجنون تبدو مجانية ولا تؤدي إلا إلى الهذيان الفارغ. هذا يعني أنه لولا إبداعه الخارق لكان العبقري قد أصبح مجنوناً .
فالإبداع هو الذي يحرر الشخصية من أزمتها الداخلية أو من تناقضها الحاد الذي يبدو عصياً على التجاوز في الحالات العادية. بهذا المعنى فإن الإبداع هو انفجار خارج من الأعماق. إنه ولادة تجيء بعد مخاض عنيف وخطر. وهكذا يستعيد المبدع توازنه لفترة من الزمن، وذلك قبل أن يدخل في دورة تأزمية جديدة تنحل أيضاً عن طريق إبداع جديد وهكذا دواليك.. نقول ذلك وبخاصة إذا ما لقي الإبداع ترحيباً في وقته من قبل شريحة واسعة من الناس. وهكذا يتوازن العبقري على اعتراف الناس وإعجابهم به.، ولولا هذا الاعتراف لربما فقد توازنه وغطس في بحر الجنون. فاعتراف الآخرين بك يعطيك ثقة بالنفس ويثبت أقدامك ويزيل الكابوس النفسي عن صدرك. والواقع أن تعريف العبقرية هو هذا : اعتراف العدد الأكبر من الناس بالمبدع، وديمومة هذا الاعتراف على مدار الزمن والقرون. هذا هو الشي ء الذي يعطي قيمة لا تقدر بثمن للوحات ميكيل أنجيلو ، أو فان كوخ ، أو لمسرحيات شكسبير، أو لروايات بلزاك وديستويفسكي، أو لكتب ديكارت، وكانط وهيجل في مجال الفلسفة، الخ.. ولكن المشكلة هي أن بعض العباقرة لم يتوازنوا نفسياً حتى بعد أن أبدعوا، كما حصل لفان كوخ وشومان وفيرجينيا وولف ونيتشه.
وربما كان السبب الأساسي يعود إلى أنهم لم يحظوا بالاعتراف الكامل بهم أثناء حياتهم، وإنما بعد مماتهم، فقد جاء الاعتراف متأخراً ، جاء بعد فوات الأوان. وينطبق ذلك أكثر ما ينطبق على فان كوخ الذي تباع لوحاته الآن بعشرات الملايين من الدولارات، في حين أنه كان جائعاً وفقيراً في حياته. لم يتح له القدر أن ينعم بشهرته ونتاج عبقريته. وقل الأمر نفسه عن نيتشه الذي لم يعترف به إلا نفر قليل في حياته، ثم انفجرت شهرته كالقنبلة الموقوتة بعد جنونه أو موته بوقت قصير. وكان قد تنبأ بذلك عندما قال جملته الشهيرة: البعض يولدون بعد موتهم ! سوف يجيء يومي، ولكن لن أكون هنا. وقد تنعمت أخته " إليزابيث " بهذه الشهرة والمال العريض الناتج عن بيع أعمال أخيها بملايين النسخ، في حين أنه لم يبع منها إلا بضع عشرات في حياته كلها.. ولكن يمكن القول بأن هناك نفوساً عطشى لا تشبع حتى بعد أن ترتوي. إنها أرواح حائرة لا يعرف كنهها أو سرها. وأكبر مثل على ذلك الكاتبة الانجليزية فيرجينيا وولف التي انتحرت حتى بعد أن نجحت وذاقت طعم الشهرة في حياتها..
في يوم الاثنين بتاريخ 27 فبراير 1854 كان الموسيقار الألماني الشهير روبيرت شومان جالساً مع أصدقائه في جلسة سمر في بيته. وفجأة يترك الزوار ويخرج بثيابه العادية. واعتقد أصدقاؤه عندئذ أنه خرج لحاجة ما وأنه سيعود بعد قليل. ولكنه في الواقع توجه مباشرة إلى نهر الراين وألقى بنفسه فيه بعد أن وصل تأزمه إلى حده الأقصى. ولحسن حظه (أو لسوء حظه، لم نعد نعرف ) كان هناك صيادون بالقرب منه فانتشلوه وأنقذوه من الغرق..
وفي عام 1880 كان عمر نيتشه 36 سنة. عندئذ ترك الجامعة بعد أن قدم استقالته وذهب لكي يعيش حياة التشرد والضياع على الطرقات والدروب. وهكذا ابتدأ يصبح فيلسوفاً حقيقياً. ولكن مزاجه كان دائماً متقلباً وفكرة الانتحار تلاحقه باستمرار. وقد اشتد تأزمه بعد أن فشل حبه الكبير للغادة الحسناء: لواندريا سالومي. ويبدو أنه قام بثلاث محاولات انتحار فاشلة عن طريق تجرع كميات ضخمة من سائل الكلورال. ولكنه لم يمت. والغريب العجيب أنه على أثر تلك الفترة بالذات راح يكتب رائعته الشهيرة: هكذا تكلم زرادشت وهكذا أنقذ من الجنون ولو إلى حين..
أما فيرجينيا وولف فقصتها مختلفة. فقد كانت مهددة بالانتحار طيلة حياتها كلها. وكانت تغطس في حزن عميق لا قرار له. وترفض أن تأكل، وترفض أن تعترف بأنها مريضة. وكانت تقول بأن حالتها تعود إلى شعورها بالذنب. ولكن أي ذنب؟ لا أحد يعرف. وعندما وصل تأزمها إلى ذررته حاولت أن تنتحر مرة أولى عام 1895 عن طريق إلقاء نفسها من النافذة. ثم حاولت مرة ثانية عام 1913 عن طريق تناول السم. ثم حاولت مرة ثالثة عام 1941 (ونجحت ) عن طريق إلقاء نفسها في النهر والموت غرقاً..
أما الكاتب الفرنسي الشهير دو مو باسان فقد حاول الانتحار عام 1892 عندما أطبقت عليه الأفكار السوداء ووصل تأزمه إلى ذررته. ولكنه لم ينجح. فاقتادوه إلى المصح العقلي حيث مات بعد سنة من ذلك التاريخ. وهكذا دفع ثمن شهرته وإبداعه غالياً .
والآن من يصدق أن الفيلسوف الفرنسي الكبير أوجست كونت، مؤسس الفلسفة الوضعية، كان على حافة الجنون أكثر من مرة، وأنه حاول الانتحار عن طريق رمي نفسه في نهر السين !.. فبما أن الوضعية تمثل قمة العقلانية في الغرب، فإن أحداً لا يتوقع أن يكون مؤسسها قد أصيب بالجنون ، أو بالانهيار النفسي ، في بعض مراحل حياته. وهو دليل على أن العبقرية يمكن أن تخرج من رحم الجنون، بل وتنتصر على الجنون. ولولا أن أوجست كونت استطاع التوصل إلى بلورة فلسفته الوضعية وحظي بالإعجاب والتقدير من قبل معاصريه لكان قد انهار وغاص كلياً في ليل الجنون...
إذاً ينبغي أن نغير تلك الصورة السائدة في أذهاننا عن العباقرة والتي تعتبرهم أنهم فوق البشر وأن الضعف لا يأتيهم من بين أيديهم ولا من خلفهم.. فهذه صورة مثالية أو أسطورية لا علاقة لها بالواقع. إنها صورة تتشكل عادة عن العباقرة بعد موتهم،. صورة تبجيلية يساهم في صنعها الأتباع والأنصار والمعجبون هذا لا يعني بالطبع أن العبقري ليس عظيماً ، إذ يكفيه عظمة أنه استطاع الانتصار على انهياره الداخلي وتحويله إلى شيء ايجابي، إلى عمل عبقري. هنا تكمن عظمة العباقرة بالضبط. فهم يبذلون جهوداً جبارة للتغلب على أنفسهم، لقهر العقد النفسية المتجذرة في أعماقهم. وهكذا يحولون السلب إلى إيجاب والتحت إلى فوق، والجنون إلى عبقريات. أو قل إن الجنون والعبقرية يتجاوران لديهم جنباً إلى جنب. فأوجست كونت الذي كان يهذي والذي حاول الانتحار مرة هو نفسه أوجست كونت الذي أسس الفلسفة العلمية التي رافقت صعود العصر الصناعي في الغرب. وبالتالي فإنه يمثل قمة العقلانية وقمة الجنون في آن معاً ! وبالتالي فإن العبقرية والجنون هما من مصدر واحد: أي يصدران عن اللاوعي السحيق للفرد، ذلك اللاوعي الذي يمثل قارة مظلمة ومجهولة في آن معاً. إنها تشبه البركان العميق الذي يختلج تحت طبقات الأرض الجيولوجية. فأحيانا تقذف بالعبقرية إلى السطح، وأحياناً تقذف بالهذيان والجنون.
وأما جوته فعلى الرغم من الجنون الدوري الثقيل الذي كان يصيبه من حين إلى آخر، إلا أنه لم يقدم على الانتحار. وإنما اكتفى بأن جعل بطل روايته الأولى " آلام الشاب فيرتر " هو الذي ينتحر وهكذا وفر على نفسه هذه المهمة، ويقال بأن الكتاب الذين يمارسون الانتحار في كتاباتهم، أو يتحدثون عنه كثيراً ، لا ينتحرون فعلاً. وأما أولئك الذين يسكتون عنه كليا فهم الذين ينتحرون حقاً . وهكذا يفاجئون الناس بأنهم أقاموا على شي ء بدون مقدمات ودون أن يرهصوا به. وقد جرت إحصائيات في فرنسا عن نسبة المنتحرين بين المبدعين وتبين أنها عالية في أوساط الأدباء والشعراء وضعيفة في أوساط الرسامين والموسيقيين . نقول ذلك على الرغم من انتحار فان كوخ وجو جان وشومان وتشايكوفسكي. ولكن عددهم لا يقاس بأسماء الشعراء والروائيين الذين انتحروا من أمثال : جيرار دونيرفال، مايكوفسكي، بودلير، همنجواي، مونترلان، جي دوموباسان، فيرجينيا وولف، نيتشه، إدغار ألان بو ، والقائمة طويلة..
أخيرا سوف يكون من الحمق والغباء أن ندعي هنا بأننا قادرون على اكتشاف سر العبقرية. فالعبقرية، تحديداً ، هي سر الأسرار إنها تستعصي على كل تفسير. ولكن يمكن فهم بعض الجوانب المحيطة بها من خلال تجلياتها في أشخاص معينين ندعوهم بالعباقرة ، أو بالأشخاص الاستثنائيين أو بالمبدعين الكبار كما نحب أن نقول في لغتنا المعاصرة، وذلك لأن كلمة "عبقري" أو "عبقرية" أصبحت عتيقة أو بالية في الوقت الراهن. نقول ذلك على الرغم من أن المعنى هو ذاته. فلا أحد يعرف سر مسرحيات شكسبير الرائعة، أو سبب نجاح لوحات فان كوخ، أو قصائد رامبو، الخ.. صحيح أنه يمكن لمناهج النقد الأدبي والفني أن تشرح لنا الكثير من جوانب هذه الأعمال الإبداعية، بل وتنفذ إلى أعماقها في بعض الأحيان. ولكن يبقى هناك لغز ما يصعب الوصول إليه واستنفاده كلياً عن طريق التحليل. وهذا اللغز هو ما يدعى بالعبقرية.
فرامبو كان يستخدم اللفة الفرنسية مثله في ذلك مثل بقية شعراء جيله. ولكنه هو الوحيد الذي استطاع أن يكتب تلك القصائد التي لا تضاهى والتي لا تزال تسحرنا حتى الآن. يمكن أن نقول الشي ء ذاته عن المتنبي في اللغة العربية، أيضا أو حتى عن شعراء كبار آخرين. وإذاً فهناك كيمياء سحرية أو سرية للإبداع لا نعرف كنهها، ولا يتوصل إليها إلا المبدع الكبير (أو العبقري). إنه يركب الكلمات بطريقة ما وينفخ فيها الروح ثم يسطرها قصائد خالدة على صفحات التاريخ. وتظل تعجبنا وتأخذ بقلوبنا حتى بعد مرور مئات السنين. هنا يكمن سر العبقرية أو لغزها المحير. لقد حاول علم الطب النفسي والتحليل النفسي أن يكتشف سر العبقرية وتوصلا إلى نتائج لا يستهان بها، ولكن يبقى هناك شيء ما في العبقرية يستعصي على كل تفسير. يقول جاستون باشلار، أحد كبار العلماء والنقاد الأدبيين في آن معاً :"في أعماق الطبيعة ينبت عشب غريب. في ظلام المادة تنبثق أزهار سوداء. إن لها قطائفها الرائعة وعطرها الفواح"..
هكذا تولد العبقرية: إنها كالنور الذي ينبثق من رحم الظلام، أو كالعقل الذي ينهض عل أنقاض الجنون. والعلامة الأساسية التي لا تخطي، على العبقرية هو الاعتراف الكامل والكوني والدائم بها. فلا أحد يشك في عبقرية شكسبير، أو المتنبي أو المعري أو بودلير أو نيتشه أو هيجل.. وكلما مرت الأزمان على إنتاجهم عتق ونضج كالخمرة المعتقة وأصبح أكثر أهمية وامتلاء بالمعاني والدلالات.
لقد أثبت الطب النفسي الحديث بعد أن أجرى دراسات تجريبية عديدة أن العبقري لايتميز بتركيبة نفسية خاصة بقدر ما يتميز بتشغيل خاص لهذه التركيبة النفسية. فهو إنسان مثله مثل بقية البشر. ولكن استعداده النفسي مختلف،. فهو يتميز مثلاً بطاقة هائلة عل الحركة والابداع قياساً بالإنسان العادي. كما أنه يتميز بالاختلاف وحب الخروج على المألوف. فالامتثالي الخاضع للعادات والتقاليد السائدة في المجتمع لا يمكن أن يكون عبقرياً. لأن أول سمة من سمات العبقرية هي الشذوذ عن المألوف. ولذلك فإن العباقرة يصدمون الناس في البداية ويلاقون صعوبات جمة من قبل وسطهم والمحيط السائد. ثم يمضي وقت طويل قبل أن يتم الاعتراف بهم، وأحياناً لا يعترف بهم إلا بعد موتهم. وحده العبقري يعرف قيمته منذ البداية، ولكنه لا يستطيع إقناع الآخرين بها فوراً بمن فيهم أسرته الشخصية. ولذلك يعاني معاناة جمة ويصاب بالإحباط في لحظات كثيرة، ويحاول التراجع عن الأمر أو الاستسلام، ولكن هناك قوة داخلية فيه أي قوة سرية، تدفعه لأن يستمر، لأن يواظب على مسيرته. ولذلك قلنا بأن من صفات العبقري الصبر والمواظبة لفترة طويلة من الزمن. إنه عنيد فعلاً، ولا يتراجع قبل أن يتواصل إلى تنفيذ المهمة التي خلق من أجلها. لذلك انه ينبغي أن نعتقد بأن العبقري يعتبر نفسه محملاً برسالة أو مسؤولاً عن تنفيذ مهمة عليا تتجاوزه وهو مستعد لأنه يضحي بحياته من أجلها، ومن أجلها وحدها. من هنا تجيء سر قوته ومقدرته على تجاوز العقبات والحواجز التي يصطدم بها في طريقه، والتي يضعها الآخرون في طريقه، فالعبقري ما إن يكتشف الآخرون نواياه الحقيقية حتى يتألبوا عليه ويحاولوا منعه من تحقيق مهمته. العبقري مهدد باستمرار خصوصاً في مراحله الأولى، والعبقرية خطر على صاحبها. ويصل هذا الخطر أحياناً إلى مرحلة التهديد بالتصفية الجسدية.
لماذا كل هذا الخطر على العبقري؟ لأنه ليس من الطبيعي أن تكون عبقرياً، وإنما الطبيعي أن تكون عادياً مثلك مثل بقية البشر. ولذا فما إن يشعر الناس بأنك عبقري، أو تحمل بذرة العبقرية في داخلك، حتى يعترضوا طريقك ويحاولوا الإيقاع بك بشتى الأسباب. فالحسد قاتل أحياناً. وأحياناً يجيء من قبل عباقرة سابقين لا يريدون أن تتفتح أي موهبة بعدهم. وتروي الأسطورة أن أم كلثوم قد ساهمت في القضاء على أسمهان لأنها غارت منها وخافت أن تنافسها بعد أن سمعت صوتها وعرفت أنها عبقرية. وسواء كانت هذه الحكاية صحيحة أم لا فإنها تدل على شي ء ما. وتروي الروايات أن شعراء كباراً حاولوا القضاء على بعض المواهب الجديدة أو الصاعدة لأنهم أحسوا بأنها تشكل خطراً على أمجادهم.. نعم إن العبقري يدخل في الدائرة الحمراء للخطر ما إن يشعر بعضهم بأنه قد يصبح عبقرياً ويحل محلهم.
ولكن هناك خطراً أخر يهدد العبقري كما ألمحنا إلى ذلك أكثر من مرة ألا وهو: الجنون أو التوتر العقلي الشديد أو الهيجان. وقد أثبتت أخر دراسة احصائية أجريت مؤخراً على هذا الموضوع أنه نادراً ما يخلو عبقري ما من إمارات الجنون أو التوتر النفسي الحاد. وقد قام بهذه الدراسة الباحث فيليكس بوست عام 1994، أي أنها حديثة العهد جداً، وشملت 291 شخصية تنتمي إلى عالم السياسة والفلسفة والعلم والفن والموسيقى والشعر والأدب.. وهي شخصيات عبقرية ظهرت في أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين. وتبين بعد إجراء هذه الدراسة أن هؤلاء العباقرة يتميزون بصفات غير طبيعية. فهناك نسبة 50% منهم يتميزون باضطرابات نفسية حادة جداً، بل وتشلهم عن الإبداع في بعض فترات العمر. وترتفع هذه النسبة لدى الفلاسفة فتصل إلى 60%، ولكنها أعلى ما تكون لدى الأدباء، والشعراء خصوصاً حيث تصل إلى 70%. ثم تنخفض لدى الرسامين والموسيقيين ورجال السياسة (حوالي 30% ) ولا نستطيع أن نحصي عدد الشعراء والروائيين الذين أصيبوا بالجنون أو المرض العقلي بشكل جزئي أو كلي، مؤقت أو دائم، ولكن هذا لا يلغي إبداعهم أو عظمتهم و عبقريتهم.
فلا أحد يستطيع أن ينكر عظمة شعر جيرار دونرفال لمجرد أنه جن أو انتحر، ولا أحد يشك بعبقرية دوموباسان لأنه مات في المصح العقلي بعد أن انهارت قواه النفسية. ولا أحد يستطيع أن يقول بأن نيتشه ليس فيلسوفاً كبيراً لمجرد أنه أمضى سنواته العشر الأخيرة في غيبوبة الجنون. ولا يوجد روائي في التاريخ أعظم من ديستويفسكي على الرغم من أنه كان مصاباً بالصرع.. ويرى فرويد أن الابداع هو تعويض عن نقص ما في الشخصية. وأنه لولا هذا النقص لما أصبح المبدع مبدعاً . فالإنسان المتصالح مع نفسه ومع الواقع الخارجي ليس بحاجة لأن يكون عبقرياً وأكبر دليل على ذلك فرويد نفسه الذي كان مصاباً بالعصاب ولم يشف منه إلا بعد أن اكتشف تلك القارة المظلمة والمعتمة والهائلة: أي اللاوعي. فلا ريب في أن الاكتشاف أو الابداع ينقذ العبقري أو يعيد إليه توازنه. يقول الفيلسوف كيركغارد الذي كان معقداً جداً من الناحية النفسية: أن المرض هو السبب الأساسي لكل اندفاعة ابداعية. وبالابداع أشفي نفسي من أوجاعي وهمومي. بالابداع أسترد الصحة والعافية". والواقع أن هذه الكلمات هي للشاعر"هيني" ولكن كيركغارد استشهد بها، وكذلك فرويد. وكان ويلكه يعترف بأنه لم يكتب قصيدة واحدة إلا من خلال العذاب النفسي والقلق.
ومن المعلوم أن العقد النفسية الموروثة عن طفولته كانت تلاحقه كالأخطبوط ولا يستطيع منها فكاكاً إلا عن طريق الابداع. ثم سرعان ما تعود بعد انتهاء عملية الإبداع. وهكذا كان يتوازن باستمرار من خلال اللاتوازن. أو قل كان دائماً يشعر بأنه على شفا حفرة من الانهيار وأنه مهدد بالسقوط في كل لحظة. وكان مضطراً لتأجيل لحظة الجنون الكامل في كل مرة. ومن المعلوم أن رامبو كان يكتب وهو على حافة الجنون، وكان يتقصد الجنون تقصداً. كان مهووساً بتلك النقطة الغائرة في الأعماق والأقاصي، تلك النقطة التي لا يستطيع أن يصل إليها أي شاعر إلا إذا غامر بنفسه واقترب من منطقة الخطر الأعظم. عندئذ كانت تخرج القصائد العبقرية. واعترف سارتر نفسه بأنه لم يتخلص من مرض العصاب الذي كان يلاحقه إلا عن طريق الكتابة. فالكتابة تمتص الجنون الداخلي وتساعد على التخلص منه أو تحجيمه على الأقل. نقول ذلك وبخاصة إذا نجحت وأدت إلى إبداع حقيقي. والواقع انه لا يوجد فنان حقيقي إلا ويعاني من مرض ما. أو مشكلة معينة. الإبرة التي توخز الكاتب وتدفعه دفعاً إلى عملية الإبداع. وبالتالي فلا ينبغي أن يخاف الكاتب إن كان يعاني من عقدة نفسية معينة أو من جرح داخلي حتى لو استغله الآخرون ضده . فربما كان هذا الجرح كنزه الوحيد. وهو على أي حال يشكل مصدر عبقريته وسر إبداعه
الدكتور هاشم صالح / كاتب ومفكر
هناك شعرة رقيقة جداً تفصل بين العبقرية والجنون) مجهول
(مثلما أن المرض يحيط بالصحة من كل الجهات فإن الجنون يحيط بالعقل من كل الجهات) لودفيغ فتجنشتاين...
منذ قديم الأزمان كان الناس يعتقدون بأن هناك علاقة بين العبقرية والجنون. وكانوا دائماً يتحدثون عن العبقري بشيء من التهيب والوجل، فهو شخص غريب الأطوار معقد الشخصية يختلف عن جميع البشر، والواقع أننا إذا ما استعرضنا أسماء كباراً لكتاب وجدنا أن معظمهم إن لم يكن كلهم كانوا يتميزون بتركيبة نفسية خاصة وغير طبيعية بل إن بعضهم دخل في مرحلة الجنون الكامل. نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: هولدرلين ونيتشه، وجيرار دونيرفال، وأنطونين أرتو، وفان كوخ ، ودو موباسان، وفيرجينيا وولف، وشومان، وألتوسير،(1) الخ..
وقد طرح أحدهم على الكاتب الفرنسي أندريه موروا هذا السؤال: هل جميع الروائيين مجانين أو عصابيون؟ فأجاب الكاتب الكبير: لا الأصح أن نقول أنهم كانوا سيصيرون جميعهم عصابيين لولا أنهم أصبحوا روائيين.. فالعصاب يا سيدي، هو الذي يصنع الفنان، والفن هو الذي يشفيه(2). وكان جواباً مقنعاً ورائعاً. فالواقع أنه لولا العصاب لما كرس أشخاص من أمثال بلزاك أو ديستويفسكي أو فلوبير أنفسهم لفن الكتابة. ولولا أنهم نجحوا في هذا الفن وقدموا لنا روايات خالدة لما نجوا هم أنفسهم من مرض العصاب. هذه هي الدائرة المغلقة التي تجمع بين الإبداع والمرض أو بين العبقرية والجنون. ولكن السؤال المطروح هو: لماذا يسقط في ليل الجنون حتى أولئك الذين أبدعوا إبداعاً كبيراً ؟ لماذا لم يحمهم الإبداع أو الإنتاج الإبداعي من الجنون؟ فلا أحد يشك في أن نيتشه من كبار الفلاسفة، ومع ذلك فقد جن بشكل كامل في أواخر حياته وظل مجنوناً لمدة أحد عشر عاماً حتى مات سنة 0 190، ولا أحد يشك في أن هولدرلين هو واحد من أهم الشعراء في العالم، ومع ذلك فقد أمضى نصف عمره تقريباً في بحر الجنون... والواقع أنه تصعب الإجابة عن هذا السؤال، ولكن ربما التقينا به في مرحلة لاحقة، مهما يكن من أمر فإننا نظل متفقين مع أندريه مورو على القول بأن الفن يشفي من العصاب بشكل عام، ولولاه لجن معظم أولئك الكبار الذين سجلت أسماؤهم على صفحات التاريخ، ويكفي أن نستعرض سير حياتهم التي كتبت بعد وفاتهم لكي نتأكد من ذلك، وتكمن عظمتهم بالضبط في أنهم تجاوزوا عصابهم أو عقدتهم النفسية المتأصلة عن طريق الإبداع. فلا ريب في أن الإبداع يحرر من العقد ويعطي الشخصية ثقة بنفسها.
لماذا أتحدث عن هذا الموضوع الآن ؟ ولماذا اخترته للكتابة في هذه الدراسة المطولة، وكان لهذا عدة أسباب:
أولها أنه كان يعتمل في نفسي منذ زمن طويل. وثانيها أنه يمثل نوعاً من" التابو " أو المحرمات فيما يخص الثقافة العربية. فلا أحد من الكتاب العرب يجرؤ على الاعتراف بأنه مصاب بعقدة نفسية معينة أو بعصاب معين.
نقول ذلك على الرغم من أن هذا الأمر أصبح شائعاً ومعترفاً به لدى الكتاب الغربيين ولم يعد يثير أية حساسية، ولذلك فإني سأقصر دراساتي هنا على تاريخ الثقافة الغربية لكيلا أحرج أحداً. وثالثها، وربما أهمها، من أجل تبديد ذلك الوهم الشائع والمخيف الذي يحيط بكلمة عصاب، أو عقدة نفسية، أو جنون. فما دمنا لا نتجرأ على فتح هذا الملف والتحدث عنه، فإنه سيظل محاطاً بالغموض والأسرار والمخاوف. والواقع أن الجنون بالمعنى الذي نقصده، أي الجنون الإبداعي، ليس مخيفاً إلى مثل هذا الحد بل ربما كان محبباً وقريباً إلى النفس. وهو على أي حال لا يؤذي أحداً، اللهم إلا صاحبه... وكان يمكن أن استخدم محله كلمة التوتر الداخلي أو المعاناة أو الاضطراب النفسي الذي يدفع إلى الإبداع أو الذي يترافق مع الإبداع . فالشخص المتوازن كلياً، أي التافه والغبي لا يمكنه أن يشعر بأي حاجة للإبداع..
من أجل الاستئناس بهذا الموضوع يستحسن بنا أن نعود إلى الماضي لكتابة مقدمته التاريخية. يبدو أن أفلاطون كان أول من انتبه إلى هذه النقطة عندما قال بأن العباقرة يغضبون بسهولة ويخرجون عن طورهم. إنهم يعيشون وكأنهم خارج الزمن والوجود، وذلك على عكس الناس العاديين. ولكن أرسطو تلميذ أفلاطون ، هو الذي نظر لهذه العلاقة بشكل فلسفي محكم. وقد طرح هذا السؤال: لماذا يبدو جميع الرجال الاستثنائيين من فلاسفة وعلماء وشعراء وفنانين أشخاصاً سوداويين؟ نلاحظ أن أرسطو يستخدم كلمة الرجل الاستثنائي بدل العبقري، والسوداوي بدل المجنون. والواقع انه أقرب بذلك إلى تصورنا الحديث. فنحن لم نعد نقبل بكلمة العبقري أو العبقرية بسهولة، وإنما نفضل عليه تعبيراً أقل ضخامة أو أسطورية. ولم نعد نستخدم كلمة الجنون المرعبة وإنما كلمات حديثة أخرى من اختراع الطب النفسي كالاضطراب الذي يصيب المزاج ويجعله حساساً جداً أو متحفزاً جداً. ويقول أرسطو بأن السويداء تبتديء بميل الإنسان إلى الوحدة والعزلة والتأمل ثم تنتهي أحيانا بالصرع أو الجنون أو حتى الانتحار. ولكنها لدى المبدعين الكبار تتوقف عموماً عند حد معين لأن الإبداع يلجمها أو يوقفها عند حدها. ثم جاءت الثقافة الرومانية - اللاتينية بعد أرسطو واليونان وأخذت منه هذه الفكرة. ولذلك شاع المثل الذي يقول: لا يوجد شخص عظيم بدون حبة جنون ! وإذا ما انتقلنا بعدئذ إلى القرن الثامن عشر، أي إلى عصر التنوير، وجدنا أن ديادرو هو الذي بلور هذه الفكرة الشائعة التي تربط بين العبقرية والجنون. يقول هذا الفيلسوف الفرنسي:" آه : ما أكبر العلاقة بين العبقري والمجنون. فكلاهما يتميز بميزات خارقة للعادة إما باتجاه الخير وإما باتجاه الشر. فالمجنون يسجن في المصح العقلي والعبقري نرفع له التماثيل !..(3) ثم جاء القرن التاسع عشر وتأسس علم الطب النفسي لأول مرة على أسس حديثة. وأكد على وجود هذه العلاقة الوثيقة بين العبقرية والجنون. فالشخص العبقري لا يمكن أن يكون طبيعياً على طريقة الناس العاديين. يقول عالم الطب النفسي الكبير ايسكوريل بأن الشخصيات الكبرى في التاريخ هي شخصيات"مرضية" ويضرب على ذلك مثلاً لوثي وباسكال، وجان جاك روسو، الخ... وقد استعاد هذه الفكرة بعده طبيب نفسي أقل شهرة هو " لولوت " الذي كتب السيرة الذاتية المرضية لشخصيتين كبيرتين هما: سقراط وباسكال وكان عنوان الأولى: " شيطان سقراط " والثانية " تعويذة باسكال " فالعبقري في رأيه شخص ممسوس أو مسكون من الداخل من قبل شيطان العبقرية. وقد عرفت العرب هذه الفكرة في الماضي عندما تحدثوا عن "وادي عبقر "، والإلهام وشيطان الشعر... وقد أراد هذا الطبيب النفساني أن يستخدم حالة سقراط وحالة باسكال من أجل كتابة تاريخ الهلوسات . فالشخصيات الاستثنائية مهووسة بشي ء ما لاتدري حتى هي ، كنهها بالضبط. وهذا هو سر عبقريتها. وفي عام 1859 كتب "مورو دوتور" وهو طبيب نفساني دراسة تحليلية لشخصية الشاعر جيرار دونرفال الذي كان قد انتحر قبل وقت قريب. وأثبت فيها أنه كان مصاباً بتهيج هوسي دوري، هو السبب في إبداعه. فحالة الإبداع هي حالة هوسية يبلغ فيها التهيج حده الأقصى. ولو أن الشعراء والكتاب العرب تحدثوا لنا عن حالتهم النفسية أثناء عملية الإبداع لقدموا لنا إضاءات مهمة عن العلاقة بين التوتر والإبداع. ولكنهم لا يتجرؤون على ذلك خشية أن ينعتوا بالجنون !..
نقول ذلك على الرغم من أن بعضهم قد انتحر بسبب هذه المعاناة المتوترة جداً، ونضرب عليهم مثلاً الشاعر الكبير خليل حاوي. لكن الشعراء والمفكرين الأوروبيين لم يعودوا يخشون من ذلك بعد أن أزال التحليل النفسي تلك الهالة المرعبة التي كانت تحيط بالجنون والأمراض النفسية والعقد. بل إن بعضهم يفتخر بها للدلالة على مدى إبداعه وعبقريته ثم من أجل التمايز والخصوصية. والواقع أن مفكري أوروبا وشعراءها وفنانيها قد دفعوا ثمن تشكل الحداثة باهظاً. فمن نيتشه إلى بودلير إلى رامبو إلى هولدرلين إلى أنطونين أرتو إلى ميشيل فوكو إلى لويس ألتوسير إلى إدغار ألان بو إلى فيرجينيا وولف إلى كافكا إلى لوتريامون، نجد أن القائمة طويلة من أولئك الذين جنوا أو عانوا أو انتحروا.. نعم إن هناك علاقة بين التوتر النفسي والإبداع، ولكن ليس كل عبقري مجنوناً ، وليس كل مجنون عبقرياً ، فالعلاقة بينهما أكثر تعقيداً مما نظن. وهذا ما سنتعرض له تفصيلا فيما يلي:
يقول بعضهم بأن هناك نوعين من العبقريات. فهناك العبقرية الصاعقة، أي التي تنفجر انفجاراً عفوياً كالشلالات والينابيع، أو حتى كالزلازل والبراكين (وهذه هي حالة رامبو مثلاً أو هولدرلين أو خصوصاً نيتشه ). وهناك العبقرية الهادئة، المتدرجة التي تصنع نفسها عن طريق الصبر والمثابرة والعمل المتواصل (وهذه هي حالة فلوبير ). ولكن العبقري في جميع حالاته يكون عادة كائناً لا اجتماعياً، يميل إلى العزلة والوحدة والهامشية. لنضرب على ذلك مثلا محسوساً حالة الشاعر الفرنسي الكبير: آرثر رامبو. يقول بول كلوديل عنه: كان رامبو صوفياً في الحالة المتوحشة، أي في الحالة القسوى. كان نبعاً ضائعاً يتفجر من أرض ريانة. وأما جان كوكتو فيقول عنه هذه الكلمات الصائبة: لقد سرق رامبو جواهره من مكان ما. ولكن من أين؟ لا أحد يعرف. هذا هو السر (بالطبع فإنه يقصد بجواهره قصائده ). لقد تحول رامبو إلى أسطورة تستعصي على التفسير. فلم يعرف التاريخ عبقرية مبكرة مثل عبقريته إنه كالشهاب الذي ما إن اشتعل حتى احترق ! من المعلوم أن أشعاره كلها كتبت خلال أربع سنوات: أي من سن السادسة عشرة إلى سن التاسعة عشرة !.. هل يعقل أن يولد عبقري في مثل هذه السن المبكرة؟ ولذا رأى بعضهم أن القدرة الإلهية هي التي ألهمته وفجرت في جوانحه العبقرية الشعرية التي تتجاوز كل عبقرية في اللغة الفرنسية، إذا ما استثنينا بودلير. راح رامبو يمثل في تاريخ الشعر الفرنسي الطهارة البكر، أو البراءة الأصلية التي لا تشوبها شائبة. لقد اخترق رامبو سماء الشعر الأوروبي كالنيزك المارق: أي بسرعة البرق.
ثم هجر بيته وقريته وشعره، بل وتنكر حتى لشعره وراح يعيش حياة مغامرته المعروفة، في بلاد العرب في عدن واليمن. هذه هي العبقرية المتوحشة أو المتفجرة : بداية مبكرة إبداع خاطف، نهاية قبل الأوان. أما الروائي مارسيل بروست صاحب "بحثاً عن الزمن الضائع " فكان يرى أن العبقرية تجيء بشكل مفاجىء، أي في اللحظة التي لا نتوقعها. إنها تنفجر كالإشراق المباغت، أو كالإلهام الصاعق. وعندما يقول ذلك فإنه يعرف عما يتحدث لأنه شهد تلك اللحظة وعاشرها مثل بقية المبدعين الكبار. أما الشاعر سان جون بيرس فيصف تلك اللحظة بأنها "الصاعقة العذراء للعبقرية"، ويعترف كبار الكتاب بأنهم ليسوا هم الذين يكتبون أفكارهم، وإنما أفكارهم هي التي تكتب نفسها من تلقاء ذاتها، أو من خلالهم. وأتذكر بهذه المناسبة الحكاية التالية التي حصلت لي في جامعة دمشق. كنا في عام 1974- 1975 طلاباً في قسم الدراسات الأدبية العليا. وكان الناقد إحسان عباس يأتينا من بيروت مرة أو مرتين في الشهر لكي يلقي علينا دروساً نقدية حول الشعر الحديث. ولكن قبل التوصل إليه راح يتحدث عن الشعر الكلاسيكي السابق له، شعر بدوي الجبل وجيله.
وقال لنا بأنه سمع مرة بدوي الجبل يقول بأنه ليس هو الذي يكتب أشعاره ، وإنما هي التي تكتب نفسها بنفسها، فهي تجيئه وهو ماش أو نائم أو صاح وتنزل عليه كالإلهام. ويجد نفسه عندئذ وهو "يدندن" بها كما هو على غير علم منه. وما عليه عندئذ إلا أن يسجلها بسرعة على الورق قبل أن تتبخر وتضيع.. وأتذكر أن إحسان عباس قد أبدى بعض الشكوك فيما يخص هذه النقطة واعتبرها أحدى مبالغات الشعراء. ولكني الآن، وبعد مرور أكثر من عشرين سنة على هذه الحكاية، أميل إلى تصديق بدوي الجبل أكثر من ذي قبل، دون أن يعني ذلك إنكار دور الصنعة والجهد في إنتاج القصيدة.
فالمبدعون الكبار ينفجرون بالإبداع انفجاراً . ربما كان مايبدعونه يعتمل في داخلهم ويختمر لفترة طويلة، ثم تجيء فجأة لحظة الحسم التي لا يختاروها هم ، وإنما تختار هي نفسها بنفسها رغماً عنهم. مهما يكن من أمر فإن انفجار اللحظة الإبداعية قد يجيء بعد مرور الكاتب بأزمة، أو مباشرة بعد الصحو والخروج من الحلم : أي في حالات التنويم المغناطيسي تقريباً، والهلوسة، أو أحلام اليقظة.
ولكن هذه الحالات الإبداعية نادرة، ولذلك يحاول بعض الكتاب إثارتها في أنفسهم عن طريق تناول المخدرات أو شرب الكحول.. نضرب عليهم مثلاً نيتشه أو بودلير أو سارتر في عصونا الحاضر. فقد عرف عنهم تناول هذه"المنبهات" من أجل إيقاظ وعيهم الإبداعي وتحريكه. ولكن العملية خطرة وقد تؤدي إلى نتائج مزعجة. ولذلك يمكن القول بأن أفضل اللحظات الإبداعية هي تلك التي تجيء بشكل طبيعي لا مصطنع. وهي لحظات قصيرة وخارقة، ولكن تأثيرها يتجاوز الدهور، يكفي أن نفكر هنا ببعض هذه اللحظات الاستثنائية التي غيرت وجه التاريخ: ليلة 10 نوفمبر 1619، حيث نزل الإلهام على ديكارت وتوصل إلى الحقيقة. ثم يوم 13مايو 1797، أي قبل ما يزيد على 200 سنة حيث نزل الإلهام على الشاعر الألماني الكبير نوفاليس. ثم صيف 1831 حيث يشهد جوته فترة الهام مكثفة.. ولكن انفجار هذه اللحظات العبقرية في وعي أصحابها لا يمر عادة بسلام. وإنما يدفع ثمنه غالياً أحياناً . صحيح أنه يحرر الشخصية من عقدها وأوجاعها، صحيح أنه يحلق بها في الأعالي، أو أعلى الأعالي ولكنه يسقط إلى الحضيض بعدئذ. ثم تظل دائماً متأثرة به، حتى لكأنها تئن تحت وطأته. فليس كل الناس يستطيعون تحمل الإلهام، خصوصاً إذا ما كان منفجراً كالحمم من أفواه البراكين، وخصوصاً إذا ما نزل كالصاعقة. ولكن عدد الأشخاص الذين يشهدون مثل هذه اللحظات الاستثنائية قليل في التاريخ. لنتوقف هنا قليلا عند لحظة ديكارت من أجل تشريحها من الداخل ومحاولة فهم أبعادها. من المعروف أن الفيلسوف الفرنسي كان في بداية شبابه شخصاً ضائعاً لا يعرف ماذا يفعل بحياته. كان مغامراً يذهب من بلد أوروبي إلى آخر لكي يطلع على"كتاب العالم" كما يحب أن يقول: أي لكي يقرأ العالم ويطلع عليه كما تقلب صفحات كتاب، وقد انخرط في جيش أحد الأمراء في هولندا. وعندما اختلى بنفسه في غرفته في المعسكر جاءته الأحلام الثلاثة المرعبة التي هزته هزاً وكادت تودي به (4). ولكن العناية الإلهية شاءت أن تكون هداية له نحو الحقيقة التي يبحث عنها دون علم منه. لقد كانت ليلة ميلاد تلك التي عاشها ديكارت في العاشر من نوفمبر، ولولا حلم الله وعفوه لقضت عليه. وهكذا ولدت فلسفة ديكارت بعد مخاض شديد البأس. ونتجت عن تلك الليلة المنهجية العقلانية التي حكمت كل أوروبا طيلة ثلاثة قرون (أي حتى اليوم بشكل من الأشكال. أنظر المنهجية الديكارتية. أو العقلانية الديكارتية ).
وأما نوفاليس فقصته مختلفة. فقد شهد لحظة الإلهام الشعري في 13 مايو 1797، وشعر بفرح لا يوصف وحماسة خاطفة دامت عدة ثوان فقط. ولكنها أضاءته من الداخل بشكل لم يسبق له مثيل. وابتدأ عندئذ يكتب أشعاره الخالدة. هكذا نجد أن الإلهام جاء بعد لحظة غير طبيعية، لحظة تفوق كل اللحظات. ومن يعشها أو يذق طعمها لا يعود ينساها. والواقع أن هذه اللحظة جاءت بعد فاجعة حقيقية أصابته. فقد ماتت خطيبته وحبيبة عمره "صوفي" بمرض السل وعمرها لا يتجاوز الخمسة عشر ربيعاً. ثم مات أخوه بعدها مباشرة. وقد اعتملت الأشياء في داخله واختلجت وتفاعلت حتى انفجرت أخيراً في لحظة إلهام مدوية . يقول نوفاليس في تفجعه على حبيبته التي ماتت في عمر الزهور"رحت أنحني" وأبدد القبر وتراب القبر في نفسي. وأصبحت السنين ثواني وشعرت بحضورها، كدت ألمسها، شعرت بأن القبر سوف ينشق عنها فتخرج منه حية معافاة كما كانت، كما كنت أعرفها.."(5)، وقد كتب كل أعماله الشعرية في الأعوام الثلاثة التي تلت تلك اللحظة لحظة انفجار الإلهام والعبقرية في داخله. وما لبث أن مات هو أيضاً بمرض السل عام 1801 وعمره لا يتجاوز الثلاثين عاماً.
وأما عن جوته فحدث ولا حرج. فهذا الرجل الذي يعتبر مفخرة ألمانيا كلها لم يعش قرير العين. ولم يخل من الأزمات والهزات النفسية المؤلمة على عكس ما نتوهم. هو أيضا دفع ثمن إبداعه، أو ثمن عبقريته، باهظاً. وقد واتته الجرأة لكي يعترف في بعض اللحظات بأنه مريض نفسياً ، وبأنه يعاني معاناة هائلة لا يعرف كنهها ولا سببها. ولذلك استنتج أن هناك علاقة بين العبقرية وبين المرض النفسي أو العقد النفسية التي تصيب الشخصية. وربما لولا هذه العقد ومحاولة التغلب عليها لما كان الإبداع. فالشخصية المريضة لا تستطيع أن تتوازن إلا من خلال الإبداع. فالتناقض بين المبدع والعالم يكون حادا جداً إلى درجة أنه ينكد عيش الفنان ولا يدعه يستمتع بالحياة إلا في لحظات قليلة. ولذا يمكن أن نقول في ختام هذه الدراسة ينبغي ألا نحسد العباقرة كثيراً على شهرتهم، ففي بعض اللحظات يتمنون لو أنهم لم يولدوا.
تحدثنا عن العبقريات السريعة التي تلمع فجأة ثم تنطفىء كعبقرية رامبو مثلاً. لكن هناك عبقريات من نوع آخر، عبقريات بطيئة تتطلب وقتاً طويلاً وصبراً قبل أن تنضج وتتفتح. والواقع أن معظم العباقرة يتميزون بهذه الخاصية: الرغبة الكبيرة في الصبر والمثابرة عل نفس الخط لفترة طويلة من الزمن. إنهم لا ييأسون بسهولة ولا يتراجعون عن الهدف الذي وضعوه نصب أعينهم. يقول ألفريد دوموسيه بهذا الصدد ما يلي: لا توجد عبقرية حقيقية بدون صبر. وبالتالي فإن العبقرية لاتتشكل بين عشية وضحاها، وإنما هي خاتمة لمسار طويل عريض.
ويرى بودلير أن الإلهام لا ينزل علينا فجأة من السماء وإنما هو بالأحرى نتيجة للتدريب اليومي المستمر والمتواصل والدؤوب. نقول ذلك ونحن نعلم مدى القلق الذي يشعر به الكاتب أمام الصفحة البيضاء فهو لايستطيع أن يملأها إلا بشق الأنفس، وأحياناً لا يستطيع أن يكتب جملة واحدة. وقد عرف أحد الكتاب الانجليز العبقرية قائلاً بأنها نتيجة التعب والجهد بنسبة 99% ونتيجة الإلهام بنسبة 1% فقط ! وهذا دليل على أن الجهد هو الأساس، وأما ما تبقى فيجيء بعد بذل الجهد لا قبله. مهما يكن من أمر يبدو أن العناد هو أحدى الصفات الأساسية التي يتميز بها العباقرة. فالناس العاديون سرعان ما يملون بعد فترة من الزمن إذا لم يصلوا إلى نتيجة. وأما العباقرة فيظلون مصرين على نفس الخط رغم كل الخيبات والعقبات حتى يصلوا إلى نتيجة في نهاية المطاف.
وطالما تحدث الناس عن أسطورة بلزاك وقدرته الرهيبة على العمل خصوصاً ليلاً. فقد كان يغلق النوافذ عليه بدءاً من الساعة العاشرة مساء ثم يحضر "طنجرة" كاملة من القهوة ويبتديء الكتابة حتى الصباح دون توقف.
وهكذا كان يشتغل خمس عشرة ساعة يومياً، بعد أن يبتلع عشرات الفناجين من القهوة. ولولا ذلك لما استطاع كتابة كل هذا الإنتاج الضخم المتمثل بالكوميديا البشرية، وهو لم يعش أكثر من خمسين عاماً ! نعم إن العبقرية بحاجة إلى جهد جهيد، ولا تنزل علينا كهدية من السماء. يقول بلزاك في إحدى رسائله إلى حبيبة عمره مدام فانسكا: إن حياتي تتلخص بخمس عشرة ساعة من العمل، وبالمحن والعذاب، وهموم المؤلف، وصقل العبارات وتصحيحها(6).
ولكن هذا التدريب اليومي المستمر والدؤوب لا يفسر لنا وحده سبب العبقرية. فهناك دارسون أكاديميون يشتغلون ساعات وساعات يومياً دون أن يتوصلوا إلى أكثر من مرتبة دارس جيد أو جامع مفيد للمعلومات، وإذاً فهناك سبب آخر للعبقرية غير الجهد والتعب: إنه الموهبة أو شرارة الإبداع.
فهناك كتاب يمتلكونها، وآخرون لا يمتلكونها. ولذلك نسمعهم يقولون: هذا الكاتب موهوب،وهذا الكاتب عنده شيء، الخ... إذاً فالعبقرية هي نتاج الموهبة والجهد في آن معاً، وقد لا يكون حظ الموهبة فقط 1% كما قال الكاتب الانجليزي، وإنما 50% .
إن فلوبير يجسد في مجال الأدب، المثال الأعلى للمثابرة والمواظبة وبذل الجهد والتعب،. وكان يجلس وراء طاولته من عشر إلى اثنتي عشرة ساعة يومياً لكي يستطيع أن يكتب رواية واحدد كل أربع أو خمس سنوات. ولذلك لم يكتب كثيراً: خمس أو ست روايات طيلة حياته كلها ما عدا "مدام بوفاري" رائعته الخالدة. إنه يشبه المقلين في الشعر العربي القديم الذين اشتهروا بقصيدة واحدة أو عدة قصائد فقط. إنه يشبه عبيد الشعر الذين لا ينفكون يصقلونه ويعيدون النظر فيه أياما وشهوراً وربما سنوات. وطالما تحدث فلوبير عن عذاب الكتابة وكيف أنه يفني الساعات الطويلة. وأحياناً بضعة أيام، لكي يجد الجملة المناسبة أو حتى الكلمة المناسبة. وكم يلعن نفسه أثناء ذلك ويلعن الكتابة والأدب وكل شيء... وأذكر أني عندما زرت بيته الواقع في ضواحي مدينة"روان" على شواطىء نهر السين قبل بضع سنوات فوجئت بمدى التشطيب الذي كان يمارسه على كل صفحة يكتبها. فلا تكاد تقرأ فيها شيئاً واضحاً من كثرة الحذف والتشطيب والإضافة والتصحيح أو التعديل، الخ.. وقد تحول منزله إلى متحف يزوره الزائر متى يشاء كي يستمتع بالجو الذي كان يعيشه صاحب"مدام بوفاري" في القرن التاسع عشر. وعندئذ تستطيع أن تملأ عينيك بجمال الغابة المحيطة أو أن تراقب من النافذة مرور المراكب والسفن كما كان يراقبها فلوبير نفسه قبل قرن وهو جالس وراء مكتبه يسطر"مدام بوفاري"..
نعم إن فلوبير لم يكتب أكثر من خمس أو ست روايات في حين أن كتابنا العباقرة يتحفوننا كل عام أو حتى كل شهر برواية أو ديوان شعري أو كتاب فكري، الخ.. لماذا كل هذا الاستعجال يا أخوان؟ لماذا تحرقون الطبخة قبل أن تنضج؟ فلوبير كان حريصا على ألا يصدر شيئاً قبل أن يستنفد طاقته كلها فيه. يقول في إحدى رسائله إلى عشيقته لويز كوليه:"لقد داخت رأسي وجف حلقي من كثرة ما بحثت عن جملة واحدة. لقد قلبتها على عشرات الوجود ونجرتها وحفرتها، ثم ندبت وشتمت حتى توصلت أخيراً اليها... إنها رائعة، أعترف بذلك. ولكنها لم تولد دون مخاض وعذاب".
هناك خاصية أخرى يتميز بها العباقرة هي: حب الوحدة والعزلة والاستقلالية الشخصية. يكتب أحدهم: لقد قالوا عن العبقري بأنه يشبه المجنون. بمعنى أنه يولد ويموت وحيداً. انه شخص بارد، فاقد الحساسية لا علاقة له بالعواطف العائلية والتقاليد الاجتماعية. ولكن هذه مبالغة بالطبع. والواقع أن العباقرة يحبون العزلة من أجل التفرغ لإبداعهم وإنتاجهم، فلا تستطيع أن تبدع وأنت في زحمة الشارع أو في وسط البشر، ومن المعروف أن العلاقات العامة والاستقبالات والحفلات تأخذ وقتاً كثيراً ولا تسمح للمفكر بأن يتفرغ لنفسه وأفكاره وتأملاته. ولذلك اشتهر المفكرون بحب الوحدة والحرص عليها.
نضرب عليهم مثلاً شهيراً ديكارت الذي غادر بلاده فرنسا هرباً من المتطفلين والثرثارين الذين كانوا يلاحقونه باستمرار. وكان يشعر بسعادة كبيرة إذ يسكن في حي لا أحد يعرفه فيه، ويمشي في الشارع ولا أحد ينتبه إليه. فالشهرة أيضاً مزعجة وينبغي أن يحمي الإنسان نفسه منها. إن العبقري يتميز بالهامشية والعصيان وعدم الخضوع للتقاليد والأعراف السائدة مثله في ذلك مثل المجنون، ولكن الفرق الوحيد بينه وبين المجنون هو أنه لا ينتهكها بشكل مجاني أو مبتذل أو غير واع. يضاف إلى ذلك أن للعباقرة عاداتهم التي يلتزمون بها وتصبح جزءاً لا يتجزأ منهم.
قلنا سابقاً بأن بلزاك كان يسهر في الليل وينام في النهار. وهكذا كتب معظم مؤلفاته إن لم يكن كلها. وهذه الطريقة في الحياة تعتبر جنوناً بالنسبة للإنسان العادي. فالطبيعي أن تفعل العكس أي أن تنام في الليل وتشتغل في النهار. ولكن العبقري ليس إنساناً طبيعياً . إنه مهووس بمشروعه إلى درجة المرض ومستعد لأن يضحي بكل شيء من أجله. وقد لاحظنا من خلال قراءة سير العباقرة أن معظمهم لا ينجبون الأطفال ولا يكرسون وقتهم لتربية عائلة. فمؤلفاتهم هي أطفالهم، وهم حريصون عليها مثل حرص الرجل العادي على طفله. فديكارت لم يتزوج، وكذلك الأمر بالنسبة لكانط، وسبينوزا، ونيتشه، وسارتر، وميشيل فوكو،الخ.. بالطبع فهناك استثناءات (هيجل مثلاً ). ولكن عموماً فإن العبقري يكرس حياته لشيء واحد فقط: هو إنتاجه وإبداعه.
يضاف إلى ذلك أن عادات العباقرة عجيبة وغريبة وتختلف عن عادات البشر. فمثلاً ينسون أحياناً أن يأكلوا ويشربوا في فترات الابداع، وينسحبوا من الحياة اليومية كلياً لكي يضعوا إنتاجهم مثلما تنسحب المرأة الحامل لكي تضع طفلها. وهكذا عاش مارسيل بروست ومات عام 1922 ضمن ظروف بائسة في غرفة حقيرة لا تحتوي إلا على سرير وكرسي وثلاث طاولات ! وأما " فرانز كافكا " فكان أكثر شذوذاً وغرابة أطوار. كان يفرض على نفسه عادات صحية عجيبة خوفاً من المرض. وكان هوسه اليومي هذا على علاقة بهوسه الابداعي. كان يفرض على نفسه مثلاً الاستحمام بالماء البارد جداً والمثلج، ويمتنع عن تناول الكثير من الأطعمة اللذيذة ويعاقب جسده معاقبة صارمة. وكل ذلك بسبب العصاب الهوسي الذي يلاحقه والذي أدى إلى تفتح عبقريته على الرغم من كل شي ء. وهنا نلمس لمس اليد نقطة التواصل بين العصاب النفسي، وبين العبقرية. يضاف إلى ذلك أن العباقرة متطرفون في عاداتهم على عكس الناس العاديين أو المتوازنين. فمثلاً كان فولتير يشرب خمسين فنجان قهوة في اليوم ! وقل الأمر ذاته عن فلوبير وبلزاك. وذلك لأن القهوة تنبه الأعصاب وتجعلها متحفزة للابداع. وأما بودلير فقد تجاوزها إلى ما هو أخطر: شرب الكحول بشكل مسرف وتعاطي المخدرات. وقد دفعت صحتهم ثمن ذلك غالياً... ولكن في سبيل الابداع كل شيء رخيص.
والآن ماذا عن القلق؟ في الواقع أن العباقرة شخصيات قلقة حساسة إلى درجة المرض والتطرف الأقصى. ولو سمعنا كل حكاياتهم وقصصهم العجيبة الغريبة لحمدنا الله على أننا لسنا عباقرة ! لنضرب على ذلك مثلاً شوبنهاور. فقد كان مصابا بجنون العظمة وعقدة الاضطهاد في آن معاً. وكان يعتقد بأنه ملاحق باستمرار دون أن يلاحقه أحد.. ولم يكن أحد يستطيع أن ينزع من رأسه تلك الفكرة التي تقول بأن هناك مؤامرة كونية تحاك ضده من أجل خنق عبقريته أو القضاء على إبداعه الفلسفي. ألا يقترب ذلك من الجنون؟ أين تقع الحدود الفاصلة بين العقل والجنون؟ فمنذ عام ( 1814) أي عندما كان في السادسة والعشرين من عمره راح يقارن نفسه بالمسيح ويعتبر أنه مبعوث لهداية البشر على طريق الحقيقة. يقول:"يحصل لي ما حصل ليسوع الناصري عندما أيقظ حوارييه أو أتباعه النائمين. أنا رجل الحقيقة الوحيد في هذا العالم". ولكن جنون العظمة هذا تحول فيما بعد إلى عكسه، أي إلى عقدة الاضطهاد ثم أصبح مسكوناً بهاجس القلق الأقصى والمرعب إلى درجة أنه كان يرفض أن يسكن في الطابق الثاني أو الثالث من البناية خشية أن يحصل حريق فيها فلا يستطيع القفز أو الهرب قبل فوات الأوان ! فكان يحمل مسدساً معه باستمرار ويضع يده عليه مستنفراً ما إن يسمع ضجة خفيفة أو هبة ريح في الخارج باعتبار أن هناك دائماً أشخاصاً قادمين لاغتياله.. يضاف إلى ذلك أنه كان يكتب أفكاره للوهلة الأولى باللغات الإغريقية واللاتينية بل وحتى السنسكريتية ويخبئها بين صفحات كتبه كي لا يقع عليها أحدهم ويسرقها منه ! فقد كان يعتقد كما قلنا أنهم سيسرقونها منه وينسبونها إلى أنفسهم. وكان يحقد على معاصره هيجل حقداً شديداً لأنه نجح ولمع، في حين أنه هو بقي مجهولاً طيلة حياته كلها تقريباً. وكل هذا لم يمنع من أن يكون أحد كبار فلاسفة العصور الحديثة.
وإذاً ينبغي أن ننزع من أذهاننا تلك الصورة المثالية والأسطورية عن العبقري. فهو رجل عادي، بل وأقل من عادي في بعض تصرفاته إنه تافه جداً أحياناً. وربما كان هدف العبقري الدائم هو أن يصبح رجلاً عادياً كبقية البشر. ولكن بما أنه لايستطيع التوصل إلى ذلك فإنه يلجأ إلى الخلق والإبداع من أجل الحفاظ على توازنه. فإذا ما نجح في ذلك قال الناس عنه بأنا عبقري، وإذا ما فشل قالوا إنه مجنون. وهنا يكمن الفرق بين العبقرية والجنون.
لنتحدث الآن عن جان جاك روسو الذي يعتبر في الغرب نبي العصور الحديثة. أليس هو القائل: لو أردت أن أكون نبياً من كان سيمنعني؟! فقد كان مصابا بعقدة الاضطهاد أيضاً. وكان يعتقد أن هناك مؤامرة جهنمية تحاك ضده في كل مكان، وخصوصاً في الفترة الثانية من حياته. وكان يشك حتى بأصدقائه من أمثال ديادرو وهيوم وفولتير.. بل ويقال بأنه غير سكنه أكثر من مرة خوفاً من ملاحقة وهمية. وعندما سمع أحد الجيران بأن روسو هو الذي يسكن في الغرفة المجاورة له لم يكن يصدق. وقال: سأتعرف الآن على أكبر شخص في العالم ولكن روسو صده مباشرة متوهماً بأنه جاسوس ! فانكسر الرجل وحزن حزناً شديداً لأنه كان فقط يريد السلام عليه.. بالطبع فإن روسو لم يكن فقط ذلك، وإنما كان أيضاً إنساناً رحيماً شفوقاً يمتلئ بالعاطفة والحنان والمحبة للجنس البشري كله. ولكنه كان معقداً نفسياً لأسباب خاصة بحياته والمصاعب التي لاقاها والحسد الكبير الذي أثاره حوله بسبب عبقريته وشهرته الأسطورية. فالشهرة ليست خيراً كلها، وإنما تسبب متاعب كبيرة، بل ومخاطر جسيمة لأصحابها، وويل لمن يشتهر بدون إذن الناس ! لكأنه يسرق منهم شيئاً أو يعتدي عليهم.. ولكن قلق العباقرة يمكن أن يصل أحياناً إلى درجة الانهيار الكامل: أي الجنون الحقيقي. وهذا ما حصل للموسيقار روبيرت شومان الذي قال لأصدقائه عام 1854: " أريد أن أدخل المصح المقلي. لقد انتهيت. أنا لم أعد مسؤولاً عن تصرفاتي أرجوكم اسجنوني...".
وأما الشاعر جيرار دونرفال فقال لهم: " أخشى أن يضعوني في بيت العقلاء (أي في المصح العقلي ) والناس في الخارج كلهم مجانين !..." وأما أندريه بريتون الذي لم يكن مجنوناً إلا على الطريقة السوريالية فقد احتج على سجن العباقرة في المصحات العقلية وقال: إن كل هذا السجن تعسفي. لا أفهم كيف يحرمون شخصاً ما من حريته. لقد سجنوا ساد وسجنوا نيتشه، وسجنوا بودلير.." وكان يمكن أن يضيف: كونراد، وموباسان، وهولدرلين، وهمنجواي، وفان كوخ، وألتوسير وغيرهم.. هذا القلق النفسي الرهيب الذي كان يعاني منه معظم الكتاب يتجلى أيضاً لدى بيير كامو. فقد صرح لأحد أصدقائه المقربين أكثر من مرة بأنه يشعر بأن الخواء الداخلي يكتسحه كلياً، وأنه ملي ء باليأس القاتل ولا يستبعد أن يلجأ للانتحار لحمل لمشكلته.. والواقع أنه مات في حادث سيارة على طريق " ليون - باريس"، فهل كان ذلك انتحاراً واعيا أم لا؟ على أي حال لقد أنقذه الحادث من الانتحار. ونلاحظ أن الإحباط واليأس الكامل يتجليان في كتابه المعروف " أسطورة سيزيف ". وهو كتاب جميل ويستحق أن يقرأ من أجل تبيان فراغ الحداثة وهشاشة الوجود. ( لا أعرف فيما إذا كان قد ترجم إلى العربية أم لا ).
لنتحدث الآن عن بودلير .. فقد مات أبوه وهو صغير. وكان متعلقاً بأمه إلى درجة المرض. ولكن الكارثة حصلت عندما تزوجت أمه من الجنرال "أوبيك" بعد فترة قصيرة فقط من موت والده وهذا ما سبب له حزناً عميقاً لم يقم منه طيلة حياته كلها. فقد اعتبر أنهم سرقوا أمه منه، وأنها خانته، ولم يعد يستطيع أن يتخيل أنها مع رجل آخر… يا للخيانة ! ويا للغدر! في الواقع أن بودلير كان يعاني من عقدة أوديب التي اكتشفها فرويد، وبلورها لأول مرة. وقد فكر بالانتحار أكثر من مرة، بل وقام بمحاولة انتحار فاشلة عندما ضرب صدره بالسيف. يقول لأحدهم معبراً عن يأسه الداخلي وتقززه من الحياة : أسوف أقتل نفسي غير آسف عل الحياة . سوف انتحر لأني لم أعد قادراً على الحياة. لقد تعبت من النوم والاستيقاظ كل يوم. يا لها من عادة مملة رتيبة. أريد أن أنام مرة واحدة وإلى الأبد. سوف أنتحر لأني أصبحت عالة على الآخرين، لأني أشكل خطراً حتى على نفسي . سوف أنتحر لأني أعتقد بأني خالد ومليء باللا أمل"(9).
الواقع أن الاكتئاب شائع كثيراً لدى كبار المبدعين. نضرب على ذلك مثلاً بيتهوفن. فهو أحد كبار الموسيقيين على مر العصور. ولكنه لم يعش حياة مريحة أو هنيئة كلنا يعرف أنه كان أطرشاً لا يسمع. وقد سبب له ذلك عقدة نفسية حقيقية. وربما كانت هي الدافع إلى تفجر عبقريته. فالعبقرية تجيء كتعويض عن نقص ما أو خلل ما كما يقول التحليل النفسي. كان بيتهوفن بحسب ما يروي لنا معاصروه يتميز بالسوداوية والحزن العميق الذي لا شفاء منه. وحتى عندما كان يضحك فإن ضحكته كانت بشعة. عنيفة، ناشزة غير طبيعية. كانت ضحكة رجل لم يتعود على الفرح أبداً في حياته. وعندما كانت تجيئه لحظة الإلهام، فإنه كان يخرج عن طوره ويصبح وكأنه أصيب بمس من جنون يصبح غائباً، سارحاً، شارداً والناس يضجون من حوله، ولكنه لا يعبأ بهم عل الإطلاق. وكان يصرخ بأعلى صوته، ويتمتم، ويدندن، ويمسح غرفته، ذهاباً وإياباً. وهو في حالة من التوتر الأقصى، حتى تحصل الولادة السعيدة، أو القطعة الموسيقية المنشودة. وبالتالي فهناك علاقة واضحة بين التوتر النفسي ، إن لم نقل المرض النفسي وبين الإبداع.
نضرب على ذلك مثلاً أخيراً الرسام الفرنسي الشهير كلود مونيه، أحد مؤسسي المدرسة الانطباعية في الفن. فقد كان على حافة الانهيار النفسي، وكان يشهد حالة الإحباط التي تسبق وتتلو كل عملية إبداع: أي كلما رسم لوحة فنية، وكان مازوشياً زاهداً في نفسه، مستصغراً لقدراته ولا ينفك يقول: كل شيء ضاع، لن أنجح في حياتي أبداً، سوف تخسر كل أعمالي، سوف أضطر لبيع البيت والفرش والأدوات الخ.. ومع ذلك فقد سجله التاريخ كأحد كبار الفنانين في العصر الحديث..
قلنا إذاً بأن العبقري يشترك مع المجنون (أو مع المريض العقلي ) بصفة أساسية واحدة: هي التأزم الداخلي، ولكن الفرق بينهما هو أن أزمة العبقري تنحل عن طريق الإبداع، في حين أن أزمة المجنون تبدو مجانية ولا تؤدي إلا إلى الهذيان الفارغ. هذا يعني أنه لولا إبداعه الخارق لكان العبقري قد أصبح مجنوناً .
فالإبداع هو الذي يحرر الشخصية من أزمتها الداخلية أو من تناقضها الحاد الذي يبدو عصياً على التجاوز في الحالات العادية. بهذا المعنى فإن الإبداع هو انفجار خارج من الأعماق. إنه ولادة تجيء بعد مخاض عنيف وخطر. وهكذا يستعيد المبدع توازنه لفترة من الزمن، وذلك قبل أن يدخل في دورة تأزمية جديدة تنحل أيضاً عن طريق إبداع جديد وهكذا دواليك.. نقول ذلك وبخاصة إذا ما لقي الإبداع ترحيباً في وقته من قبل شريحة واسعة من الناس. وهكذا يتوازن العبقري على اعتراف الناس وإعجابهم به.، ولولا هذا الاعتراف لربما فقد توازنه وغطس في بحر الجنون. فاعتراف الآخرين بك يعطيك ثقة بالنفس ويثبت أقدامك ويزيل الكابوس النفسي عن صدرك. والواقع أن تعريف العبقرية هو هذا : اعتراف العدد الأكبر من الناس بالمبدع، وديمومة هذا الاعتراف على مدار الزمن والقرون. هذا هو الشي ء الذي يعطي قيمة لا تقدر بثمن للوحات ميكيل أنجيلو ، أو فان كوخ ، أو لمسرحيات شكسبير، أو لروايات بلزاك وديستويفسكي، أو لكتب ديكارت، وكانط وهيجل في مجال الفلسفة، الخ.. ولكن المشكلة هي أن بعض العباقرة لم يتوازنوا نفسياً حتى بعد أن أبدعوا، كما حصل لفان كوخ وشومان وفيرجينيا وولف ونيتشه.
وربما كان السبب الأساسي يعود إلى أنهم لم يحظوا بالاعتراف الكامل بهم أثناء حياتهم، وإنما بعد مماتهم، فقد جاء الاعتراف متأخراً ، جاء بعد فوات الأوان. وينطبق ذلك أكثر ما ينطبق على فان كوخ الذي تباع لوحاته الآن بعشرات الملايين من الدولارات، في حين أنه كان جائعاً وفقيراً في حياته. لم يتح له القدر أن ينعم بشهرته ونتاج عبقريته. وقل الأمر نفسه عن نيتشه الذي لم يعترف به إلا نفر قليل في حياته، ثم انفجرت شهرته كالقنبلة الموقوتة بعد جنونه أو موته بوقت قصير. وكان قد تنبأ بذلك عندما قال جملته الشهيرة: البعض يولدون بعد موتهم ! سوف يجيء يومي، ولكن لن أكون هنا. وقد تنعمت أخته " إليزابيث " بهذه الشهرة والمال العريض الناتج عن بيع أعمال أخيها بملايين النسخ، في حين أنه لم يبع منها إلا بضع عشرات في حياته كلها.. ولكن يمكن القول بأن هناك نفوساً عطشى لا تشبع حتى بعد أن ترتوي. إنها أرواح حائرة لا يعرف كنهها أو سرها. وأكبر مثل على ذلك الكاتبة الانجليزية فيرجينيا وولف التي انتحرت حتى بعد أن نجحت وذاقت طعم الشهرة في حياتها..
في يوم الاثنين بتاريخ 27 فبراير 1854 كان الموسيقار الألماني الشهير روبيرت شومان جالساً مع أصدقائه في جلسة سمر في بيته. وفجأة يترك الزوار ويخرج بثيابه العادية. واعتقد أصدقاؤه عندئذ أنه خرج لحاجة ما وأنه سيعود بعد قليل. ولكنه في الواقع توجه مباشرة إلى نهر الراين وألقى بنفسه فيه بعد أن وصل تأزمه إلى حده الأقصى. ولحسن حظه (أو لسوء حظه، لم نعد نعرف ) كان هناك صيادون بالقرب منه فانتشلوه وأنقذوه من الغرق..
وفي عام 1880 كان عمر نيتشه 36 سنة. عندئذ ترك الجامعة بعد أن قدم استقالته وذهب لكي يعيش حياة التشرد والضياع على الطرقات والدروب. وهكذا ابتدأ يصبح فيلسوفاً حقيقياً. ولكن مزاجه كان دائماً متقلباً وفكرة الانتحار تلاحقه باستمرار. وقد اشتد تأزمه بعد أن فشل حبه الكبير للغادة الحسناء: لواندريا سالومي. ويبدو أنه قام بثلاث محاولات انتحار فاشلة عن طريق تجرع كميات ضخمة من سائل الكلورال. ولكنه لم يمت. والغريب العجيب أنه على أثر تلك الفترة بالذات راح يكتب رائعته الشهيرة: هكذا تكلم زرادشت وهكذا أنقذ من الجنون ولو إلى حين..
أما فيرجينيا وولف فقصتها مختلفة. فقد كانت مهددة بالانتحار طيلة حياتها كلها. وكانت تغطس في حزن عميق لا قرار له. وترفض أن تأكل، وترفض أن تعترف بأنها مريضة. وكانت تقول بأن حالتها تعود إلى شعورها بالذنب. ولكن أي ذنب؟ لا أحد يعرف. وعندما وصل تأزمها إلى ذررته حاولت أن تنتحر مرة أولى عام 1895 عن طريق إلقاء نفسها من النافذة. ثم حاولت مرة ثانية عام 1913 عن طريق تناول السم. ثم حاولت مرة ثالثة عام 1941 (ونجحت ) عن طريق إلقاء نفسها في النهر والموت غرقاً..
أما الكاتب الفرنسي الشهير دو مو باسان فقد حاول الانتحار عام 1892 عندما أطبقت عليه الأفكار السوداء ووصل تأزمه إلى ذررته. ولكنه لم ينجح. فاقتادوه إلى المصح العقلي حيث مات بعد سنة من ذلك التاريخ. وهكذا دفع ثمن شهرته وإبداعه غالياً .
والآن من يصدق أن الفيلسوف الفرنسي الكبير أوجست كونت، مؤسس الفلسفة الوضعية، كان على حافة الجنون أكثر من مرة، وأنه حاول الانتحار عن طريق رمي نفسه في نهر السين !.. فبما أن الوضعية تمثل قمة العقلانية في الغرب، فإن أحداً لا يتوقع أن يكون مؤسسها قد أصيب بالجنون ، أو بالانهيار النفسي ، في بعض مراحل حياته. وهو دليل على أن العبقرية يمكن أن تخرج من رحم الجنون، بل وتنتصر على الجنون. ولولا أن أوجست كونت استطاع التوصل إلى بلورة فلسفته الوضعية وحظي بالإعجاب والتقدير من قبل معاصريه لكان قد انهار وغاص كلياً في ليل الجنون...
إذاً ينبغي أن نغير تلك الصورة السائدة في أذهاننا عن العباقرة والتي تعتبرهم أنهم فوق البشر وأن الضعف لا يأتيهم من بين أيديهم ولا من خلفهم.. فهذه صورة مثالية أو أسطورية لا علاقة لها بالواقع. إنها صورة تتشكل عادة عن العباقرة بعد موتهم،. صورة تبجيلية يساهم في صنعها الأتباع والأنصار والمعجبون هذا لا يعني بالطبع أن العبقري ليس عظيماً ، إذ يكفيه عظمة أنه استطاع الانتصار على انهياره الداخلي وتحويله إلى شيء ايجابي، إلى عمل عبقري. هنا تكمن عظمة العباقرة بالضبط. فهم يبذلون جهوداً جبارة للتغلب على أنفسهم، لقهر العقد النفسية المتجذرة في أعماقهم. وهكذا يحولون السلب إلى إيجاب والتحت إلى فوق، والجنون إلى عبقريات. أو قل إن الجنون والعبقرية يتجاوران لديهم جنباً إلى جنب. فأوجست كونت الذي كان يهذي والذي حاول الانتحار مرة هو نفسه أوجست كونت الذي أسس الفلسفة العلمية التي رافقت صعود العصر الصناعي في الغرب. وبالتالي فإنه يمثل قمة العقلانية وقمة الجنون في آن معاً ! وبالتالي فإن العبقرية والجنون هما من مصدر واحد: أي يصدران عن اللاوعي السحيق للفرد، ذلك اللاوعي الذي يمثل قارة مظلمة ومجهولة في آن معاً. إنها تشبه البركان العميق الذي يختلج تحت طبقات الأرض الجيولوجية. فأحيانا تقذف بالعبقرية إلى السطح، وأحياناً تقذف بالهذيان والجنون.
وأما جوته فعلى الرغم من الجنون الدوري الثقيل الذي كان يصيبه من حين إلى آخر، إلا أنه لم يقدم على الانتحار. وإنما اكتفى بأن جعل بطل روايته الأولى " آلام الشاب فيرتر " هو الذي ينتحر وهكذا وفر على نفسه هذه المهمة، ويقال بأن الكتاب الذين يمارسون الانتحار في كتاباتهم، أو يتحدثون عنه كثيراً ، لا ينتحرون فعلاً. وأما أولئك الذين يسكتون عنه كليا فهم الذين ينتحرون حقاً . وهكذا يفاجئون الناس بأنهم أقاموا على شي ء بدون مقدمات ودون أن يرهصوا به. وقد جرت إحصائيات في فرنسا عن نسبة المنتحرين بين المبدعين وتبين أنها عالية في أوساط الأدباء والشعراء وضعيفة في أوساط الرسامين والموسيقيين . نقول ذلك على الرغم من انتحار فان كوخ وجو جان وشومان وتشايكوفسكي. ولكن عددهم لا يقاس بأسماء الشعراء والروائيين الذين انتحروا من أمثال : جيرار دونيرفال، مايكوفسكي، بودلير، همنجواي، مونترلان، جي دوموباسان، فيرجينيا وولف، نيتشه، إدغار ألان بو ، والقائمة طويلة..
أخيرا سوف يكون من الحمق والغباء أن ندعي هنا بأننا قادرون على اكتشاف سر العبقرية. فالعبقرية، تحديداً ، هي سر الأسرار إنها تستعصي على كل تفسير. ولكن يمكن فهم بعض الجوانب المحيطة بها من خلال تجلياتها في أشخاص معينين ندعوهم بالعباقرة ، أو بالأشخاص الاستثنائيين أو بالمبدعين الكبار كما نحب أن نقول في لغتنا المعاصرة، وذلك لأن كلمة "عبقري" أو "عبقرية" أصبحت عتيقة أو بالية في الوقت الراهن. نقول ذلك على الرغم من أن المعنى هو ذاته. فلا أحد يعرف سر مسرحيات شكسبير الرائعة، أو سبب نجاح لوحات فان كوخ، أو قصائد رامبو، الخ.. صحيح أنه يمكن لمناهج النقد الأدبي والفني أن تشرح لنا الكثير من جوانب هذه الأعمال الإبداعية، بل وتنفذ إلى أعماقها في بعض الأحيان. ولكن يبقى هناك لغز ما يصعب الوصول إليه واستنفاده كلياً عن طريق التحليل. وهذا اللغز هو ما يدعى بالعبقرية.
فرامبو كان يستخدم اللفة الفرنسية مثله في ذلك مثل بقية شعراء جيله. ولكنه هو الوحيد الذي استطاع أن يكتب تلك القصائد التي لا تضاهى والتي لا تزال تسحرنا حتى الآن. يمكن أن نقول الشي ء ذاته عن المتنبي في اللغة العربية، أيضا أو حتى عن شعراء كبار آخرين. وإذاً فهناك كيمياء سحرية أو سرية للإبداع لا نعرف كنهها، ولا يتوصل إليها إلا المبدع الكبير (أو العبقري). إنه يركب الكلمات بطريقة ما وينفخ فيها الروح ثم يسطرها قصائد خالدة على صفحات التاريخ. وتظل تعجبنا وتأخذ بقلوبنا حتى بعد مرور مئات السنين. هنا يكمن سر العبقرية أو لغزها المحير. لقد حاول علم الطب النفسي والتحليل النفسي أن يكتشف سر العبقرية وتوصلا إلى نتائج لا يستهان بها، ولكن يبقى هناك شيء ما في العبقرية يستعصي على كل تفسير. يقول جاستون باشلار، أحد كبار العلماء والنقاد الأدبيين في آن معاً :"في أعماق الطبيعة ينبت عشب غريب. في ظلام المادة تنبثق أزهار سوداء. إن لها قطائفها الرائعة وعطرها الفواح"..
هكذا تولد العبقرية: إنها كالنور الذي ينبثق من رحم الظلام، أو كالعقل الذي ينهض عل أنقاض الجنون. والعلامة الأساسية التي لا تخطي، على العبقرية هو الاعتراف الكامل والكوني والدائم بها. فلا أحد يشك في عبقرية شكسبير، أو المتنبي أو المعري أو بودلير أو نيتشه أو هيجل.. وكلما مرت الأزمان على إنتاجهم عتق ونضج كالخمرة المعتقة وأصبح أكثر أهمية وامتلاء بالمعاني والدلالات.
لقد أثبت الطب النفسي الحديث بعد أن أجرى دراسات تجريبية عديدة أن العبقري لايتميز بتركيبة نفسية خاصة بقدر ما يتميز بتشغيل خاص لهذه التركيبة النفسية. فهو إنسان مثله مثل بقية البشر. ولكن استعداده النفسي مختلف،. فهو يتميز مثلاً بطاقة هائلة عل الحركة والابداع قياساً بالإنسان العادي. كما أنه يتميز بالاختلاف وحب الخروج على المألوف. فالامتثالي الخاضع للعادات والتقاليد السائدة في المجتمع لا يمكن أن يكون عبقرياً. لأن أول سمة من سمات العبقرية هي الشذوذ عن المألوف. ولذلك فإن العباقرة يصدمون الناس في البداية ويلاقون صعوبات جمة من قبل وسطهم والمحيط السائد. ثم يمضي وقت طويل قبل أن يتم الاعتراف بهم، وأحياناً لا يعترف بهم إلا بعد موتهم. وحده العبقري يعرف قيمته منذ البداية، ولكنه لا يستطيع إقناع الآخرين بها فوراً بمن فيهم أسرته الشخصية. ولذلك يعاني معاناة جمة ويصاب بالإحباط في لحظات كثيرة، ويحاول التراجع عن الأمر أو الاستسلام، ولكن هناك قوة داخلية فيه أي قوة سرية، تدفعه لأن يستمر، لأن يواظب على مسيرته. ولذلك قلنا بأن من صفات العبقري الصبر والمواظبة لفترة طويلة من الزمن. إنه عنيد فعلاً، ولا يتراجع قبل أن يتواصل إلى تنفيذ المهمة التي خلق من أجلها. لذلك انه ينبغي أن نعتقد بأن العبقري يعتبر نفسه محملاً برسالة أو مسؤولاً عن تنفيذ مهمة عليا تتجاوزه وهو مستعد لأنه يضحي بحياته من أجلها، ومن أجلها وحدها. من هنا تجيء سر قوته ومقدرته على تجاوز العقبات والحواجز التي يصطدم بها في طريقه، والتي يضعها الآخرون في طريقه، فالعبقري ما إن يكتشف الآخرون نواياه الحقيقية حتى يتألبوا عليه ويحاولوا منعه من تحقيق مهمته. العبقري مهدد باستمرار خصوصاً في مراحله الأولى، والعبقرية خطر على صاحبها. ويصل هذا الخطر أحياناً إلى مرحلة التهديد بالتصفية الجسدية.
لماذا كل هذا الخطر على العبقري؟ لأنه ليس من الطبيعي أن تكون عبقرياً، وإنما الطبيعي أن تكون عادياً مثلك مثل بقية البشر. ولذا فما إن يشعر الناس بأنك عبقري، أو تحمل بذرة العبقرية في داخلك، حتى يعترضوا طريقك ويحاولوا الإيقاع بك بشتى الأسباب. فالحسد قاتل أحياناً. وأحياناً يجيء من قبل عباقرة سابقين لا يريدون أن تتفتح أي موهبة بعدهم. وتروي الأسطورة أن أم كلثوم قد ساهمت في القضاء على أسمهان لأنها غارت منها وخافت أن تنافسها بعد أن سمعت صوتها وعرفت أنها عبقرية. وسواء كانت هذه الحكاية صحيحة أم لا فإنها تدل على شي ء ما. وتروي الروايات أن شعراء كباراً حاولوا القضاء على بعض المواهب الجديدة أو الصاعدة لأنهم أحسوا بأنها تشكل خطراً على أمجادهم.. نعم إن العبقري يدخل في الدائرة الحمراء للخطر ما إن يشعر بعضهم بأنه قد يصبح عبقرياً ويحل محلهم.
ولكن هناك خطراً أخر يهدد العبقري كما ألمحنا إلى ذلك أكثر من مرة ألا وهو: الجنون أو التوتر العقلي الشديد أو الهيجان. وقد أثبتت أخر دراسة احصائية أجريت مؤخراً على هذا الموضوع أنه نادراً ما يخلو عبقري ما من إمارات الجنون أو التوتر النفسي الحاد. وقد قام بهذه الدراسة الباحث فيليكس بوست عام 1994، أي أنها حديثة العهد جداً، وشملت 291 شخصية تنتمي إلى عالم السياسة والفلسفة والعلم والفن والموسيقى والشعر والأدب.. وهي شخصيات عبقرية ظهرت في أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين. وتبين بعد إجراء هذه الدراسة أن هؤلاء العباقرة يتميزون بصفات غير طبيعية. فهناك نسبة 50% منهم يتميزون باضطرابات نفسية حادة جداً، بل وتشلهم عن الإبداع في بعض فترات العمر. وترتفع هذه النسبة لدى الفلاسفة فتصل إلى 60%، ولكنها أعلى ما تكون لدى الأدباء، والشعراء خصوصاً حيث تصل إلى 70%. ثم تنخفض لدى الرسامين والموسيقيين ورجال السياسة (حوالي 30% ) ولا نستطيع أن نحصي عدد الشعراء والروائيين الذين أصيبوا بالجنون أو المرض العقلي بشكل جزئي أو كلي، مؤقت أو دائم، ولكن هذا لا يلغي إبداعهم أو عظمتهم و عبقريتهم.
فلا أحد يستطيع أن ينكر عظمة شعر جيرار دونرفال لمجرد أنه جن أو انتحر، ولا أحد يشك بعبقرية دوموباسان لأنه مات في المصح العقلي بعد أن انهارت قواه النفسية. ولا أحد يستطيع أن يقول بأن نيتشه ليس فيلسوفاً كبيراً لمجرد أنه أمضى سنواته العشر الأخيرة في غيبوبة الجنون. ولا يوجد روائي في التاريخ أعظم من ديستويفسكي على الرغم من أنه كان مصاباً بالصرع.. ويرى فرويد أن الابداع هو تعويض عن نقص ما في الشخصية. وأنه لولا هذا النقص لما أصبح المبدع مبدعاً . فالإنسان المتصالح مع نفسه ومع الواقع الخارجي ليس بحاجة لأن يكون عبقرياً وأكبر دليل على ذلك فرويد نفسه الذي كان مصاباً بالعصاب ولم يشف منه إلا بعد أن اكتشف تلك القارة المظلمة والمعتمة والهائلة: أي اللاوعي. فلا ريب في أن الاكتشاف أو الابداع ينقذ العبقري أو يعيد إليه توازنه. يقول الفيلسوف كيركغارد الذي كان معقداً جداً من الناحية النفسية: أن المرض هو السبب الأساسي لكل اندفاعة ابداعية. وبالابداع أشفي نفسي من أوجاعي وهمومي. بالابداع أسترد الصحة والعافية". والواقع أن هذه الكلمات هي للشاعر"هيني" ولكن كيركغارد استشهد بها، وكذلك فرويد. وكان ويلكه يعترف بأنه لم يكتب قصيدة واحدة إلا من خلال العذاب النفسي والقلق.
ومن المعلوم أن العقد النفسية الموروثة عن طفولته كانت تلاحقه كالأخطبوط ولا يستطيع منها فكاكاً إلا عن طريق الابداع. ثم سرعان ما تعود بعد انتهاء عملية الإبداع. وهكذا كان يتوازن باستمرار من خلال اللاتوازن. أو قل كان دائماً يشعر بأنه على شفا حفرة من الانهيار وأنه مهدد بالسقوط في كل لحظة. وكان مضطراً لتأجيل لحظة الجنون الكامل في كل مرة. ومن المعلوم أن رامبو كان يكتب وهو على حافة الجنون، وكان يتقصد الجنون تقصداً. كان مهووساً بتلك النقطة الغائرة في الأعماق والأقاصي، تلك النقطة التي لا يستطيع أن يصل إليها أي شاعر إلا إذا غامر بنفسه واقترب من منطقة الخطر الأعظم. عندئذ كانت تخرج القصائد العبقرية. واعترف سارتر نفسه بأنه لم يتخلص من مرض العصاب الذي كان يلاحقه إلا عن طريق الكتابة. فالكتابة تمتص الجنون الداخلي وتساعد على التخلص منه أو تحجيمه على الأقل. نقول ذلك وبخاصة إذا نجحت وأدت إلى إبداع حقيقي. والواقع انه لا يوجد فنان حقيقي إلا ويعاني من مرض ما. أو مشكلة معينة. الإبرة التي توخز الكاتب وتدفعه دفعاً إلى عملية الإبداع. وبالتالي فلا ينبغي أن يخاف الكاتب إن كان يعاني من عقدة نفسية معينة أو من جرح داخلي حتى لو استغله الآخرون ضده . فربما كان هذا الجرح كنزه الوحيد. وهو على أي حال يشكل مصدر عبقريته وسر إبداعه