الجزء الأول
دعوني أولاً أقدم لكم بطاقته الشخصية.
الاسم: الذيب
العمر : 35
مكان الميلاد: حيل الركز/الوقبة (الحيل هو قرية زراعية صغيرة في الجبال)
المهنة: مساعد سائق رافعة/صحار
والآن سأخبركم عنه أشياء مهمة ، خلال الشهور الثلاثة الماضية أعجب بشدة بالشخصية الكرتونية “المحقق كونان”، لم تكن تفوته أي حلقة من المسلسل دون أن يشاهدها ، منذ أول حلقة شاهدها لم يغب كونان عن تفكيره لحظة واحدة وكثيراً ما كان يخاطب نفسه باسم "كونان"، كان يتبع طريقته في الملاحظة وجمع الأدلة واكتشاف الحقائق، عندما كان يمشي في الشارع في جولته المسائية كان كثيراً ما يقف عندما يلاحظ شيئاً ويبدو له غريباً، كان يرسل نظرة ثاقبة تقرأ كل ما يدور واضعاً يديه خلف ظهره، وبالرغم من أن نظره لا بأس به إلا أنه قرر استخدام نظارة طبية مشابهة كتلك التي يرتديها كونان .
في أول مرة تحققت له فيها نشوة الاكتشاف وتأكد من قدرته على التحري ، كان كعادته اليومية قد خرج من بيته للجولة المسائية، وفي الطريق قرر أداء صلاة العشاء في الجامع الكبير بقرب بساتين النخيل، خرج بعد الصلاة فإذا بجلبة وأصوات مرتفعة في الخارج، كان المصلون غاضبين من اختفاء الأحذية بشكل متكرر خلال الأيام الأخيرة .
وقف كونان يتأمل الحاضرين وهم يتناقشون بغضب ويعجبون ممن يسرق أحذية المصلين من بيوت الله، بسرعة اتخذ وضعية العمل، شابك يديه خلف ظهره ووقف بقامته النحيلة يتأمل المكان….المخارج والمداخل….حاول التفرس في وجو الواقفين، لربما كان أحدهم هو المجرم ويتظاهر معهم أنه ضحية…..جال حول المكان وأرجاءه….تفقد أماكن الوضوء حيث تنكشف قناة مياه الفلج في حرم المسجد…..لكنه لم يجد دليلاً يقوده لشيء .
قرر الذهاب والعودة غداً لاستكمال التحقيق ، بحث عن نعليه فلم يجدهما….لابد أنهما ذهبتا مع غنائم اللص المجهول .
عاد للبيت حافياً ، لم يهتم لذلك، بل عاد ليبحث في أشرطة الفيديو التي سجلها لحلقات كونان عن حلقة معينة، تخيل أن كونان حل في تلك الحلقة قضية مشابهة للقضية التي يواجهها الآن……ظل يبحث حتى وقت متأخر من الليل دون فائدة……غلبه النوم، وعندما استيقظ في الصباح لم يستطع الذهاب لعمله في البلدية لأنه لا يملك نعالاً غير التي سرقت البارحة، اضطر للإنتظار حتى تفتح المحلات أبوابها في الساعة التاسعة ليشتري نعالاً أخرى .
كانت المرة الأولى التي يتأخر فيها عن موعد الدوام منذ أن توظف، ومع هذا تلقى تعنيفاً شديداً من المدير ثم من رئيس القسم ……لكنه لم يكترث لكل هذا ، كان ينتظر وقت المغرب بفارغ الصبر لينصب كميناً للص الأحذية ويكشفه باستخدام الأساليب الكونانية .
بعد صلاة المغرب سلك طريقاً مختصراً للجامع مضحياً بجزء من جولته المسائية التي تعود أن يطوف فيها على محلات بيع السجاد في الشارع العام واكتفى بتفقد مجموعة محلات خياطي النساء، وصل للجامع قبل أذان العشاء بنصف ساعة، وقت كاف لتفقد المكان واختيار الموضع الذي سيراقب منه، بعد تفكير طويل وحسابات دقيقة لزوايا الرؤية، قرر أن أفضل مكان هو منارة المسجد، منها يستطيع أن يكشف كل الأماكن دون أن يشعر به أحد .
صعد في المنارة حتى منتصفها حيث وجد فتحات يمكن له من خلالها النظر، ظل يراقب ويراقب…..أذّن الأذان، وأقيمت الصلاة، وعينا كونان تمسحان المكان مثل الرادر، خصوصاً المكان الذي يضع المصلون به أحذيتهم……كادت الصلاة تنقضي دون أن يحدث شيء…..وفجأة يظهر شاب مسرع في اتجاه الأحذية، يحمل مجموعة منها وبسرعة خاطفة يلقيها في قناة الفلج الجارية فتأخذها معها وتختفي تحت الأرض ويهرب اللص خارج المسجد ويعبر الشارع .
كل هذا وكونان يراقب…..عندما ابتعد اللص شكّل يديه على شكل منظار ووضعهما على عينيه ليراقبه وهو يختفي بعيداً نحو بساتين النخيل…. لم يستغرق طويلاً حتى استطاع اكتشاف حيلة لص الأحذية الذكية، لقد كان يلقي بالأحذية في مجرى الماء هنا ثم يلتقطها من الجانب الآخر بعد أن تكون المياه قد حملتها إلى هناك، وبذلك لا يراه أحد وهو يخرج من المسجد حاملاً الأحذية.
لم يشأ كونان التدخل في شيء آخر….اكتفى بهذا الفتح العظيم الذي حققه، لقد أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه كوناني من الدرجة الأولى، بل وكاد للحظة في وسط شعوره بالزهو والفخر يقتنع أنه لو كان كونان هو من حاول حل هذه القضية لاستغرق زمناً أطول منه، لكنه ما لبث أن عرف أن هذا مجرد غرور وأن التواضع خيراً له لأنه شأن العظماء.
تلك الليلة أغمض عينيه للنوم وهو يبتسم ابتسامة حالمة……..تذكر ابنة عمه صبحا ، كم هو في شوق ليخبرها بما حصل اليوم…..وهو مغمض العينين تخيل نفسه متجهاً لخيمتها الواقعة على أطراف قرية حيل الركز، سيجدها كالعادة ترعى أغنامها عند سفح الجبل المجاور، سينادي عليها من بعيد وستركض نحوه بمجرد أن تراه، سيلتقيان عند الخيمة، شعر بالضيق قليلاً عندما تذكر عادتها سؤاله عن كل أخباره منذ مغادرته في الاسبوع الماضي حتى عودته لها……فهو يريد إخبارها عن لغز سرقة الأحذية، ثم تخيلها وهي تسرع لتضع إبريق القهوة على النار، ثم تعجن العجين لتخبز له ….وخلال ذلك سيبدأ إخبارها بما حصل، تخيل نظرتها المندهشة الفخورة به حتى أنها لم تنتبه للقهوة وهي تطفر خارج الإبريق.
بعدها سيجلس وسيخبرها أنه أحضر لها مواد تحنيط الموتى التي طلبتها، وسيسألها عمَّن مات من نساء القرية ومن القرى المجاورة خلال أسبوع غيابه.لم يبقَ له أقارب سواها وبضع نخلات نحيلاتعلى جارح الوادي، وصبحا ليس لها أقارب إلا هو وغنماتها، وتعرف الأموات من أهل الوادي أكثر ممن مازالوا على قيد الحياة.
هي تصغره بخمس سنين، وكانت قد ولدت صبيحة يوم ربيعي جميل فسمتها أمها صبحا، وكانت كما سمتها، إسم على مسمى، كأن الصبح سكن في وجهها واستعار لون الغروب لخديها. أكثر ما يسحر في وجهها هو أنفها، في أرنبته خنس لطيف، كان جميلاً لا يملَّ الناظر من تمعنه، ومع أنها في الثلاثين إلا أنها مازالت تبدو كأنها في العشرين، كل هذا الحسن والجمال ضائع بين رعي الغنم وتغسيل الموتى……لم تمل من انتظار الذيب لسنين عديدة أن يقرر الزواج بها، وكانت كلما فاتحته في الأمر يتهرب أو يعتذر بأعذار واهية، وعادة ما يحتدم نقاشهما حول هذه المسألة في الليل، وترتفع أصواتهما حتى يسمعهما أهل القرية في أعلى الوادي، حدث في إحدى الليالي قبل عدة شهور، حينما كان هو على مرقده خارج الخيمة وهي في الداخل تسرح شعرها، ومع احتدام المناقشة، غضبت صبحا بشدة ، فما كان منها إلا أن قذفته بزجاجة زيت جوز الهند التي كانت بيدها، كانت تريد التعبير عن غضبها فقط لكن بسبب الظلام أصابته في رأسه إصابة بليغة، ولما لم يرد على شتائمها التي أعقبت زجاجة الزيت ارتابت في الأمر، خرجت فإذا به مغمى عليه والدم ينزف من رأسه بشدة…….أسرعت لإسعافه ببعض القهوة المطحونة والكركم على جرحه ولفت رأسه بقطعة قماش شقتها من غطاء رأسها، ثم فركت أنفة بفلقة بصل…..بعد قليل أفاق من إغمائته، وتوقف النزيف لكنها ظلت تبكي عند رأسه وتعتذر له حتى الصبح.
في واقع الأمر لم تكن الإغمائة سوى حيلة خطرت بباله حين أصيب برأسه، هو يعرف مقدار حبها له وشفقتها عليه، ويستطيع بعدها أن يتدلل عليها لعدة أسابيع قادمة دون أن تعود لموضوع الزواج.
ليتها تعرف السبب الحقيقي لتهربه من الزواج، هذا الزواج الذي أقره أبوه وأبوها يوم مولدها، فعمر الوعد من عمرها ومازالت تنتظره منذ ذلك الحين، لم تعد تحتمل تعليقات نساء القرية فعزلت نفسها في خيمة في الوادي مع غنماتها، كان من الممكن أن تحتمل كل شيء إلا أن تتهامس النساء أمامها بما يقدح في رجولته.
وهو ليته يستطيع إخبارها بالسبب، ليته يستطيح أن يبوح لها بمكنون صدره، مع أن الرضى منها أغلى عنده من عينيه، ومع أنها هي حبيبته وأمه وأخته وكل الناس، إلا أنه لم يستطع إخبارها، تصبو روحه لها كالطير تصبو لأوكارها، ولو لا عيناها الحانيتين التين تنسيانه الدنيا بما فيها لما استطاع تحمل قسوة الحياة وظلم الناس، كان ينتظر الإجازة الأسبوعية بحنين لا ينطفئ ولهفة يخفق بها قلبه كجناحي طائر.
كان أحياناً لفرط ما يسحره جمال وجهها يكاد يعترف لها بكل شيء، لكنها إذا تكلمت خجل من صوتها فيعدل عن رأيه، كان أكثر شيء يحبه ويشعره بالرضا هو حين تطلب منه أن يحضر لها شيئاً معه في نهاية الأسبوع، وأكثر ما كان يحب أن يشتريه لها هو أشيائها الشخصية….كان يعشق الدهشة والرضى في عينيها، وفي سبيل ذلك كان يحاول إحضار أشياء جديدة يراها في السوق.
في إحدى المرات اشترى لها حمالة صدر ودسها لها بين قطع الثياب الأخرى، عندما أعطاها الثياب وأخرجت حمالة الصدر لم تعرف لأي شيء يمكن أن تستخدم، سألته فاستحى أن يخبرها ، وليتخلص من الموقف قال لها أنها تصلح لتدفئة الأذنين أيام الشتاء….
يتبع....
دعوني أولاً أقدم لكم بطاقته الشخصية.
الاسم: الذيب
العمر : 35
مكان الميلاد: حيل الركز/الوقبة (الحيل هو قرية زراعية صغيرة في الجبال)
المهنة: مساعد سائق رافعة/صحار
والآن سأخبركم عنه أشياء مهمة ، خلال الشهور الثلاثة الماضية أعجب بشدة بالشخصية الكرتونية “المحقق كونان”، لم تكن تفوته أي حلقة من المسلسل دون أن يشاهدها ، منذ أول حلقة شاهدها لم يغب كونان عن تفكيره لحظة واحدة وكثيراً ما كان يخاطب نفسه باسم "كونان"، كان يتبع طريقته في الملاحظة وجمع الأدلة واكتشاف الحقائق، عندما كان يمشي في الشارع في جولته المسائية كان كثيراً ما يقف عندما يلاحظ شيئاً ويبدو له غريباً، كان يرسل نظرة ثاقبة تقرأ كل ما يدور واضعاً يديه خلف ظهره، وبالرغم من أن نظره لا بأس به إلا أنه قرر استخدام نظارة طبية مشابهة كتلك التي يرتديها كونان .
في أول مرة تحققت له فيها نشوة الاكتشاف وتأكد من قدرته على التحري ، كان كعادته اليومية قد خرج من بيته للجولة المسائية، وفي الطريق قرر أداء صلاة العشاء في الجامع الكبير بقرب بساتين النخيل، خرج بعد الصلاة فإذا بجلبة وأصوات مرتفعة في الخارج، كان المصلون غاضبين من اختفاء الأحذية بشكل متكرر خلال الأيام الأخيرة .
وقف كونان يتأمل الحاضرين وهم يتناقشون بغضب ويعجبون ممن يسرق أحذية المصلين من بيوت الله، بسرعة اتخذ وضعية العمل، شابك يديه خلف ظهره ووقف بقامته النحيلة يتأمل المكان….المخارج والمداخل….حاول التفرس في وجو الواقفين، لربما كان أحدهم هو المجرم ويتظاهر معهم أنه ضحية…..جال حول المكان وأرجاءه….تفقد أماكن الوضوء حيث تنكشف قناة مياه الفلج في حرم المسجد…..لكنه لم يجد دليلاً يقوده لشيء .
قرر الذهاب والعودة غداً لاستكمال التحقيق ، بحث عن نعليه فلم يجدهما….لابد أنهما ذهبتا مع غنائم اللص المجهول .
عاد للبيت حافياً ، لم يهتم لذلك، بل عاد ليبحث في أشرطة الفيديو التي سجلها لحلقات كونان عن حلقة معينة، تخيل أن كونان حل في تلك الحلقة قضية مشابهة للقضية التي يواجهها الآن……ظل يبحث حتى وقت متأخر من الليل دون فائدة……غلبه النوم، وعندما استيقظ في الصباح لم يستطع الذهاب لعمله في البلدية لأنه لا يملك نعالاً غير التي سرقت البارحة، اضطر للإنتظار حتى تفتح المحلات أبوابها في الساعة التاسعة ليشتري نعالاً أخرى .
كانت المرة الأولى التي يتأخر فيها عن موعد الدوام منذ أن توظف، ومع هذا تلقى تعنيفاً شديداً من المدير ثم من رئيس القسم ……لكنه لم يكترث لكل هذا ، كان ينتظر وقت المغرب بفارغ الصبر لينصب كميناً للص الأحذية ويكشفه باستخدام الأساليب الكونانية .
بعد صلاة المغرب سلك طريقاً مختصراً للجامع مضحياً بجزء من جولته المسائية التي تعود أن يطوف فيها على محلات بيع السجاد في الشارع العام واكتفى بتفقد مجموعة محلات خياطي النساء، وصل للجامع قبل أذان العشاء بنصف ساعة، وقت كاف لتفقد المكان واختيار الموضع الذي سيراقب منه، بعد تفكير طويل وحسابات دقيقة لزوايا الرؤية، قرر أن أفضل مكان هو منارة المسجد، منها يستطيع أن يكشف كل الأماكن دون أن يشعر به أحد .
صعد في المنارة حتى منتصفها حيث وجد فتحات يمكن له من خلالها النظر، ظل يراقب ويراقب…..أذّن الأذان، وأقيمت الصلاة، وعينا كونان تمسحان المكان مثل الرادر، خصوصاً المكان الذي يضع المصلون به أحذيتهم……كادت الصلاة تنقضي دون أن يحدث شيء…..وفجأة يظهر شاب مسرع في اتجاه الأحذية، يحمل مجموعة منها وبسرعة خاطفة يلقيها في قناة الفلج الجارية فتأخذها معها وتختفي تحت الأرض ويهرب اللص خارج المسجد ويعبر الشارع .
كل هذا وكونان يراقب…..عندما ابتعد اللص شكّل يديه على شكل منظار ووضعهما على عينيه ليراقبه وهو يختفي بعيداً نحو بساتين النخيل…. لم يستغرق طويلاً حتى استطاع اكتشاف حيلة لص الأحذية الذكية، لقد كان يلقي بالأحذية في مجرى الماء هنا ثم يلتقطها من الجانب الآخر بعد أن تكون المياه قد حملتها إلى هناك، وبذلك لا يراه أحد وهو يخرج من المسجد حاملاً الأحذية.
لم يشأ كونان التدخل في شيء آخر….اكتفى بهذا الفتح العظيم الذي حققه، لقد أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه كوناني من الدرجة الأولى، بل وكاد للحظة في وسط شعوره بالزهو والفخر يقتنع أنه لو كان كونان هو من حاول حل هذه القضية لاستغرق زمناً أطول منه، لكنه ما لبث أن عرف أن هذا مجرد غرور وأن التواضع خيراً له لأنه شأن العظماء.
تلك الليلة أغمض عينيه للنوم وهو يبتسم ابتسامة حالمة……..تذكر ابنة عمه صبحا ، كم هو في شوق ليخبرها بما حصل اليوم…..وهو مغمض العينين تخيل نفسه متجهاً لخيمتها الواقعة على أطراف قرية حيل الركز، سيجدها كالعادة ترعى أغنامها عند سفح الجبل المجاور، سينادي عليها من بعيد وستركض نحوه بمجرد أن تراه، سيلتقيان عند الخيمة، شعر بالضيق قليلاً عندما تذكر عادتها سؤاله عن كل أخباره منذ مغادرته في الاسبوع الماضي حتى عودته لها……فهو يريد إخبارها عن لغز سرقة الأحذية، ثم تخيلها وهي تسرع لتضع إبريق القهوة على النار، ثم تعجن العجين لتخبز له ….وخلال ذلك سيبدأ إخبارها بما حصل، تخيل نظرتها المندهشة الفخورة به حتى أنها لم تنتبه للقهوة وهي تطفر خارج الإبريق.
بعدها سيجلس وسيخبرها أنه أحضر لها مواد تحنيط الموتى التي طلبتها، وسيسألها عمَّن مات من نساء القرية ومن القرى المجاورة خلال أسبوع غيابه.لم يبقَ له أقارب سواها وبضع نخلات نحيلاتعلى جارح الوادي، وصبحا ليس لها أقارب إلا هو وغنماتها، وتعرف الأموات من أهل الوادي أكثر ممن مازالوا على قيد الحياة.
هي تصغره بخمس سنين، وكانت قد ولدت صبيحة يوم ربيعي جميل فسمتها أمها صبحا، وكانت كما سمتها، إسم على مسمى، كأن الصبح سكن في وجهها واستعار لون الغروب لخديها. أكثر ما يسحر في وجهها هو أنفها، في أرنبته خنس لطيف، كان جميلاً لا يملَّ الناظر من تمعنه، ومع أنها في الثلاثين إلا أنها مازالت تبدو كأنها في العشرين، كل هذا الحسن والجمال ضائع بين رعي الغنم وتغسيل الموتى……لم تمل من انتظار الذيب لسنين عديدة أن يقرر الزواج بها، وكانت كلما فاتحته في الأمر يتهرب أو يعتذر بأعذار واهية، وعادة ما يحتدم نقاشهما حول هذه المسألة في الليل، وترتفع أصواتهما حتى يسمعهما أهل القرية في أعلى الوادي، حدث في إحدى الليالي قبل عدة شهور، حينما كان هو على مرقده خارج الخيمة وهي في الداخل تسرح شعرها، ومع احتدام المناقشة، غضبت صبحا بشدة ، فما كان منها إلا أن قذفته بزجاجة زيت جوز الهند التي كانت بيدها، كانت تريد التعبير عن غضبها فقط لكن بسبب الظلام أصابته في رأسه إصابة بليغة، ولما لم يرد على شتائمها التي أعقبت زجاجة الزيت ارتابت في الأمر، خرجت فإذا به مغمى عليه والدم ينزف من رأسه بشدة…….أسرعت لإسعافه ببعض القهوة المطحونة والكركم على جرحه ولفت رأسه بقطعة قماش شقتها من غطاء رأسها، ثم فركت أنفة بفلقة بصل…..بعد قليل أفاق من إغمائته، وتوقف النزيف لكنها ظلت تبكي عند رأسه وتعتذر له حتى الصبح.
في واقع الأمر لم تكن الإغمائة سوى حيلة خطرت بباله حين أصيب برأسه، هو يعرف مقدار حبها له وشفقتها عليه، ويستطيع بعدها أن يتدلل عليها لعدة أسابيع قادمة دون أن تعود لموضوع الزواج.
ليتها تعرف السبب الحقيقي لتهربه من الزواج، هذا الزواج الذي أقره أبوه وأبوها يوم مولدها، فعمر الوعد من عمرها ومازالت تنتظره منذ ذلك الحين، لم تعد تحتمل تعليقات نساء القرية فعزلت نفسها في خيمة في الوادي مع غنماتها، كان من الممكن أن تحتمل كل شيء إلا أن تتهامس النساء أمامها بما يقدح في رجولته.
وهو ليته يستطيع إخبارها بالسبب، ليته يستطيح أن يبوح لها بمكنون صدره، مع أن الرضى منها أغلى عنده من عينيه، ومع أنها هي حبيبته وأمه وأخته وكل الناس، إلا أنه لم يستطع إخبارها، تصبو روحه لها كالطير تصبو لأوكارها، ولو لا عيناها الحانيتين التين تنسيانه الدنيا بما فيها لما استطاع تحمل قسوة الحياة وظلم الناس، كان ينتظر الإجازة الأسبوعية بحنين لا ينطفئ ولهفة يخفق بها قلبه كجناحي طائر.
كان أحياناً لفرط ما يسحره جمال وجهها يكاد يعترف لها بكل شيء، لكنها إذا تكلمت خجل من صوتها فيعدل عن رأيه، كان أكثر شيء يحبه ويشعره بالرضا هو حين تطلب منه أن يحضر لها شيئاً معه في نهاية الأسبوع، وأكثر ما كان يحب أن يشتريه لها هو أشيائها الشخصية….كان يعشق الدهشة والرضى في عينيها، وفي سبيل ذلك كان يحاول إحضار أشياء جديدة يراها في السوق.
في إحدى المرات اشترى لها حمالة صدر ودسها لها بين قطع الثياب الأخرى، عندما أعطاها الثياب وأخرجت حمالة الصدر لم تعرف لأي شيء يمكن أن تستخدم، سألته فاستحى أن يخبرها ، وليتخلص من الموقف قال لها أنها تصلح لتدفئة الأذنين أيام الشتاء….
يتبع....