المرتاح
موقوف
في قريتنا الصغيرة الواقعة على ساحل طويل ممتد . كانت أمواج البحر عالية ،لا ميناء له ولا أرصفة تحمي قوارب الصيادين .. كأنما أبواب البحر مُفَتّحة من جهاتها الثلاث ، خلا جهة اليابسة ، رُبما لكونها مكاناً يعج بالحياة لكثرة تواجد البشر فوقها .. في كل صباح لا تسمع إلا ضجيج الصيادين وصراخهم وجلبة بعضهم ووقع أقدامهم وهدير ماكينات قواربهم ، بيوت حارتنا مُكتظة البُنيان ، يُخيّل إليك أنّ البيوت متراكبة فوق بعضها أو رُكّبت فوق بعضها ، على ذوق قُرى صغيرة لصَيادين لا يَعتمرون غير تجمّعات صغيرة قريبة من البحر .. تبدو للناظر إليها من على بُعد بصرٍ قوي أنها يائسة ومحبطة، أو هائمة على بحر ممتد لا تحيد عن تمددّها نحوه ، فقد شاء قدرها أن تكون كالغيوم المتفرقة أحياناً ، فحين يقطع تواصلها وادياً أو سلسلة جبلية مرتفعة أو منخفضة يراها الناظر أنها متكدسة فوقه أو التحمت فيه بل ويُخال أنها مرتصّة فوق بعض ، أو على تراصّ ببعضها ، هكذا هي حارتنا القديمة لا تتعالي بمكانتها عن رفيق درب تواصلها وبقائها بل ترى أنها مُكمّلة لامتداده ، فهو على طول امتداده قد أرخى مدّه فوقها حيثما امتدّ واتصل .. بيوت حارتنا تبدو كأنها مُقامة على آخر طوبة من البيت التالي .. طُرقاتها ضيقة جداً ، تكاد لا تكفي لمرور أكثر من شخص وإذا قُدّر أن يكون سميناً بعض الشيء فعليه أن يسير على احد جَنْبيه .. بيوت حارتنا لُزّتْ بعضها ببعض ، والتصقت وتقاربتْ وتجاورتْ ، إنه عنوان عمارة تأصّلت وتجذّرتْ عُرفت من يومئذ بالبيوت القديمة .. هكذا تسير عليه أنماط عمارة بلادنا كُلها منذ القدم .. في السهل والجبل ، لا تجد إلا نفس نمط العمارة .. حتى لو شاهدت مثلها في بُقعة أخرى ، لصرخت بقوة هذه عمارة حارة ( . ) حتى أن البُلدان القريبة أو البعيدة والتي كانت لبلادنا موطئ قدم فيها ، تجد عبق تأريخنا مُتجذّراً فيها ، حتى عرفتْ قيَم وسلوكيات بشرية قائمة باسمنا إلى هذه اللحظة ، قيمٌ تجاورتْ مع أُسّ عِمَارة تجذّرها العريق وقد عُرفتْ به .. حتى وإن ذكرتَ عمارة قديمة كان حرياًّ بك أن تذكر جذورها النابع منها ، كعين الماء إذا أردت معرفة منبعها عليك أن تسبر أغوار جذورها الممتدة من السهْل إلى الجبل بل هي اقرب إلى عُروق الشجرة المتفرّعة ، فإن قطعت أطرافها بقيَ جذرها قائماً ..! هكذا هيَ مَشاهد البيوت القديمة وطرقاتها وعمارتها المتوازنة بلا غلوّ ولا إقحام ، فهي مذ ذلك الامتداد البعيد بأزمنته الغابرة ، تشتمّ ريح ماضيها وعبق نسائمه فلا تُنسيها توازنها القيَمي والسلوكي ، فقد تجد واجهات البيوت قد تشابهت لكنها تختلف في مَسكنها صغيراً كان أو كبيراً بكل أنماط عِمارتها، هكذا هي وجوه بشرية حارتنا تسير في تجاور مع سلوكيات قائمة لا تنسى ولا تُغيّب امتدادها إلى يوم الدين ، هكذا بقي ذلكم الأُسّ متلازماً مع فلسفتها القيّمة فـــ " الوجوه تتشابه وإن اختلفتْ " هكذا هي عمارة حارتنا تتشابه وإن اختلفت الطريقة المُستوحاة لكنها لا تخرج عن عبق ماضي تجذّرها العريق ، حتى وإن تغيرتْ وتبدلت نظم الحياة وتطورت مَسيرتها.
للقصة بقية فتابعووووها ..
للقصة بقية فتابعووووها ..
التعديل الأخير: