الساعة الآن الثانية عشر بعد منتصف الليل
لا ادري لم ساقتني قدماي إلى ذلك البيت المتهدم
و الذي يحال ان يقطن فيه احد من البشر ,,
أهو نوع من الفضول ؟ او هي رغبتي الملحة لهروبي من الواقع الذي عشته ؟
ام هي تلك القصة التي شلت ذهني دون وضع ادنى اعتبار
لموطن خطواتي فرمتني هنا امام هذا المجهول ، ، ؟
احسست بنغزة غرابة لمجرد التفكير بدخولي الى هذا المكان ,,
و لكن هناك ثمة شيء ما بداخلي لم افقه تفسيره . .
يدفعني لتحدي جميع مخاوفي و مواجهتي لهذا الموقف التي وضعت امري فيه
فلو كنت بكامل قواي العقلية ,, لما اتيت إلى هنا بتاتا ,, و لا حتى التفكير بالنظر اليه ,,
أو همني معرفة ما يضمه من اسرار ,,
مشيت بخطوات ثابته نحو ما يسميهـ بعضهم بـ [ البيت المهجور ] !
كان المكان شديد الظلمة ، و لا يكاد يخلو من تلك الاصوات المرعبة
و التي كانت سببها رياح تعصف بشدة في تلك الليلة ، تبشر بقدوم امطار غزيرة ,,
فاجزمت في داخلي بانها قد تنهي ما بقي من هذا البيت المتهالك ,,
انتابني شعور من الفرح ، لم استطع تفسيره ، فالموقف الذي انا به الآن ,,
يجدر به ان يجبرني على آخذ الحيطة و الحذر من المجهول الذي ينتظرني !!
و لكن استطيع التكهن بانه ربما تكون آخر زيارتي لهذا المكان
لان العاصفة التي بدات الآن لا تبشر بخيـــر قط ,,
مما جعلني اثق بانها لن تبقي هذا المكان كما اراه الان
بل ستقلبه راسا على عقب ، و سيصبح كالذي احرقته نيران الغفلة
و تركته رماد تنفضه الايام .. !
خطوت بقوة إلى ذلك المكان ، لعلي ان اشفي ظمئ احساسي الملتهب ,,
و اشبع جوع فضولي في كشف اسرار هذا المكان الغريب من نوعه الفريد في كونه
لا احد يرتاد اليه او اراد اعادة بناءهـ، و تاهيله للسكن ..
شتت نظراتي الناعسة بين جنبات هذا البناء القديم ، بدى و كانه حمل الكثير
من الذكريات الجميلة ، فها هنا يوجد بئر ماء للشرب و هناك قفص صغير ,,
يبدوا بان اهل هذا المكان كانوا يحبون تربية الحيوانات و الحياة الريفية القديمة
لانه كل شيء بداخله عبارة عن حويجيات قديمة لا تستخدم هذه الأيام ,,
و بينما انا كذلك ,, كنت و قد قررت الرجوع إلى المنزل ’’ لان النعاس
قد بدى يرمى بحمولته على جسدي المعتب من عبء اعمالي اليومية ,,
لفت نظري وجود ارجوحه صغيره ، معلقة على شجرة ضخمه ,,
توحي بانها اساس هذه الدار و لكنها الان شبه ميته ,,
اقتربت منها لاتمعن فيها اكثر و اكثر ,, و لكن ما ادهشني فيها
انها لازالت تثمر الوريقات الخضراء و تزهر ببعض البراعم الصغيرة ,,
فزارني طيف الذاكرة بأحاديث كثيرة انسابت عبر طبلة اذني حول هذا المكان بالذات
فكم كانوا يحذروننا من الدخول إليه او من الاقتراب منه ،
لان هناك وحش من الجان لا يعرف معنى الرحمة ’’
يقتل كل من يقع على يديه، بصورة اجرامية شنيعه ,,
و كم من اناس راحوا ضحيه جبروته و قوته و قسوته التي فاقت وصف الخيال ,,
و ان هذا المكان لا تزرع فيه شجرة ، و لا تنبت فيه زهرة ,,
فاحترت في التناقض بين الامرين ،
كيف اركب هذا على ذاك ,, كلام قديم و قول عديم
و انا ارى امامي هذه الشجرة الكبيرة ،
و التي تثبت بانها كانت موجودة منذ سنين عدة ,,
اغمضت عيناي ,, لاعود إلى الواقع الذي به انا الآن
فقررت الدخول بعزم و اصرار
لاخوض المغامرة ، لعلي ان اجد ما يجيب عن اسئلتي المتخبطة و العليلة ,,
عدت ادراجي إلى ذلك الباب المنحور ، لا تعمق أكثر في هذا المجهول ،
و لانهي ما بداته بسرعة ، و اريح عقلي من رهبة الضياع الذي احسست به
دخلت و توكلت على الرحمن ، فشعرت بانقباض قلبي بدرجة كبيرة
و لكنني تجاهلت هذا الامر ، فهمي الوحيد
هو كشف اسرار و خفايا هذا المنزل حتى لو حفر قبري هنا ،
فرغم ردائة هذا المكان الا ان به لمسات جميلة لازال يحتفظ بها ..
ازادت الرياح شدة رغم قوتها السابقة ، فازداد صوت عويل الاشجار ،
و هزيم الرعود يزلزل زوايا المكان ، ليعرب عما يكنه هذا اليوم من الاخطار ,,
لا تحلمي ايتها الاصوات المرعبة بانك ستثنيني عما افعله الآن / لن أعود ،
بل ساستمر بالتوغل في هذا المكان رغم انف تلك التحذيرات
التي بت اسمعها منذ نعومة اظافري ، و انا على يقين بانني قادر
على مواجهه المزيد من المفاجآت المنتظرة ,,
فدفعت بيدي ستارة حمراء صغيرة تغطي غرفة بيضاء منيرة
فرايت هناك طفله كسيرة ، كانها كانت في هذا السجن أسيرة
افترشت ذالك الحصير، و الذي مال لونه إلى الاخضرار
فهو اشبه بالشي المصنوع من سعف النخيل
فرغم صغر حجمه الا انه كان يكفي جسدها النحيل
كانت تحتضن بيدها صور ذات براويز مكسوره ,,
و اوراق تكاد تمتلئ من كثر الاحبار عليها ,,
يبدو انها كانت تدون به ما يجول في خلجات صدرها
و ما يزور كيانها الذي اسرت به عن الجميع ,,
دنوت منها بخفه لكي لا تشعر بوجودي ,, و لا اشعرها بقربي ,,
و لكني دهشت بردة فعلها المفاجاة ’’ لم اتوقع بان خطواتي كانت ثقيلة
أو انها ستشعر بها و هي بذلك الحال الذي كانت عليه ,,
فوقفت امامي بقوة ، و وجهت الي نظرات التحدي مملوءه بكم هائل من الغموض
رغم براءتها ، الا انني شعرت بحجم ما تخفيه تلك العيون من أحداث عظيمة و قصص كظيمة ,.,
حاولت استدراك الموقف ، و طمئنة هذه الطفلة و اخبارها عن سبب تواجدي هنا
فقلت لها بانني عابر سبيل ، تهت في هذه القرية الكبيرة رغم انني ابنها
الا انني فضلت الكذب عن البوح بالحقيقة ، لاضمن التحدي لصالحي
فلربما اشفقت لحالي المغترب ، على الرغم من ان حالها يبكي الحجر
و ليس البشر فحسب ,.استكملت قصتي الكاذبة و استدللت ببعض الحكايات
التي قراتها في قصص الف ليه و ليله عن حالي و غربتي و ضياعي ,,
فاخذت تسالني و انا اجيب لها من خيالي المبهم و بقايا احلامي المشردة
حتى تبين لي انها استعطفت امري ، و انصتت لحالي المزيف
فانتهزت الفرصة لاقعد معها على اني اريد المبيت ليلة واحدة و من ثم العودة
إلى البحث عن طريقي الضال !!
لم تمانع تلك الصغيرة من القبول بطلبي الملفق لابرر سبب تواجدي في هذا المكان
بل رحبت بي بابتسامة شاحبه ، و تجاهلت وجودي
و ذهبت لتكمل ترتيب اوراقها المتناثرة حول جنبات تلك الغرفة المرممة .
فبقيت اتابعها و هي تمشي بتعب و الوهن واضح على جسمها فملامح وجهها
اوحت لي بانها لم تتجاوز السابعة من عمرها
و لكنها تبين لي بتحركاتها الثقيلة، كانها عجوز في عقدها السابع
ارهقها العمر و شاخ بها الزمن ..
احسست بالبرد الشديد يكوي جسدي والنعاس بدا يغزوني
بقوة فانا لم انم البارحة الا نصف ساعة من الليل ,,
بعد تلك الحادثة التي مررت بها ، فقررت ان اسالها
عن مصدر يدفئها في هذا الجو البارد .,,
ردت عليه بابتسامة اخرى تنسخ التي قبلها ،
مما ارغمني على السكوت من الاستمرار فالحديث ,,
مرت عشر دقائق إلى ان انتهت الطفلة من ترتيب حاجياتها المرتمية على الارض ،
و بعدها عادت لتقعد على ذلك البساط العتيق ، فاخذت تناظر المكان بهدوء عجيب
و من ثم قامت بتوجيه نظراتها لي بصورة غريبة ، فارتسمت الابتسامة على محياها للمرة الثالثة ،
لا ادري مالذي دفعني حينها للسؤال عن تلك الشجرة الكبيرة الموجودة في فناء المنزل ، و لكنني
لم انتظر اجابتها بل كنت اريد انا ارى ابتسامتها للمرة الرابعة ، فكانت تلك الابتسامه مختلفة تماماً كل
عن الابتسامات التي رايتها في حياتي ، ففاجاتني تلك الاجابة و اذهلني ذلك الصوت الجميل المنساب
كالنسمات الدافئة و الالحان العذبة ، لتسقي اولى تساؤلاتي حول هذا المكان ,, ولم تخذلني بابتسامها
الشبيه بما قبلها ,.
فقالت : إن تلك شجرة التي سالت عنها لا تقدر بثمن ، ولدت و انا بحضنها ،
ارتشفت معاني الحب و الحنان منها ، و تعلمت معاني الانسانية و العطاء بقربها ، كانت امي
و ابي و معلمتي ، اعلم بانك تستغرب من حالي هذا ، و اعلم انك ستحسبني نفر من الجان
و لكنني بشر ، حكم عليه القدر ، بالمكوث هنا و الاختباء عن دقات الخطر ، بسبب غلطة عمر ,,
لا احد يعلم بحالي و لا احد يجترؤ على الاقتراب من هذا المكان ، لانه كما ترى غير ماهول للسكن ،
تتطاول الكثير من الاحاديث حوله و لكن تعجبني مقولاتهم لانها ترجع لذاتهم ،
و تبعدهم عني ,, فاعلم انهم لن يزيدوني الا هما فوق همي ، و جرحا فوق جرحي
و يصفوني باللقيطة و انا لست كذلك ,,
كانت تقوم بحالي جدتي العجوز فهي الوحيدة التي شعرت بي و قومت ذاتي ، و كافحت لابقى إلى الان
على قيد الحياة ، كانت تعلمني القراءة و فنون الحساب ، احببت الغناء معها و كذلك ترتيل الايات ،
فقدت ابي و ماتت امي بعد ولادتي بـ سبعة ايام لشدة الحمى التي زارتها منذ ساعة ولادتي ،
فلم نكن نملك قيمة الدواء الذي يستطيع ان يجلب الشفاء لها او ان يبقيها معى إلى وقت اطول ،
حرمت من حضنها و حنانها ، و لكن جدتي لم تقصر معي ، فكانت تحلب البقرة و ترضعني منها ،
و بعد سنوات ماتت تلك البقرة الحلوب ، بمرض عجزنا علاجة ، فبقيت لنا تلك الشجرة و التي
ترويها الامطار كل سنة فتثمر لنا من خيرها لنغذي به اجسامنا و نشبع بطوننا الجائعة ، و كان
ذلك البئر الصغير السبيل الوحيد لنروي به عطشنا و جفاف السنتنا .
مرت الايام و خانتني الازمان مرة اخرى ، ففقدت من كان لي قلبي و روحي و حضني و كل ذاتي ،
فقدت جدتي سكينة فاصبحت بدونها يتيمة ، احاول الاستمرار إلى ان تحين ساعة وفاتي و التحق بالركب الجليل ،
فاستبشرت بجفاف الامطار ، و توقف الشجرة عن الاثمار ، لا اعلم ما هو السبب و لكنني كنت اسمع جدتي تقول لي
دائما ، بانه سبب حدوث هذه الاخطار هو ابتعاد الناس عن مصادقة الاخيار و الشروع دائما بعمل الاشرار ,,
فكنت لا استطيع ان آكل منها الا ثمرة واحدة كل اسبوع ، اقسمها إلى 5 ايام و ابقى يومين من دون طعام ،
و ها هي ذا طالتنا سنين عجاف ، اصابت شجرتي من الجفاف ، فاصبحت لا تثمر الا اليباس ، فلم اجد ما يسد جوعي
او يقويني على الاستمرار في هذه الحياة ، فانا منذ اسبوع لم اذق لقمة واحدة ، و كما تراني الان نحل جسمي ،
و انحنى عودي ، فصرت لا اقوى على الحركة ، فعرفت بقرب اجلي و ان لقائي بربي و اهلي سيحين
بعد سويعات قليلة ’ و بدأت بفرز ذكرياتي للمرة الاخيرة ،
و رتبت غرفتي الصغيرة ، و لكنني لن اخفي عليك بانني تفاجات بوجود احد غير جدتي - رحمها الله –
في هذا المكان ، فالكل يهرب منه و الكل يرمي باخطاءه عليه ,,
لم تنهي الطفلة كلماتها ، فشعرت بان لديها الكثير لتسرده ، ولكن سقوطها المفاجئ على الارض ارغمها
على الصمت ، و عيونها المغلقة توحي لي بانها فارقت الحياة ، فنهظت بسرعة من على مكاني ،
و حملت الطفلة بين يدي ,, فشعرت بحرارتها العالية و النار تاكل جسمها الصغير المرهق ، حاولت ايقاظها
و لكن دون جدوى فهي الان لا تسمع و لا تحرك ساكناً ، اسرعت بحملها إلى اقرب طبيب لكي يعالجها ،
او يكون سببا لشفائها ، فطرقت ابواب الطب كلها و لكن لا مجيب في هذه القرية ، فطبيب يغط في نوم عميق ،
و طبيب يريد بعض الثبوتات الرسمية لهذه الطفلة ، و أخر لا يستقبل حالات جديدة ,,
مشيت حتى انهكني التعب ، فلم اعد اقوى على السير اكثر ، فلازلت اسمع انفاسها المضطربة ،
و لازالت الروح متمسكة بذلك الجسد الصغير ، فتمنيت لو كانت الحمى مادة صلبة لاقتلعها منها ,,
ظلت الحمى فازدياد مستمر ,, و الحالة تشتد سوءا
قلت الحيلة و ضاقت بي الوسيلة فانا لا اقوى على المسير ،
فاصبحت الطفلة تتنفس بقوة تكاد تخرج الروح منها ,,
ليس لدي حل سوى العودة إلى البيت ، صحيح انني لا امتلك الدواء اللازم ، و لكنني استطيع ان
امنحها القليل من الدفء ، و بعض الكمادات التي سوف تخفف من هول تلك النيران التي غزتها ’’
اخذت اهرول و اهرول باقصى ما بقي لدى من قوة إلى ان وصل بي الحال امام منزلي المتواضع ,,
ظننت انني احلم و لكنني اسرعت فالدخول اليه حتى اعمل ما يجب عليه فعله لهذه الطفلة المسكينة ,,
و بينما كنت انوي وضعها على الكرسي الموجود في مجلس الضيوف ، احسست بزيادة انفاسها
و انتفاض اطرافها بصورة ملفته ، لم استطع تركها فضممتها لصدري أكثر و حاولت تهدئتها ، لعلها شعرت بالخوف
من المكان الذي اتيت بها اليه ، فاحسست بقوة دقات قلبها و سرعة نبضاته ,, فتحت عينيها فنظرت الي
نظرة الم اكتست ملامحها الطفولية ، و نظرت اليها نظرات الشفقة و الرحمة لما آل إليها حالها ، فحاولت طمئنتها
بانها في ايدي امينه ، فابتسمت لي للمرة الخامسة ، و اخذت تتمتم بكلمات عجزت على فهمها او ترجمه احرفها
الصماء ,. فانتفضت نفضة كبيرة ، أنهت بقايا هذه الاحداث المثيرة ، فانطفات الانفاس ، و سكن الجسد ..
فكانت تلك هي ابتسامتها الاخيره . .
بدات مراسيم العزاء ، فدفنت تلك الطفلة بجانب شجرتها بالفناء ،
لعلها ارادت ذلك قبل الانتهاء ,, فادركت بان كلام الناس كان مجرد هراء
لو كنا نعلم بحقيقة الامور لما وجدنا اناس قاست ما تقاسي من العناء ’’
فهذا هو حال اولئك الاشقياء ، يقتلون / يظلمون / يبيدون
فلم يدركوا إلى الآن انهم جماعة من الاغبياء ,, يتبعهم الكثير من السفهاء !
طفلتي العزيزة ، رغم مر الالم الذي عانيتيه ، و رغم قساوة الدهر الذي جاريتيه
إلا انك اهديتيني درسًا جديداً في هذه الحياة ,,
فباتت اورقة الذكرى تسطر على جنباتها ما تبقى من هذه القصة المنهكة ,,
و التي لازالت تسرد لنا من احداثها ما تسنى سردهـ ,,
تمت ~ THE END
21-3-2011م