السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
كي تكون أول الرابحين ( خطبة جمعة )
أمّا بعد :
فيا أمة الإسلام : نعرض اليوم على مسامعكم تجارة من التجارات ، وضرباً من ضروب الأسهم والمرابحات ..
فلقد تهيأت فُرَصٌ للمستثمرين ومجالٌ من مجالات الربح في الأسواق وَعَدِّ الأرباح الخيالية ، في سوقٍ هو أكبر وأعلى شئناً من المضاربة في أسواق البورصات العالمية لدى كُبريات الشركات والمؤسسات ..
وذلك ـ يا عباد الله ـ مما أفاء الله به علينا أمَّة الإسلام مِن الخير العميم .. إنّها تجارة تستحق منّا أن نتحدث عنها على منابرنا في خطبة الجمعة هذه ، نعم .. وأن نتسابق عليها وأن نتزاحم على الأبواب بكل ما نستطيع لجمع أكبر عَدَدٍ من الأسهم ..
أوَلَسنا مِن أمّة الإسلام ..؟! بلى .. وهذه التجارة هي لأهل الإسلام والإيمان .. كبيراً كان أم صغيراً ، ذكراً أم أنثى .. فإلى هذه التجارة وإلى طريقة المساهمة فيها ؛ فإني أراكم قد تلهفتم لمعرفتها .. وتاقت نفوسكم لسماعها ..
يقول الرَّبُ تبارك وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) ) الصف .
إي والله إنها لَهِيَ بحقٍ نِعمَ التجارة .. وَلتسقط جميع تجارات الدنيا وكنوزها الزائلة ، إنه عَرضٌ رباني ، إنها التجارة مع الله وحسب .. ( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) ) فاطر .
فيا لها من تجارةٍ أهلها هم الرابحون حقاً ، لقد نزلت هذه التجارة على أسواق المؤمنين فطاشت بها جميع السِّلع وبارت ، لقد تعلّق بها الصالحون من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم وتسابقوا وتسارعوا فربحوا ربحاً عظيماً ..
( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) ) الأحزاب .. وما لهم ألاَّ يربحون وقد باعوا نفوسهم رخيصة والمشتري منهم هو الله جلَّ جلاله : ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) ) التوبة .
فما أعظمها مِن تجارة ، وما أعظمه من فوز نُرَبِّي أنفسنا وأهلينا عليه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه عليها ، حيث كان يعلقهم بالآخرة وما فيها ويُزَهِّدهم في الدنيا وحُطامها ، فمما كان يقوله في هذا الأمر : ( مَن يشتري بئر روما وله الجنة ) ، ويقول : ( من يجهِّزُ جيش العسرة وله الجنة ) ، ويقول في أحد : ( مَن يردُّهم عنَّا وله الجنّة )
وهو القائل : ( كم من عِذق رداح لأبي الدحداح في الجنة ) وقال : ( ربح البيع أبا يحي ) وغير ذلك كثير مبيناً لهم أنَّ ما عند الله خير وأبقى ، يقيناً بقول الله تعالى : ( قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [11] ) الجمعة.
فكانوا نِعمَ المستجيبين والسبّاقين للتجارة مع الله ـ جلَّ وتقدّس ـ وكانوا منيبين مستغفرين رُكّعاً سُجّداً لله : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) ) النور.
إنّها التجارة مع الله.. وإنّهم الرجال المؤمنون الصادقون الذين لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة .. اسمع يا من شغلته التجارة عن ذكر الله وعن الصلاة ، اسمع يا من وقف على أبواب البنوك والصلاة تُقام .. أشغلته أسهم دُنيوية عن ذكر الله وعن الصلاة .. وكيف ولو فُتِحَت له الدنيا ..!؟
أين نحن من قول الله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) ) .
وأين نحن من كلام النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم كما جاء عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تعس عبد الدينار ، وعبد الدرهم ، وعبد الخميصة ، إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش ، طوبى لعبد آخذٌ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعثٌ رأسه ، مغبرةٌ قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع ) .
أيها المسلمون عباد الله .. تلك هي التجارة مع الله ، وأمَّا شأن التجارة الدنيوية فإنه بلا شك ولا مِرَاء أنَّ المال هو قِوام الحياة ، والحث على تحصيله وحُسن تدبيره مِن أولويات تعاليم الإسلام ، وَمُبَيِّـنَةً ضرورة كسبه من الحلال ، وحُسنُ التصرُّف في الإنفاق ؛ وذلك لِتُقضى به الحقوق ، وتوأدَّى الواجبات ، وتُصان حدود الإسلام من عاديات الطغيان .. ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [32] الأعراف .
فالمؤمن هو أولى بذلك من غيره حتى لا يكون كلاً على الآخرين ، لا عمل له ولا كسب ، لأن الإسلام لا يعرف المؤمن إلا كادحاً عاملاً ، مؤدياً دوره في الحياة آخذاً منها معطياً لها كما يريد المولى جل جلاله : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [15] ) الملك .
وتأمَّلوا ـ يا رعاكم الله ـ إلى النبي صالح عليه السلام وهو يبين حقيقة من الحقائق وسنة من سنن الله الكونية في الحياة واستعمار الأرض في قوله تعالى : ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ [61] ) هود
ولكن مهلاً يا رفاق.. على رسلكم ؛ فإنَّ المال في الحقيقة لا يُطلب لذاته في هذه الدنيا ، وإنَّما يُطلب عادةً لما يتضمنه من مصالح ، ولما يحققه من منافع ، إنَّه في حدِّ ذاته وسيلة لا غاية ، والوسيلة هذه قد تُحمد أو تُعاب ، وتَصدُقُ هذه النظرة وتتضح في قوله سبحانه وتعالى لقارون : ( .. وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [77] ) القصص.
فالمال فتنة .. وقليلٌ مَن ينجو منها.. جاء عن كعب بن عياض ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنَّ لكل أمّة فتنة ، وفتنة أمّتي المال ) رواه الترمذي وقال : حسن صحيح.
فاعلموا ـ عباد الله ـ أنّه ما سكن المال في قلب إنسان إلا تعلَّقَ بحطام الدنيا وركن إليها ، وآثر الفاني على الباقي ، ولذلك كان حبيبكم صلى الله عليه وسلم يُحَذِرُ أصحابه أشدَّ تحذير مِن الدنيا ـ كما أسلفنا ـ حتى زهِدوا فيها بعد أن علموا عِلمَ يقين أنّها فانية وليست بدار قرار ؛ وما كان منهم إلا أن تَزَوَّدوا منها كزاد الراكب وما بقي عَمَروا به الآخرة ، لأنهم أمعنوا النظر وتفكَّروا في أمر الآخرة فارتحلوا إليها بقلوبهم قبل أن ترحل إليها أبدانهم .
إنَّ لله عبــاداً فُطَـنَـا طلّقوا الدنيا وخافوا الفِتنا
نظروا إليها فلمَّا علموا أنّها ليست لحـيٍّ وطـنا
جعـلـوها لجة واتخـذوا صالح الأعمـال سُـفُـنا
وبمثل هذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلمَ عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ حين قال له : ( كُـن في الدنيا كأنّك غريبٌ أو عابر سبيل ) أخرجه البخاري .. فامتَـثَلَ ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ هذه الوصية قولاً وعملاً ، فأمَّا القول فقد كان يقول : أذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك .
وأمَّا الفعل : فقد كان ـ رضي الله عنه ـ على جانبٍ كبير من الزُّهد فيها ، والقناعة منها باليسير الذي يُقيم صلبه ويستر بدنه ، وما سوى ذلك يُقدّمه لـغَدِه ..
أيها الإخوة الأكارم : ولقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يخاف على نفسه وعلى أمته من بسط الدنيا ، فقد أخرج البخاري عن عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ قال : صـلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أُحـد بعد ثمانِ سنين كالمودع للأحياء والأموات ، ثم طلع المنبر فقال : ( إني بين أيديكم فَرَط ، وأنا عليكم شهيد ، وإنَّ موعدكم الحوض ، وإني لأنظرُ إليه مِن مقامي هذا ، وإني لست أخشى عليكم أن تُشركوا ؛ ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها ) الجامع الصحيح.
ومثله لما قَدِمَ أبو عبيدة بمال البحرين ، وذلك مِن حديث عَمرو بن عوف الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ كما عند البخاري ومسلم ، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافت صلاة الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما صلى بهم الفجر انصرف ، فتعرَّضوا له ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ، وقال : ( أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء ) . قالوا : أجل يا رسول الله ، قال : ( فأبشروا وأمِّلوا ما يسرُّكم ، فوالله لا الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخشى عليكم أن تبسَطَ عليكم الدنيا ، كما بُسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، وتهلككم كما أهلكتهم) . وفي رواية : وتلهيكم كما ألهتهم "
إخوة الإيمان .. أمة القرآن : نبيكم .. حبيبكم .. إمامكم وقُدوَتُكم .. يخاف عليكم .. يخاف أن تبسط علينا الدنيا فتتَنافسُ عليها نفوسنا ، وتتولّد الأحقاد بيننا ، وتُشغلنا في دنيانا وتُهلِكنا حتى نخسر أخرانا .. ألا ذلك هو الخسران المبين.
وهكذا ـ أيها المؤمنون ـ لو تأمّلنا في تأريخ كثير من الدول الإسلامية لوجدنا أنَّ مِن أسباب سقوطها وتسلط الأعداء عليها ؛ كان هو بسبب التنافس على الدنيا ..!!
ومصداق ذلك ما رواه ابن عمر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا ضن الناس بالدينار و الدرهم ، و تبايعوا بالعينة ، و تبعوا أذناب البقر ، و تركوا الجهاد في سبيل الله ، أدخل الله تعالى عليهم ذلا ، لا يرفعه عنهم ؛ حتى يراجعوا دينهم ) صحيح الجامع .
إذاً علينا ـ إخوة الإيمان ـ أن نَعلَمَ مما سبق بيان حقارة الدنيا ، وليس المعنى أن نترك التجارة الدنيوية ونبقى جياعاً عارين محتاجين ، بل معناه أن لا نجعلها مقصداً كما جعلها الكفار ، بل نجعل الدنيا وما فيها وسيلةً إلى تلك الحياة الأبدية ، فنكون من الفريق الذي يحب المال لأجل الآخرة ، وأن نجعل غاية هذه الأموال ومنتهاها في أيدينا ، وأن لا نجعل لها مسكناً في قلوبنا ..
وعلى هذا المبدأ كان سلف الأمّة ـ رضي الله عنهم ـ حين اتخذوا الدنيا مطية للآخرة فسادوا بها أهل الدنيا ونالوا العزة ، ولمَّا تخلَّفنا عنهم في هذا المبدأ ، وجعلنا المال هو المقصد ركنّا إلى الدنيا وأحببنا الحياة ولذائذها فكان مصيرنا أن ضُربنا بالذل ..
بارك الله لي ولكم ..
الخطبة الثانية :
أما بعد .. فيا عباد الله : جاء عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : جَلَسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ، وجلسنا حوله ، فقال : ( إنَّ مما أخاف عليكم مِن بعدي ؛ ما يفتح عليكم مِن زهرة الدنيا وزينتها ) متفق عليه.
وعنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنَّ الدنيا حُلوة خَضِرة ، وإنَّ الله تعالى مُستَخلفُكم فيها ، فينظُرُ كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ) مسلم .
وها هو صلى الله عليه وسلم يُخبرُ عن حقيقة الدنيا وخطورتها ، وأنَّها ليست إلا خطراً يُهَدِّد العبد المؤمن في حياته ، ثم يخبرنا أيضاً عن عظيم شأن الكفاف والزهد في الدنيا بقوله : ( مَن أصبح منكم آمناً في سربه ، معافى في جسده ، عنده قوت يومه ، فكأنّما حيزت له الدنيا بحذافيرها ) رواه الترمذي وقال حديث حسن .
بل كانت نضرته للدنيا ـ بأبي هو وأمي ـ صلى الله عليه وسلم أعجب من ذلك كلِّه فكما جاء عن ابن عباس : أنَّ نبيكم صلى الله عليه وسلم قال : ( ما لي و للدنيا ، و ما للدنيا و ما لي ! و الذي نفسي بيده ، ما مثلي و مثل الدنيا ، إلا كراكب سار في يوم صائف ، فاستظل تحت شجرة ساعة من النهار ، ثم راح و تركها ) صحيح الجامع .
فكانت تقول أمكم عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ( توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد ، إلا شطرٌ من شعيرٍ في رفٍ لي ، فأكلت منه حتى طال علي ، فكلته ففني ) متفق عليه .
يا أمة الإسلام هكذا كانت نظرة نبيكم إلى حقيقة الدنيا ، وهكذا يجب أن ننظر إليها نحن ..
ما شِقوةُ المرءِ في فقرٍ يعيشُ به ولا سعادته يوماً بإكثارِِ
إنَّ الشقيَّ الذي في النار منزله والفوز فوزُ الذي ينجو مِن النارِ
بقلم : جمال بن عبد الله العُمري الزهراني
المصدر : ياله من دين
منقول
المصد الرئيسي
بسم الله الرحمن الرحيم
كي تكون أول الرابحين ( خطبة جمعة )
أمّا بعد :
فيا أمة الإسلام : نعرض اليوم على مسامعكم تجارة من التجارات ، وضرباً من ضروب الأسهم والمرابحات ..
فلقد تهيأت فُرَصٌ للمستثمرين ومجالٌ من مجالات الربح في الأسواق وَعَدِّ الأرباح الخيالية ، في سوقٍ هو أكبر وأعلى شئناً من المضاربة في أسواق البورصات العالمية لدى كُبريات الشركات والمؤسسات ..
وذلك ـ يا عباد الله ـ مما أفاء الله به علينا أمَّة الإسلام مِن الخير العميم .. إنّها تجارة تستحق منّا أن نتحدث عنها على منابرنا في خطبة الجمعة هذه ، نعم .. وأن نتسابق عليها وأن نتزاحم على الأبواب بكل ما نستطيع لجمع أكبر عَدَدٍ من الأسهم ..
أوَلَسنا مِن أمّة الإسلام ..؟! بلى .. وهذه التجارة هي لأهل الإسلام والإيمان .. كبيراً كان أم صغيراً ، ذكراً أم أنثى .. فإلى هذه التجارة وإلى طريقة المساهمة فيها ؛ فإني أراكم قد تلهفتم لمعرفتها .. وتاقت نفوسكم لسماعها ..
يقول الرَّبُ تبارك وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) ) الصف .
إي والله إنها لَهِيَ بحقٍ نِعمَ التجارة .. وَلتسقط جميع تجارات الدنيا وكنوزها الزائلة ، إنه عَرضٌ رباني ، إنها التجارة مع الله وحسب .. ( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) ) فاطر .
فيا لها من تجارةٍ أهلها هم الرابحون حقاً ، لقد نزلت هذه التجارة على أسواق المؤمنين فطاشت بها جميع السِّلع وبارت ، لقد تعلّق بها الصالحون من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم وتسابقوا وتسارعوا فربحوا ربحاً عظيماً ..
( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) ) الأحزاب .. وما لهم ألاَّ يربحون وقد باعوا نفوسهم رخيصة والمشتري منهم هو الله جلَّ جلاله : ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) ) التوبة .
فما أعظمها مِن تجارة ، وما أعظمه من فوز نُرَبِّي أنفسنا وأهلينا عليه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه عليها ، حيث كان يعلقهم بالآخرة وما فيها ويُزَهِّدهم في الدنيا وحُطامها ، فمما كان يقوله في هذا الأمر : ( مَن يشتري بئر روما وله الجنة ) ، ويقول : ( من يجهِّزُ جيش العسرة وله الجنة ) ، ويقول في أحد : ( مَن يردُّهم عنَّا وله الجنّة )
وهو القائل : ( كم من عِذق رداح لأبي الدحداح في الجنة ) وقال : ( ربح البيع أبا يحي ) وغير ذلك كثير مبيناً لهم أنَّ ما عند الله خير وأبقى ، يقيناً بقول الله تعالى : ( قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [11] ) الجمعة.
فكانوا نِعمَ المستجيبين والسبّاقين للتجارة مع الله ـ جلَّ وتقدّس ـ وكانوا منيبين مستغفرين رُكّعاً سُجّداً لله : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) ) النور.
إنّها التجارة مع الله.. وإنّهم الرجال المؤمنون الصادقون الذين لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة .. اسمع يا من شغلته التجارة عن ذكر الله وعن الصلاة ، اسمع يا من وقف على أبواب البنوك والصلاة تُقام .. أشغلته أسهم دُنيوية عن ذكر الله وعن الصلاة .. وكيف ولو فُتِحَت له الدنيا ..!؟
أين نحن من قول الله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) ) .
وأين نحن من كلام النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم كما جاء عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تعس عبد الدينار ، وعبد الدرهم ، وعبد الخميصة ، إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش ، طوبى لعبد آخذٌ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعثٌ رأسه ، مغبرةٌ قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع ) .
أيها المسلمون عباد الله .. تلك هي التجارة مع الله ، وأمَّا شأن التجارة الدنيوية فإنه بلا شك ولا مِرَاء أنَّ المال هو قِوام الحياة ، والحث على تحصيله وحُسن تدبيره مِن أولويات تعاليم الإسلام ، وَمُبَيِّـنَةً ضرورة كسبه من الحلال ، وحُسنُ التصرُّف في الإنفاق ؛ وذلك لِتُقضى به الحقوق ، وتوأدَّى الواجبات ، وتُصان حدود الإسلام من عاديات الطغيان .. ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [32] الأعراف .
فالمؤمن هو أولى بذلك من غيره حتى لا يكون كلاً على الآخرين ، لا عمل له ولا كسب ، لأن الإسلام لا يعرف المؤمن إلا كادحاً عاملاً ، مؤدياً دوره في الحياة آخذاً منها معطياً لها كما يريد المولى جل جلاله : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [15] ) الملك .
وتأمَّلوا ـ يا رعاكم الله ـ إلى النبي صالح عليه السلام وهو يبين حقيقة من الحقائق وسنة من سنن الله الكونية في الحياة واستعمار الأرض في قوله تعالى : ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ [61] ) هود
ولكن مهلاً يا رفاق.. على رسلكم ؛ فإنَّ المال في الحقيقة لا يُطلب لذاته في هذه الدنيا ، وإنَّما يُطلب عادةً لما يتضمنه من مصالح ، ولما يحققه من منافع ، إنَّه في حدِّ ذاته وسيلة لا غاية ، والوسيلة هذه قد تُحمد أو تُعاب ، وتَصدُقُ هذه النظرة وتتضح في قوله سبحانه وتعالى لقارون : ( .. وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [77] ) القصص.
فالمال فتنة .. وقليلٌ مَن ينجو منها.. جاء عن كعب بن عياض ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنَّ لكل أمّة فتنة ، وفتنة أمّتي المال ) رواه الترمذي وقال : حسن صحيح.
فاعلموا ـ عباد الله ـ أنّه ما سكن المال في قلب إنسان إلا تعلَّقَ بحطام الدنيا وركن إليها ، وآثر الفاني على الباقي ، ولذلك كان حبيبكم صلى الله عليه وسلم يُحَذِرُ أصحابه أشدَّ تحذير مِن الدنيا ـ كما أسلفنا ـ حتى زهِدوا فيها بعد أن علموا عِلمَ يقين أنّها فانية وليست بدار قرار ؛ وما كان منهم إلا أن تَزَوَّدوا منها كزاد الراكب وما بقي عَمَروا به الآخرة ، لأنهم أمعنوا النظر وتفكَّروا في أمر الآخرة فارتحلوا إليها بقلوبهم قبل أن ترحل إليها أبدانهم .
إنَّ لله عبــاداً فُطَـنَـا طلّقوا الدنيا وخافوا الفِتنا
نظروا إليها فلمَّا علموا أنّها ليست لحـيٍّ وطـنا
جعـلـوها لجة واتخـذوا صالح الأعمـال سُـفُـنا
وبمثل هذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلمَ عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ حين قال له : ( كُـن في الدنيا كأنّك غريبٌ أو عابر سبيل ) أخرجه البخاري .. فامتَـثَلَ ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ هذه الوصية قولاً وعملاً ، فأمَّا القول فقد كان يقول : أذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك .
وأمَّا الفعل : فقد كان ـ رضي الله عنه ـ على جانبٍ كبير من الزُّهد فيها ، والقناعة منها باليسير الذي يُقيم صلبه ويستر بدنه ، وما سوى ذلك يُقدّمه لـغَدِه ..
أيها الإخوة الأكارم : ولقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يخاف على نفسه وعلى أمته من بسط الدنيا ، فقد أخرج البخاري عن عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ قال : صـلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أُحـد بعد ثمانِ سنين كالمودع للأحياء والأموات ، ثم طلع المنبر فقال : ( إني بين أيديكم فَرَط ، وأنا عليكم شهيد ، وإنَّ موعدكم الحوض ، وإني لأنظرُ إليه مِن مقامي هذا ، وإني لست أخشى عليكم أن تُشركوا ؛ ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها ) الجامع الصحيح.
ومثله لما قَدِمَ أبو عبيدة بمال البحرين ، وذلك مِن حديث عَمرو بن عوف الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ كما عند البخاري ومسلم ، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافت صلاة الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما صلى بهم الفجر انصرف ، فتعرَّضوا له ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ، وقال : ( أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء ) . قالوا : أجل يا رسول الله ، قال : ( فأبشروا وأمِّلوا ما يسرُّكم ، فوالله لا الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخشى عليكم أن تبسَطَ عليكم الدنيا ، كما بُسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، وتهلككم كما أهلكتهم) . وفي رواية : وتلهيكم كما ألهتهم "
إخوة الإيمان .. أمة القرآن : نبيكم .. حبيبكم .. إمامكم وقُدوَتُكم .. يخاف عليكم .. يخاف أن تبسط علينا الدنيا فتتَنافسُ عليها نفوسنا ، وتتولّد الأحقاد بيننا ، وتُشغلنا في دنيانا وتُهلِكنا حتى نخسر أخرانا .. ألا ذلك هو الخسران المبين.
وهكذا ـ أيها المؤمنون ـ لو تأمّلنا في تأريخ كثير من الدول الإسلامية لوجدنا أنَّ مِن أسباب سقوطها وتسلط الأعداء عليها ؛ كان هو بسبب التنافس على الدنيا ..!!
ومصداق ذلك ما رواه ابن عمر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا ضن الناس بالدينار و الدرهم ، و تبايعوا بالعينة ، و تبعوا أذناب البقر ، و تركوا الجهاد في سبيل الله ، أدخل الله تعالى عليهم ذلا ، لا يرفعه عنهم ؛ حتى يراجعوا دينهم ) صحيح الجامع .
إذاً علينا ـ إخوة الإيمان ـ أن نَعلَمَ مما سبق بيان حقارة الدنيا ، وليس المعنى أن نترك التجارة الدنيوية ونبقى جياعاً عارين محتاجين ، بل معناه أن لا نجعلها مقصداً كما جعلها الكفار ، بل نجعل الدنيا وما فيها وسيلةً إلى تلك الحياة الأبدية ، فنكون من الفريق الذي يحب المال لأجل الآخرة ، وأن نجعل غاية هذه الأموال ومنتهاها في أيدينا ، وأن لا نجعل لها مسكناً في قلوبنا ..
وعلى هذا المبدأ كان سلف الأمّة ـ رضي الله عنهم ـ حين اتخذوا الدنيا مطية للآخرة فسادوا بها أهل الدنيا ونالوا العزة ، ولمَّا تخلَّفنا عنهم في هذا المبدأ ، وجعلنا المال هو المقصد ركنّا إلى الدنيا وأحببنا الحياة ولذائذها فكان مصيرنا أن ضُربنا بالذل ..
بارك الله لي ولكم ..
الخطبة الثانية :
أما بعد .. فيا عباد الله : جاء عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : جَلَسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ، وجلسنا حوله ، فقال : ( إنَّ مما أخاف عليكم مِن بعدي ؛ ما يفتح عليكم مِن زهرة الدنيا وزينتها ) متفق عليه.
وعنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنَّ الدنيا حُلوة خَضِرة ، وإنَّ الله تعالى مُستَخلفُكم فيها ، فينظُرُ كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ) مسلم .
وها هو صلى الله عليه وسلم يُخبرُ عن حقيقة الدنيا وخطورتها ، وأنَّها ليست إلا خطراً يُهَدِّد العبد المؤمن في حياته ، ثم يخبرنا أيضاً عن عظيم شأن الكفاف والزهد في الدنيا بقوله : ( مَن أصبح منكم آمناً في سربه ، معافى في جسده ، عنده قوت يومه ، فكأنّما حيزت له الدنيا بحذافيرها ) رواه الترمذي وقال حديث حسن .
بل كانت نضرته للدنيا ـ بأبي هو وأمي ـ صلى الله عليه وسلم أعجب من ذلك كلِّه فكما جاء عن ابن عباس : أنَّ نبيكم صلى الله عليه وسلم قال : ( ما لي و للدنيا ، و ما للدنيا و ما لي ! و الذي نفسي بيده ، ما مثلي و مثل الدنيا ، إلا كراكب سار في يوم صائف ، فاستظل تحت شجرة ساعة من النهار ، ثم راح و تركها ) صحيح الجامع .
فكانت تقول أمكم عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ( توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد ، إلا شطرٌ من شعيرٍ في رفٍ لي ، فأكلت منه حتى طال علي ، فكلته ففني ) متفق عليه .
يا أمة الإسلام هكذا كانت نظرة نبيكم إلى حقيقة الدنيا ، وهكذا يجب أن ننظر إليها نحن ..
ما شِقوةُ المرءِ في فقرٍ يعيشُ به ولا سعادته يوماً بإكثارِِ
إنَّ الشقيَّ الذي في النار منزله والفوز فوزُ الذي ينجو مِن النارِ
بقلم : جمال بن عبد الله العُمري الزهراني
المصدر : ياله من دين
منقول
المصد الرئيسي