رحآيل
¬°•| مُشْرِفة سابقة |•°¬
تَفريغ حَلقاتِ بَرنامَجِ «فِقْـهِ الصِّيـامِ»
-عَلى قَناةِ الأَثَرِ الفَضائِيَّةِ-
لِفَضيلَةِ الشَّيخِ عَلِيِّ بنِ حَسَنٍ الحَلبيِّ
-حَفِظَهُ اللهُ وَنَفَعَ بِهِ-
[الحلقة الأولى]
بِسمِ اللهِ الرَّحمَن الرَّحِيمِ
-عَلى قَناةِ الأَثَرِ الفَضائِيَّةِ-
لِفَضيلَةِ الشَّيخِ عَلِيِّ بنِ حَسَنٍ الحَلبيِّ
-حَفِظَهُ اللهُ وَنَفَعَ بِهِ-
[الحلقة الأولى]
بِسمِ اللهِ الرَّحمَن الرَّحِيمِ
إنَّ الحمْدَ للهِ، نَحمدُهُ، ونَستعينُه، ونَستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالنَّا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِي له، وأشهدُ أن لا إِلَه إلا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أما بعدُ:
فهذا لقاء يتجدَّد بالخيرِ -إن شاءَ اللهُ- في هذا الشَّهر المبارَك، في هذا الشَّهر العَظيم؛ شهر رَمضان المبارَك، نتناولُ في هذا البرنامج فقهَ وأحكامَ وفضائلَ الصِّيام، وما تمسُّ الحاجةُ إليه مِن أمورٍ يَنتفعُ بها المُسلِم -عامَّة-، والصَّائمُ -خاصَّة-.
فأسأل اللهَ -عزَّ وجلَّ- أن ينفعَ بِنا، وأن ينفعَ بما نُقدِّم؛ إنه -سُبحانَهُ- وليُّ ذلِك، والقادِر عَليهِ.
وأول ما نبتدئ به: نذكر معلوماتٍ عامَّة مهمَّة عن شهرِ رَمضان وعن شهرِ الصِّيام.
فأول ذلِك:
معنى كلمةِ " الصِّيام ":
يُقال: الصِّيام، ويُقال الصَّوم، والمَقصُود مِن الصِّيام -مِن النَّاحية اللُّغَوية- هو: الامتِناع؛ يُقَالَ: صام فُلان عن الكَلام؛ يعني: امتَنع عن الكَلام؛ كما في قَولِهِ -تَعالَى-فيما وَرد في كتابِه-عزَّ وجلَّ-: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26] ما علاقَة الصَّوم بعدم الكَلام؟ هو الامتِناع؛ فالصَّوم -ها هُنا- المَقصُود به الصَّوم في اللُّغة، وليس المَقصُود به الصَّوم القائم في الأذهَان بالمعنى الشَّرعي.
أما الصَّوم أو الصِّيام بالمعنى الشَّرعي: فهو الإِمسَاك والامتِناع عن المُفَطِّرات الَّتِي نهانا الله عنهَا وبين لها في كتابه أو على لِسَان رسوله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- أنها تنقض الصَّوم وتُبطله وتُفسده.
وهذا الامتِناع له أوقات، له بداية وله نهاية.
أما بدايته: فمِن طلوع الفَجر إلى غروب الشَّمس، وسيأتينا -في ذلِك- مزيد بيانٍ -إن شاءَ اللهُ-تَعالَى-.
نقطة أخرى: أن الصِّيام -أعني صِيام رَمضان- ركنٌ مِن أركان الإسلام، كما قَالَ النَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: " بُني الإسلامُ على خمسٍ: شهادةِ أن لا إِلَه إلا اللهُ، وأن محمدًا رسولُ الله، وإقامِ الصَّلاة، وإيتاءِ الزكاة، وصومِ رَمضان، وحجِّ البيتِ مَن استطاعَ إليه سبيلًا"، وهنالك رِواية فيها تقديمُ الحج على الصَّوم؛ وهذا إشارة أن الصَّوم ركن مِن أركان الإسلام، ومبنًى من مَبانيه العظام.
اتفق أهل السِّيَر والتَّاريخ أن الصِّيام فُرض على أمَّة الإسلام في السَّنة الثَّانية للهجرة.
وقَالَ الإِمام ابن القيم -رَحِمهُ اللهُ-: " توفي رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- وقد صام تسعةَ رَمضانات ".
وبمناسبة الجمع -جمع رَمضان؛ رَمضانات-: ذكر أئمة اللُّغة عدَّة جُموع لكلمة رَمضان؛ فقَالَوا: رَمضان، وقَالَوا: رَمضانات، وقَالَوا: رَمَضانُون، وقَالَوا: أرمُض، وقَالَوا: أرمِضَة، وقَالَوا: أرمِضَاء.
هذه بعضُ الجموع نذكُرها للفائدة لجَمع كلمة رَمضان -أو اسم (رمضان)- كما ذكر أهلُ اللُّغة في كتبهم وفي معاجمهم.
نقطة أخرى: أن الصِّيام -أعني: صيام الفَريضَة- مرَّ بمَراحل:
المرحلةُ الأولى: كان المفروض -فقط- صيام عاشُوراء، وهو اليَوم العاشر من شهر المحرم.
فوَرد في " صحيح البخاري": عن عائِشَة -رضيَ اللهُ-تَعالَى-عنهَا- قَالَت: كان رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- أمر بصِيام عاشُوراء، فلما فُرض رَمضان؛ كان مَن شاء صام، ومَن شاءَ أفطَر.
إذن قوله بالتخيير -في آخره-؛ دلَّ على أنه ليس على التَّخيير في أوله.
فأول ما فُرض عاشُوراء لم يكن فيه خيار، وكان مفروضًا، وكان هو اليَوم الواجب صَومُه مِن أيَّام العام، فلما فُرض رَمضان؛ جاء بديلًا لذلِك اليَوم، وبقي عاشُوراء مستحبًّا؛ بل عملًا فاضلًا؛ لكنه متعلِّق بالخيار؛ " مَن شاء صام، ومَن شاء أفطر ".
وأما الأمر الثَّاني -وهو المتعلق بالمرحلة الثَّانية مِن مراحل وجوب الصِّيام-؛ فهو: التَّخيير بين الصِّيام والفِدية.
أُمر بالصِّيام؛ لكن: لم يكنْ أمرًا حتمًا، كان من قدر على الصِّيام صام، ومَن لم يقدر؛ حينئذٍ يستطيع أن يفدي؛ بأن يقدم طعامًا للفقراء، أو المساكين؛ كما قَالَ -تَعالَى-: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] في هذا إشارة إلى أن الأمر متعلِّق بالخيريَّة {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} يعني: إذا فَدَيتم؛ فهذا خير، لكن: إذا صُمتُم؛ فهذا خير لكم وأفضل.
وذهب بعضُ أهل العِلم إلى أنَّ في الأمر ناسخًا ومنسوخًا ومتعلَّقات حُكميَّة، لا نريد أن نُطوِّل القولَ فيها، وأن نفصِّل الكَلام بِشأنها؛ فنحن خطَّتنا في هذا البرنامج الاختصار، وإعطاء الإخوة المشاهدين والأخوات المُشاهِداتت زُبَد مواضيع هذا الشَّهر الكريم؛ حتى يتواصَلوا فيها، ويتواصلوا معنا بشأنها؛ تفقُّهًا في دين الله، وتسهيلًا لأحكام الله -تَبارَك وتَعالَى-.
ثم جاء الحُكم الحازم بفرض شهر رَمضان على الإلزَّام وعلى التَّعيين، على كل قادِر؛ كما قَالَ -تَعالَى-: {فَمَنْ شَهِدَ منكُم الشَّهر فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] {فَلْيَصُمْهُ}: فِعل أمر، والأصْل في فعل الأمر أنه واجب.
أيضًا: لا بُد أن نذكر شيئًا حول كلمة (شهر رَمضان)؛ ما معنى (شهر)، وما معنى (رمضان).
ذكرنا ما معنى الصَّوم والصِّيام، ما معنى (شهر رمضان)؟
نحن -كما في كتاب الله- نقول: {شَهْرُ رَمضان الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرآن} [البقرة: 185] ونقول: (دخل شهر رَمضان).
ما معنى كلمة (شهر)؟ وما معنى كلمة (رَمضان)؟
(الشَّهر): من الشَّهرة والاشتِهار، وسمَّى العربُ الشَّهر شَهرًا لاشتهارِه، ولوقوف كثير من حاجاتهم ومعاملاتِهم وسلوكهم عَليهِ -سواء البيع والشراء، ومواعيد ذلِك، ومواعيد الأداء والوفاء والسَّداد، مواعيد الحج، مواعيد الصِّيام.. إلى آخر هذه الأمور-؛ فسُمِّي الشَّهر شهرًا مِن هذا الباب.
أما (رَمضان) فشهر رَمضان سمي بـ(رَمضان) لعدة وجوه أو لواحدٍ مِن الوجوه الَّتِي ذَكرها بعض أهل العِلم:
أولًا: يُقال: رَمَضَ يعني: اشتدت حرارة الشَّمس فأثرت على الرَّمل أو على الحصـى؛ لذلِك يُقال: (حر الرَّمضاء)؛ فالرَّمضاء هي الحرارة الشَّديدة الَّتِي تُصيب الأرض وما عَليهِا من حجارةٍ ومِن حصى ومِن رمل ومِن تراب وغير ذلِك.
ثم نقول: هذا أصل المعنى اللُّغَوي.
أمَّا السَّبب: فذَكَر فيه أهل اللُّغة وجهَين:
أما الوجه الأول: فذكروا أنه سُمي رَمضان؛ لأن الذُّنوب تُرمَض فيه رَمْضًا، ومِن معاني الرَّمَض أو الرَّمضاء: هو الاحتراق؛ أي: تُحرق الذُّنوب احتراقًا، ولا يَبقى منها شيء -لا في قليل، ولا في كثير-بإذن الله-تباركَ وتَعالى-، كما قَالَ النَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: " رَمضان إلى رَمضان كفَّارة لما بينهما ".
وأيضًا: قيل قول آخر: وهو أن أوَّل فرضِ رَمضان وافق زمَنَ حرٍّ.
معروف أن الشُّهور تتبدَّل بحسب العوامِل الجويَّة؛ يعني: رَمضان -في هذا العام- يأتينا -إذا أحيانا المولى -عزَّ وجلَّ- في موسِم حرارة، قبل بضع سَنوات كان يأتينا في موسِم بُرودة، وفي مَوسِم رِقَّة ولُطف، ونحن نَستعين بالله -عزَّ وجلَّ- على القِيام بهذا الواجِب الذي أمرنا الله -تَعالَى- به، وأمرنا به رسولهُ الكريم -صلى الله عَليهِ، وعلى آلِه، وصحبِه-أجمعين-.
فوافق -في الزَّمان الأول- فرضُ هذا الشَّهر زمن حرٍّ؛ فسُمي رَمضان؛ لموافقته هذا الأمر.
هذان وجهان يَذكُرهما أهلُ العِلم في باب تسمية رَمضان.
من باب الفائدة الزَّائدة؛ أقول:
روى البيهقي وغيره أن النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- قَالَ: " لا تَقولوا رَمضان؛ فإن رَمضان اسم مِن أسماء الله، ولكن قُولوا: شهر رَمضان " وهذا حديثٌ ضعيف جدًّا؛ بل (موضوع)، حكم عَليهِ الإِمام ابن الجوزي في كتابه " الموضوعات "؛ بأنه حديث موضوع؛ أي: مكذوب.
فعندما نقول: (هذا حديث موضوع)؛ أي: مكذوب، أي كذِب وافتراء على النَّبي -صلى الله-تعالى-عَليهِ وآله وسلم-؛ فحينئذ نقول: هذا حَديثِ لا يَجوز أن يُذكر وأن يُستدل به.
وقد ذكرنا الحَديثَ الضَّعيف والحَديثِ الموضوع؛ فنقول:
الأصْل أن لا يُستدَل بالحَديثِ الذي لا يَصِح، أو أن يُسنَد إلى رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-؛ فالرَّسُول -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقول: " إيَّاكم وكَثرةَ الحَديثِ عنِّي؛ إلا مَا عَلِمْتُموه صِدقًا وحقًّا، ومَن كَذَب عليَّ مُتعمِّدًا؛ فلْيَتبوَّأ مَقعدَهُ مِن النَّار ".
إذن: شرطُنا؛ بل الشَّرط اللازم على كل مسلم، على كل طالِب علم، على كل عالِم: أن لا يَستدل عن رسولِ الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- بحديث؛ إلا إذا كان الحَديثُ صَحيحًا ثابتًا، صحَّحه أئمةُ العِلم عبر القواعد الدَّقيقة، وعبر الأصولِ المُحكَمة الَّتِي خلَّفها لهم أئمةُ العِلم -قديمًا وحديثًا-.
أمَّا ما يُقال: بأنه يَجوز أن نَستدلَّ بالحَديثِ الضَّعيف في فضائلِ الأعمال، أو في التَّرغيب والتَّرهيب؛ فهذا قولٌ مَرجوح.
والصَّواب أن نقول: بأنه لا يُستدل بالحَديثِ الضَّعيف في شيءٍ -البتَّة-، لا في فضائل الأعمال، ولا في التَّرغيب والتَّرهيب، ولا في شيءٍ من ذلِك، والأمرُ كما قَالَ الإِمام عبدُ الله بن المبارَك: (في الحَديثِِ الصَّحيح غُنية عن الحَديثِ الضَّعيف).
نقطة أخرى -في هذا الباب-، وهي: مسألة التَّهنئة بشهر رَمضان:
إذا دخل رَمضان: ذكر بعض أهل العِلم؛ كالعلامة السُّيوطي في كتابه: " وصول الأماني في أصولِ التَّهاني " نقلًا عن الحافظ ابنِ رجب الحنبلي في كتابه " لطائِف المعارِف " قَالَ: (وقَد استدل العِلماء على جوازِ التَّهنئة بدخول رَمضان بقول النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-فيما صحَّ عنهُ-: " أتَاكُمْ شَهرٌ مُبارَك "؛ فقَالَوا: هذا لفظ يُفيد التَّهنئة والمبارَكة في هذا الشَّهر الكريم).
ونحن أدركنا مشايخَنا وعلماءنا وكُبراءنا إذا دخل رَمضان يقولُ أحدهم -باللَّهجة اليَسيرة الطبيعيَّة الفِطريَّة-: (بارك اللهُ لكم في هذا الشَّهر)! هو نفسُ التَّعبير النَّبوي؛ لكن بعبارةٍ ألطف، وبعبارةٍ -يعني- أكثر قبولًا لعامَّة النَّاس؛ وإلا فلفظُ رسولِ الله -عَليهِ أفضل الصَّلاة، وأتمُّ التَّسليم-: " أتاكُم شهرٌ مُبارَك ".
وكما قلتُ وأكرِّر: استدل بعضُ أهل العِلم -كالسُّيوطي- نقلًا عن الحافظ ابن رجب الحنبلي -رَحِمهُ اللهُ- أن ذلِك مُتعلِّق بالمبارَكة وجَوازِها واستِنانِها -في هذا الأمر-.
وإذ الأمر كذلِك؛ فنقول لإخواننا المشاهِدين، وأخواتِنا المُشاهِدات -في كل مكان مِن هذا العالَم-العالم العربي، والعالَم الإسلامي، والعالم أجمع- نقول لهم -كما علَّمنا رسولنا الكريم -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-: " أتاكُم شَهرٌ مُبارَك "!
فبارك الله لنا ولكم -أجمعين- بهذا الشَّهر الكريم، وأعاننا الله -جميعًا- على صيامه وقيامه، والالتزام بهديه وفضائله وأحكامِه؛ إنه -سُبحانَهُ- ولي ذلِك والقادر عَليهِ.
وصلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمدٍ، وعَلى آلِه، وصحبِه -أجمَعِين-، وآخِرُ دَعوانا أنِ الحَمدُ للهِ ربِّ العالَمِين، سائلًا ربي -سُبحانَهُ- أن يعيننا على الاستمرار في هذه الحلقاتِ النَّافعة -إن شاءَ اللهُ-. والسَّلامُ عَليكم ورَحمةُ اللهِ وبَركاتُه.
الله القدوس السلام