سعود الظاهري
:: إداري سابق ومؤسس ::
في ظهور نار الحجاز
روينا في مسند أحمد ، برجالٍ ثقات عن أبي ذر ، قال : " أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فرأينا ذا الحُليقة ، فتعجل رجالٌ إلى المدينة ، و بات رسول الله صلى الله عليه وسلم و بتنا معه ، فما أصبح سأل عنهم ، فقالوا إلى المينة ، فقال : تعجلوا إلى المدينة و النساء ، أما إنهم سيدعونها أحسن ما كانت " مسند أحمد 5/189.
ووراه ابن شبة من غير ذكر : " بأرض اليمن " ، و لفظه : " ليتركنها أحسن ما كانت ، ليت متى تخرج نار من جبل الوراق تضيء لها أعناق الإبل ببصرى بروكاً كضوء النهار " [ تاريخ المدينة 1/280.
و أخرج الطبراني ، في آخر حديث لحذيفة بن أسيد : و سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تقوم الساعة حتى تخرج نارٌ من رومان أو ركوبة (و هي ثنية بين مكة و المدينة ) تضيء منها أعناق الإبل ببصرى " [ نقلاً عن فتح الباري 80/23.
قلت : وركوبة ـ كما ـ سيأتي ـ ثنية قريبة من ورقان ، ولعله المراد بجبل الوراق .
قال الحافظ ابن حجر : ورمان لم يذكرها البكري ، ولعل المراد : رومة ، البئر المعروفة بالمدينة . [ نقلاً عن فتح الباري80/13] .
و هذه النار نذكورة في الصحيحين ، في حديث : " لا تقوم الساعة حتى تظهر نار بالحجاز " [ المعجم المفهرس 3/523 ، البخاري : كتاب الفتن ، و مسلم كتاب الفن و مسند أحمد ] .
و لفظ البخاري : " تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى " [ فتح الباري : 13/78].
و روى الطبراني ، بسند ضعيف ، عن عاصم بن عدي الأنصار ي، قال : سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثان ما قدم ، فقال : أين جئت ؟ فقال : من حبس سيل ، فدعوت بنعلي ، فانحدرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، سألتنا عن حبس سيل فقلنا : لا علم لنا به ، و إنه مرَّ بي هذا الرجل فسألته فزعم أنَّ به أهله ، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أين أهلك ؟ فقلا : بحبس سيل ، فقال : أخرج أهلك منها ، فإنه يوشك أن تخرج منها نار تضيء أعناق الإبل ببصرى " [ النهاية في غريب الحديث 1/320 ].
و حديث : " يوشك نار تخرج من حبس سيل ، تسير سير بيطيئة الإبل ، تسير النهار و تقيم الليل " [مورد الظمآن إلى زوائد ابن حبان للهيثمي 467]، و أخرج هذا الحديث أحمد بن حنبل ، و أبو يعلى ، من رواية رافع بن بشر السلمي عن أبيه ، و قال الحافظ الهيثمي : رواه أحمد و الطبراني ، و رجال أحمد رجال الصحيح ،غير رافع ، و هو ثقة ، أنتهي .
و ظهور النار المذكورة بالمدينة الشريفة قد اشتهر اشتهاراً بلغ حدَّ التواتر عند أهل الأخبار ، و كان ظهورها لإنذار العباد بما حدث بعدها ، فلهذا ظهرت على قرب مرحلةٍ من بلد النذير صلوات الله و سلامه عليه ، و تقدمها زلازل مهولة ، وقد قال تعالى : ( و ما نرسل بالآيات إلا تخويفاً) [سورة الإسراء:59] ، و قال تعالى : ( ذلك يخوف الله به عباده يا عبادي فاتقون ) [ سورة الزمر : 16] .
ظهور النار :
و لما ظهرت النار العظيمة الآتية وصفها ، و أشفق منها أهل المدينة غاية الإشفاق ، و التجأوا إلى نبيهم المبعوث بالرحمة ، صرفت عنهم ذات الشمال و زاحت عنهم الأوجال ، و ظهرت بركة تربته صلى الله عليه وسلم في أمته ، و لعل الحكمة في تخصيصها بهذا المحل ـ مع ما قدمناه من كونه حضرة النذير ـ الرحمة لهذه الأمة فإنها إن ظهرت بغيره ، و سلطان القهر و العظمة التي هي من آثاره قائمٌ لربما استولت على ذلك القطر و لم تجد صارفاً ، فيعظم ضررها على الأمة ، فظهرت بهذا المحل الشريف لحكمة الإنذار ، فإذا تمت قابلتها الرحمة فجعلتها برداً و سلاماً ، إلى غير ذلك من الأسرار .
و كان ابتداء الزلزلة بالمدينة الشريفة مستهل جمادي الآخرة ، أو آخر جمادى الآخر ، او آخر جمادى الأول سنة أربعة و خمسين وست مئة ، لكنها كانت خفيفة لم يدركها بعضهم مع تكررها بعد ذلك ، و اشتدت في يوم الثلاثاء على ما حكاه القطب القسطلاني . و ظهوت ظهوراً عظيماً ، اشترك في إدراكه العام و الخاص ، ثم لما كان ليلة الأربع ثالث الشهر أو رابعه ، في الثلث الأخير من الليل حدث بالمدينة زلزلة عظيمة أشفق الناس منها ، و انزعجت القلوب لهيبتها ، واستمرت تزلزل بقية الليل ، و استمرت إلى يوم الجمعة و لها دوي أعظم من الرعد ، فتموج الأرض و تتحرك الجدران ، حتى وقع في يوم واحد دون ليلة ثماني عشرة حركة ، على ما حكاه القسطلاني .
و قال القرطبي : قد خرجت نار الحجاز بالمدينة ، و كان بؤها زلزلة عظيمة في ليلة الأربعاء بعد العتمة ، الثالث من جمادي الآخرة سنة أربع و خمسين و ست مئة ، و استمرت إلى ضحى النهار يوم الجمعة فسكنت ، و ظهرت بقريظة ، بطرف الحرة ترى في صفة البلد العظيم ، لا تمر على جبل إلا دكته و أذابته ، و يخرج من مجموعه ذلك مثل النهر أحمر و أزرق ، له كدوي الرعد ن يأخذ الصخور بين يديه ، و ينتهي إلى محط الركب العراقي ، و اجتمع من ذلك ردمٌ صار كالجبل العظيم ، فانتهت النار إلى قرب المدينة ، و مع ذلك فكان يأتي المدينة نسيم ٌ باردٌ ، و شوهد لهذه النار غليان كغليان البحر .
و قال لي بعض أصحابنا : رأيتها صاعدة في الهواء من نحو خمسة أيام ، و سمعت أنها رؤيت من مكة و من جبال بصرى أهـ .
و قال النووي : تواتر العلم بخروج هذه النار عند جميع أهل الشام .
و نقل أبو شامة عن مشاهدة كتاب الشريف سنان قاضي المدينة الشريفة و غيره أنَّ في ليلة الأربعاء ثالثة جمادى الآخرة حدث بالمدينة في الثلث الأخير من الليل زلزلة عظيمة أشفقنا منها ، و باتت في تلك الليلة تزلزل ، ثم استمرت تزلزل كل يوم و ليلة مقدار عشر مرات .
قال : و الله لقد زلزلت مرة و نحن حول الحجرة فاضطربت لها المنبر إلى أن سمعنا منه صوتاً للحديد الذي فيه و اضطربت قناديل الحرم الشريف (1).
زاد القاشاني : ثم في اليوم الثالث ـ وهو يوم الجمعة ـ زلزلت الأرض زلزلة عظيمة ، إلى أن اضطربت منائر المسجد ، و سمع لسقف المسجد صرير عظيم (2) .
قال القطب القسطلاني : فما كان يوم الجمعة نصف النهار ظهرت تلك النار ، فثار من محل ظهورها في الجو دخان متراكم غشى الأفق سواده ، فلما تراكمت الظلمات و أقبل الليل سطع شعاع النار ، و ظهرت مثل المدينة العظيمة في جهة الشرق .
قال القاضي سنان : و طلعت إلى الأمير ـ و كان عز الدين منيف بن شيحة و قلت له : قد أحاط بنا العذاب ، ارجع إلى الله ، فأعتق كل مماليكه ، وردَّ على الناس مظالمهم .
زاد القاشاني : و أبطل المكس .
ثم هبط الأمير للنبي صلى الله عليه وسلم و بات في المسجد ليلة الجمعة و ليلة السبت ، و معه جميع أهل المدينة حتى النساء و الصغار ، و لم يبق أحد في النخل إلا جاء إلى الحرم الشريف و بات الناس يتضرعون و يبكون ، و أحاطوا بالحجرة الشريفة كاشفين رؤوسهم مُقرين بذنوبهم مبتهلين مستجيرين بنبهم صلى الله عليه و سلم .
و قال القطب : و لما عاين أمير المدينة ذلك أقلع عن المخالفة و اعتبر ، و رجع عما كان عليه من المظالم و انزجر ، و أظهر التوبة و الإنابة ، و أعتق جميع مماليكه ، و شرع في ردِّ المظالم و عزم أهل المدينة على الإقلاع عن الإصرار و ارتكاب الأوزار ، و فزعوا إلى التضرع و الاستغفار ، و هبط أميرهم من القلعة مع قاضيهم الشريف سنان و أعيان البلد ، والتجأوا إلى الحجرة الشريفة ، و باتوا
بالمسجد الشريف بأجمعهم حتى النساء و الأطفال ، فصرف الله تعالى تلك النار العظيمة ذات الشمال ، و نجوا من الأهوال ، فسارت تلك النار من مخرجها و سالت ببحر عظيم من النار ، و أخذت في وادي أُحيليين و أهل المدينة يشاهدونها من دورهم كأنها عندهم و مالت من مخرجها إلى جهة الشمال ، و استمرت مدة ثلاثة أشهر على ما ذكره المؤرخون . و ذكر القطب القسطلاني في كتاب أفرده لهذه النار ن و هو ممن أدركها لكنه كان بمكة فلم يشاهدها: إن ابتداءها يوم الجمعة السادس من شهر جمادى الآخرة، و أنها دامت إلى يوم الأحد السابع و العشرين من رجب، ثم خمدت ـ فجملة ما أقدمت اثنين و خمسين يوماً، لكنه ذكر بعد ذلك أنها أقامت منطفئة أياماً ثم ظهرت، قال: و هي كذلك تسكن مرة و تظهر أخرى، فهي لا يؤمن عودها و إن طفيء وقودها أهـ.
فكأن ما ذكره المؤرخون من المدة باعتبار انقطاعها بالكلية، و طالت مدتها ليشتهر أمرها فينزجر بها عامة الخلق و يشهدوا من عظمها عنوان النار التي أنذرهم بها حبيب الحق صلى الله عليه و سلم.
و ذكر القسطلاني عن من يثق به : أن أمير المدينة أرسل عدة من الفرسان إلى هذه النار للإتيان بخبرها ، فلم تجسر الخيل على القرب منها ، فترجل أصحابها و قربوا منها فذروا أنها ترمي بشرر كالقصر ، و لم يظفروا بجلية أمرهم ، فجرد عزمه للإحاطة بخبرها ، فذكر أن ه وسل منها إلى قدر غلوتين بالحجر و لم يستطع أن يجاوز موقفه من حرارة الأرض و أحجار كالمسامير تحتها نار سارية و مقابلة ما يتصاعد من اللهب ، فعاين ناراً كالجبال الراسيات ، و التلال المجتمعة السائدات ن تقذف بزبد الأحجار كالبحار المتلاطمة الأمواج ، و عقد لهيبها في الأفق قتاماُ حتى ظن الظان أن الشمس و القمر كسفاً إذ سلبا بهجة الإشراق في الأفاق ، و لولا كفاية الله كفتها لأكلت ما تقدم عليه من الحيوان و النبات و الحجر ، أهـ .
قلت : و ذكر القسطلاني : إن هذه النار لم تزل مارةً على سيلها حتى اتصلت بالحرة ووادي الشظاة ، و هي تسحق ما والاها ، و تذيب ما لاقاها من الشجر الأخضر و الحصى من قوة اللظى ، و أن طرفها الشرقي أخذ بين الجبال فحالت دونه ثم وقفت ، و أن طرفها الشامي و هو الذي يلي الحرم ـ اتصل بجبل يقال له : و عيرة ، على قرب من شرقي جبل أحد ، و مضت في الشظاة الذي في طرفه وادي حمزة رضي الله عنه ، ثم استمرت حتى استقرت تجاه حرم النبي صلى الله عليه وسلم فطفئت .
و قال القسطلاني : إن ضوءها استوى على ما بطن من القيعان و ظهر من التلال ، حتى كأن الحرم النبوي عليه الشمس مشرقة ، و جملة أماكن المدينة بأنوارها محدقة ، و دام على ذلك لهبها حتى تأثرت له النيران ، صار نور الشمس على الأرض تعتريه صفرة ، و لونها من تصاعد الالتهاب يعتريه حمرة ، والقمر كأنه قد كسف من اضمحلال نوره .
قال : و أخبرني جمع ممن توجه للزيارة على طريق المشيان أنهم شاهدوا ضوءها على ثلاثة مراحل للمجدِّ و آخرون : أنهم شاهدوا من جبال سارية .
قلت :نقل أبو شامة عن مشاهدة كتاب الشريف سنان قاضي المدينة : أن هذه النار رؤيت من مكة و من الفلاة جميعها ، ورآها أهل ينبع .
قال أبو شامة : و أخبرني بعض من أثق به ممن شاهدها بالمدينة أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكتب .
قال أبو شامة : و ظهر عندنا بدمشق أثر ذلك الكسوف من ضعف النور على الحيطان ، و كنا حيارى من سبب ذلك ، إلى أن بلغنا الخبر عن هذه النار .
و كل من ذكر هذه النار يقول في آخر كلامه : و عجائب هذه النار و عظمتها يكل عن وصفها البيان و الأقلام ، و تجل عن أن يحيط بشرحها البيان و الكلام ، فظهر بظهورها معجزة للنبي صلى الله عليه و سلم لوقوع ما أخبر به و هي هذه النار ، إذ لم تظهر من زمنه صلى الله عليه و سلم قبلها و لا بعدها نار مثلها . قلت : قد تقدم عن القرطبي أنه بلغه أنها رؤيت من جبال بصرى .
و صرح الشيخ عماد الدين ابن كثير بما يقضي أنه أضاءت من هذه النار أعناق الإبل ببصرى ، فقال : أخبرني قاضي القضاة صدر الدين الحنفي قال : أخبرني والدي الشيخ صفي الدين مدرس مدرسة بصرى أنه أخبره غير واحد من الأعراب صبيحة الليلة التي ظهرت فيها هذه النار ممن كان بحاضرة بلد بصرى أنهم رأوا صفحات أعناق إبلهم في ضوء تلك النار ، فقد تحقق بذلك أنها الموعودة بها ، والحكمة في إنارتها بالأماكن البعيدة من هذا المظهر الشريف حصول الإنذار ، ليتم به الإنزجار .
المصدر :
عن كتاب وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى تأليف نور الدين بن عبد الله السمهودي ج 2 .
روينا في مسند أحمد ، برجالٍ ثقات عن أبي ذر ، قال : " أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فرأينا ذا الحُليقة ، فتعجل رجالٌ إلى المدينة ، و بات رسول الله صلى الله عليه وسلم و بتنا معه ، فما أصبح سأل عنهم ، فقالوا إلى المينة ، فقال : تعجلوا إلى المدينة و النساء ، أما إنهم سيدعونها أحسن ما كانت " مسند أحمد 5/189.
ووراه ابن شبة من غير ذكر : " بأرض اليمن " ، و لفظه : " ليتركنها أحسن ما كانت ، ليت متى تخرج نار من جبل الوراق تضيء لها أعناق الإبل ببصرى بروكاً كضوء النهار " [ تاريخ المدينة 1/280.
و أخرج الطبراني ، في آخر حديث لحذيفة بن أسيد : و سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تقوم الساعة حتى تخرج نارٌ من رومان أو ركوبة (و هي ثنية بين مكة و المدينة ) تضيء منها أعناق الإبل ببصرى " [ نقلاً عن فتح الباري 80/23.
قلت : وركوبة ـ كما ـ سيأتي ـ ثنية قريبة من ورقان ، ولعله المراد بجبل الوراق .
قال الحافظ ابن حجر : ورمان لم يذكرها البكري ، ولعل المراد : رومة ، البئر المعروفة بالمدينة . [ نقلاً عن فتح الباري80/13] .
و هذه النار نذكورة في الصحيحين ، في حديث : " لا تقوم الساعة حتى تظهر نار بالحجاز " [ المعجم المفهرس 3/523 ، البخاري : كتاب الفتن ، و مسلم كتاب الفن و مسند أحمد ] .
و لفظ البخاري : " تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى " [ فتح الباري : 13/78].
و روى الطبراني ، بسند ضعيف ، عن عاصم بن عدي الأنصار ي، قال : سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثان ما قدم ، فقال : أين جئت ؟ فقال : من حبس سيل ، فدعوت بنعلي ، فانحدرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، سألتنا عن حبس سيل فقلنا : لا علم لنا به ، و إنه مرَّ بي هذا الرجل فسألته فزعم أنَّ به أهله ، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أين أهلك ؟ فقلا : بحبس سيل ، فقال : أخرج أهلك منها ، فإنه يوشك أن تخرج منها نار تضيء أعناق الإبل ببصرى " [ النهاية في غريب الحديث 1/320 ].
و حديث : " يوشك نار تخرج من حبس سيل ، تسير سير بيطيئة الإبل ، تسير النهار و تقيم الليل " [مورد الظمآن إلى زوائد ابن حبان للهيثمي 467]، و أخرج هذا الحديث أحمد بن حنبل ، و أبو يعلى ، من رواية رافع بن بشر السلمي عن أبيه ، و قال الحافظ الهيثمي : رواه أحمد و الطبراني ، و رجال أحمد رجال الصحيح ،غير رافع ، و هو ثقة ، أنتهي .
و ظهور النار المذكورة بالمدينة الشريفة قد اشتهر اشتهاراً بلغ حدَّ التواتر عند أهل الأخبار ، و كان ظهورها لإنذار العباد بما حدث بعدها ، فلهذا ظهرت على قرب مرحلةٍ من بلد النذير صلوات الله و سلامه عليه ، و تقدمها زلازل مهولة ، وقد قال تعالى : ( و ما نرسل بالآيات إلا تخويفاً) [سورة الإسراء:59] ، و قال تعالى : ( ذلك يخوف الله به عباده يا عبادي فاتقون ) [ سورة الزمر : 16] .
ظهور النار :
و لما ظهرت النار العظيمة الآتية وصفها ، و أشفق منها أهل المدينة غاية الإشفاق ، و التجأوا إلى نبيهم المبعوث بالرحمة ، صرفت عنهم ذات الشمال و زاحت عنهم الأوجال ، و ظهرت بركة تربته صلى الله عليه وسلم في أمته ، و لعل الحكمة في تخصيصها بهذا المحل ـ مع ما قدمناه من كونه حضرة النذير ـ الرحمة لهذه الأمة فإنها إن ظهرت بغيره ، و سلطان القهر و العظمة التي هي من آثاره قائمٌ لربما استولت على ذلك القطر و لم تجد صارفاً ، فيعظم ضررها على الأمة ، فظهرت بهذا المحل الشريف لحكمة الإنذار ، فإذا تمت قابلتها الرحمة فجعلتها برداً و سلاماً ، إلى غير ذلك من الأسرار .
و كان ابتداء الزلزلة بالمدينة الشريفة مستهل جمادي الآخرة ، أو آخر جمادى الآخر ، او آخر جمادى الأول سنة أربعة و خمسين وست مئة ، لكنها كانت خفيفة لم يدركها بعضهم مع تكررها بعد ذلك ، و اشتدت في يوم الثلاثاء على ما حكاه القطب القسطلاني . و ظهوت ظهوراً عظيماً ، اشترك في إدراكه العام و الخاص ، ثم لما كان ليلة الأربع ثالث الشهر أو رابعه ، في الثلث الأخير من الليل حدث بالمدينة زلزلة عظيمة أشفق الناس منها ، و انزعجت القلوب لهيبتها ، واستمرت تزلزل بقية الليل ، و استمرت إلى يوم الجمعة و لها دوي أعظم من الرعد ، فتموج الأرض و تتحرك الجدران ، حتى وقع في يوم واحد دون ليلة ثماني عشرة حركة ، على ما حكاه القسطلاني .
و قال القرطبي : قد خرجت نار الحجاز بالمدينة ، و كان بؤها زلزلة عظيمة في ليلة الأربعاء بعد العتمة ، الثالث من جمادي الآخرة سنة أربع و خمسين و ست مئة ، و استمرت إلى ضحى النهار يوم الجمعة فسكنت ، و ظهرت بقريظة ، بطرف الحرة ترى في صفة البلد العظيم ، لا تمر على جبل إلا دكته و أذابته ، و يخرج من مجموعه ذلك مثل النهر أحمر و أزرق ، له كدوي الرعد ن يأخذ الصخور بين يديه ، و ينتهي إلى محط الركب العراقي ، و اجتمع من ذلك ردمٌ صار كالجبل العظيم ، فانتهت النار إلى قرب المدينة ، و مع ذلك فكان يأتي المدينة نسيم ٌ باردٌ ، و شوهد لهذه النار غليان كغليان البحر .
و قال لي بعض أصحابنا : رأيتها صاعدة في الهواء من نحو خمسة أيام ، و سمعت أنها رؤيت من مكة و من جبال بصرى أهـ .
و قال النووي : تواتر العلم بخروج هذه النار عند جميع أهل الشام .
و نقل أبو شامة عن مشاهدة كتاب الشريف سنان قاضي المدينة الشريفة و غيره أنَّ في ليلة الأربعاء ثالثة جمادى الآخرة حدث بالمدينة في الثلث الأخير من الليل زلزلة عظيمة أشفقنا منها ، و باتت في تلك الليلة تزلزل ، ثم استمرت تزلزل كل يوم و ليلة مقدار عشر مرات .
قال : و الله لقد زلزلت مرة و نحن حول الحجرة فاضطربت لها المنبر إلى أن سمعنا منه صوتاً للحديد الذي فيه و اضطربت قناديل الحرم الشريف (1).
زاد القاشاني : ثم في اليوم الثالث ـ وهو يوم الجمعة ـ زلزلت الأرض زلزلة عظيمة ، إلى أن اضطربت منائر المسجد ، و سمع لسقف المسجد صرير عظيم (2) .
قال القطب القسطلاني : فما كان يوم الجمعة نصف النهار ظهرت تلك النار ، فثار من محل ظهورها في الجو دخان متراكم غشى الأفق سواده ، فلما تراكمت الظلمات و أقبل الليل سطع شعاع النار ، و ظهرت مثل المدينة العظيمة في جهة الشرق .
قال القاضي سنان : و طلعت إلى الأمير ـ و كان عز الدين منيف بن شيحة و قلت له : قد أحاط بنا العذاب ، ارجع إلى الله ، فأعتق كل مماليكه ، وردَّ على الناس مظالمهم .
زاد القاشاني : و أبطل المكس .
ثم هبط الأمير للنبي صلى الله عليه وسلم و بات في المسجد ليلة الجمعة و ليلة السبت ، و معه جميع أهل المدينة حتى النساء و الصغار ، و لم يبق أحد في النخل إلا جاء إلى الحرم الشريف و بات الناس يتضرعون و يبكون ، و أحاطوا بالحجرة الشريفة كاشفين رؤوسهم مُقرين بذنوبهم مبتهلين مستجيرين بنبهم صلى الله عليه و سلم .
و قال القطب : و لما عاين أمير المدينة ذلك أقلع عن المخالفة و اعتبر ، و رجع عما كان عليه من المظالم و انزجر ، و أظهر التوبة و الإنابة ، و أعتق جميع مماليكه ، و شرع في ردِّ المظالم و عزم أهل المدينة على الإقلاع عن الإصرار و ارتكاب الأوزار ، و فزعوا إلى التضرع و الاستغفار ، و هبط أميرهم من القلعة مع قاضيهم الشريف سنان و أعيان البلد ، والتجأوا إلى الحجرة الشريفة ، و باتوا
بالمسجد الشريف بأجمعهم حتى النساء و الأطفال ، فصرف الله تعالى تلك النار العظيمة ذات الشمال ، و نجوا من الأهوال ، فسارت تلك النار من مخرجها و سالت ببحر عظيم من النار ، و أخذت في وادي أُحيليين و أهل المدينة يشاهدونها من دورهم كأنها عندهم و مالت من مخرجها إلى جهة الشمال ، و استمرت مدة ثلاثة أشهر على ما ذكره المؤرخون . و ذكر القطب القسطلاني في كتاب أفرده لهذه النار ن و هو ممن أدركها لكنه كان بمكة فلم يشاهدها: إن ابتداءها يوم الجمعة السادس من شهر جمادى الآخرة، و أنها دامت إلى يوم الأحد السابع و العشرين من رجب، ثم خمدت ـ فجملة ما أقدمت اثنين و خمسين يوماً، لكنه ذكر بعد ذلك أنها أقامت منطفئة أياماً ثم ظهرت، قال: و هي كذلك تسكن مرة و تظهر أخرى، فهي لا يؤمن عودها و إن طفيء وقودها أهـ.
فكأن ما ذكره المؤرخون من المدة باعتبار انقطاعها بالكلية، و طالت مدتها ليشتهر أمرها فينزجر بها عامة الخلق و يشهدوا من عظمها عنوان النار التي أنذرهم بها حبيب الحق صلى الله عليه و سلم.
و ذكر القسطلاني عن من يثق به : أن أمير المدينة أرسل عدة من الفرسان إلى هذه النار للإتيان بخبرها ، فلم تجسر الخيل على القرب منها ، فترجل أصحابها و قربوا منها فذروا أنها ترمي بشرر كالقصر ، و لم يظفروا بجلية أمرهم ، فجرد عزمه للإحاطة بخبرها ، فذكر أن ه وسل منها إلى قدر غلوتين بالحجر و لم يستطع أن يجاوز موقفه من حرارة الأرض و أحجار كالمسامير تحتها نار سارية و مقابلة ما يتصاعد من اللهب ، فعاين ناراً كالجبال الراسيات ، و التلال المجتمعة السائدات ن تقذف بزبد الأحجار كالبحار المتلاطمة الأمواج ، و عقد لهيبها في الأفق قتاماُ حتى ظن الظان أن الشمس و القمر كسفاً إذ سلبا بهجة الإشراق في الأفاق ، و لولا كفاية الله كفتها لأكلت ما تقدم عليه من الحيوان و النبات و الحجر ، أهـ .
قلت : و ذكر القسطلاني : إن هذه النار لم تزل مارةً على سيلها حتى اتصلت بالحرة ووادي الشظاة ، و هي تسحق ما والاها ، و تذيب ما لاقاها من الشجر الأخضر و الحصى من قوة اللظى ، و أن طرفها الشرقي أخذ بين الجبال فحالت دونه ثم وقفت ، و أن طرفها الشامي و هو الذي يلي الحرم ـ اتصل بجبل يقال له : و عيرة ، على قرب من شرقي جبل أحد ، و مضت في الشظاة الذي في طرفه وادي حمزة رضي الله عنه ، ثم استمرت حتى استقرت تجاه حرم النبي صلى الله عليه وسلم فطفئت .
و قال القسطلاني : إن ضوءها استوى على ما بطن من القيعان و ظهر من التلال ، حتى كأن الحرم النبوي عليه الشمس مشرقة ، و جملة أماكن المدينة بأنوارها محدقة ، و دام على ذلك لهبها حتى تأثرت له النيران ، صار نور الشمس على الأرض تعتريه صفرة ، و لونها من تصاعد الالتهاب يعتريه حمرة ، والقمر كأنه قد كسف من اضمحلال نوره .
قال : و أخبرني جمع ممن توجه للزيارة على طريق المشيان أنهم شاهدوا ضوءها على ثلاثة مراحل للمجدِّ و آخرون : أنهم شاهدوا من جبال سارية .
قلت :نقل أبو شامة عن مشاهدة كتاب الشريف سنان قاضي المدينة : أن هذه النار رؤيت من مكة و من الفلاة جميعها ، ورآها أهل ينبع .
قال أبو شامة : و أخبرني بعض من أثق به ممن شاهدها بالمدينة أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكتب .
قال أبو شامة : و ظهر عندنا بدمشق أثر ذلك الكسوف من ضعف النور على الحيطان ، و كنا حيارى من سبب ذلك ، إلى أن بلغنا الخبر عن هذه النار .
و كل من ذكر هذه النار يقول في آخر كلامه : و عجائب هذه النار و عظمتها يكل عن وصفها البيان و الأقلام ، و تجل عن أن يحيط بشرحها البيان و الكلام ، فظهر بظهورها معجزة للنبي صلى الله عليه و سلم لوقوع ما أخبر به و هي هذه النار ، إذ لم تظهر من زمنه صلى الله عليه و سلم قبلها و لا بعدها نار مثلها . قلت : قد تقدم عن القرطبي أنه بلغه أنها رؤيت من جبال بصرى .
و صرح الشيخ عماد الدين ابن كثير بما يقضي أنه أضاءت من هذه النار أعناق الإبل ببصرى ، فقال : أخبرني قاضي القضاة صدر الدين الحنفي قال : أخبرني والدي الشيخ صفي الدين مدرس مدرسة بصرى أنه أخبره غير واحد من الأعراب صبيحة الليلة التي ظهرت فيها هذه النار ممن كان بحاضرة بلد بصرى أنهم رأوا صفحات أعناق إبلهم في ضوء تلك النار ، فقد تحقق بذلك أنها الموعودة بها ، والحكمة في إنارتها بالأماكن البعيدة من هذا المظهر الشريف حصول الإنذار ، ليتم به الإنزجار .
المصدر :
عن كتاب وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى تأليف نور الدين بن عبد الله السمهودي ج 2 .