صرناخ البريمي
¬°•| إداري سابق |•°¬
- إنضم
- 28 مارس 2009
- المشاركات
- 882
روت لي صديقتي التي تشغل مركزاً مرموقاً في مؤسسة كبيرة، أنها سمعت ذات
يوم أصواتاً - عالية وضجيجاً خارج مكتبها أعقبه دخول أحد الموظفين مستنجداً
بها من وقاحة إحدى الْمُراجِعَات وعدم استطاعتهم السيطرة عليها.
تقول صديقتي: طلبت من الموظف إرسالها إلـيّ، وبعد دقائق دخلت سيدة في
الخمسينات تقريباً، تدل هيئتها على أنها استهلكت جزءاً كبيراً من صباحها في
الشجار، فقد بَدَت عيناها حمراوين وعباءتها على كتفها وشعيرات نافرة تطل من
تحت حجابها. وبشكل عام كانت كالعاصفة، فما إن دخلت وألقت السلام ورددتُ
عليها، وقبل أن أطلب منها الجلوس صرَخَت قائلة: "ولماذا لا تنهضين لتحيتي؟
ومَن تعتقدين نفسكِ، وكلّنا بشر، ولِمَ هذا الغـــــرور؟". وظلّت تكيل الاتِّهامات
بصوت عال، ومن خلف الزجاج رأيت عيون الموظفين تتابع ما يجري عدا أنهم كانوا
يسمعون بالطبع، ولأن المكان الذي أعمل فيه حسّاس جداً، كان أمامي خياران،
إمّا أن أُسيطر على الموقف بسرعة، أو أستدعي لها ر جال الأمن. وكان عليّ أن
أُقرِّر في ثوانٍ، خاصة أنّ الموظف الذي جاء يشكوها، قال إنهم جرّبوا معها كل أنواع
الصبر وهي مُصرّة على التلفُّظ بعبارات غير محترمة في حقّ موظفين لم يقوموا
بخدمتها كما يجب.
ووجدتني أنهض بهدوء من دون تفكير، وأتّجه إلى هذه السيدة الْمُهتَاجَة، وأُقبِّل
رأسها اعتذاراً، لأنني لم أنهض من مقعدي لتحيتها. وهنا اختفى الصوت الغاضب
ورأيتها تتلفّت بذهول وكأنها صُدِمَت بتصرفي، ولم أتردَّد من تكرار ما فعلت. كان
هناك شيء يدفعني إلى هذا الفعل، على الرغم من علمي بما سيقوله
الموظفون عن مديرتهم التي تصرفت بشكل ذليل وخانـــع مع زبونة، أو مُراجعة
وقحــة، وما إلى ذلك. رفعت أطراف قدمي حتى أصل إلى قامتها "الطويلة" وقبّلت
رأسها ثم أجلستها بهدوء على الكرسي الْمُقابل لمكتبي وعدتُ لمواجهتها، وأنا
أُكرِّر عبارات الاعتذار. فمهما كنت منهمكة ومشغولة، عليَّ أن أُبدي الاحترام
الواجب لِمَن هو أكبر مني، وأن أقف احتراماً له. وسألتها في النهاية عن الأمر
الذي جاءت من أجله، وظلّت تدير بصرها في الغرفة بذهول، ثم نظرت إلى أصابعها
وظلّت صامتة. تحاشيت أن أنظر إلى أكوام العمل الذي ينتظرني، والذي
سيمنعني من الانصراف في الموعد الْمُحدَّد إلى منزلي، وسيُجبرني على البقاء
ساعات أُخرى، وبقيت صامتة أنا الأُخرى، بعد دقائق، بعد نصف ساعة، بعد دهـــر،
لا أدري بالضبط، جاء صوتها خافتاً ومخنوقاً ومخالفاً للصوت الذي أثار أعصاب
الجميع لفترة.
قالت: "ابني الكبير مات الأسبوع الماضي". لم أجد رداً مناسباً، نظَـرَت إلى
وجهي، لعلّها وجدت تعبيراً أقوى من الكلمات، فأكملت: "إنه الوحيد الذي لم
ُيسبِّب لي أي عَنَاء أو تعب، لقد كان ابني وصديقي وسَنَدي، أعانني في تربية
شقيقتيه الْمَعاقتين، بعد وفاة والده فقدته في حادث سيارة، لم يُكمل الثالثة
والعشرين. كنت منهمكة في إعداد الوجبة التي يحبها، والتي طلبها مني قبل أن
يُغادرني في الصباح، وجاءني خبر رحيله. لقد استقلت من عملي بعد أن تكفّل
هو بنا وتفرّغت لرعاية أختيه. ليس لي صديقات وأهلي يكرهون زيارتي لهم
بسبب إعاقة ابنتيّ لم يعد لديَّ مَن يسمعني أو يتحدث معي". وأجهشت بالبكاء
ووجدتُ دموعي تنهمر رغماً عني، وكرهت نفسي، لا لأني للحظة فكّرت في أن أ
ُسلّمها إلى رجال الأمن، كان لديها مُعامَلَة مُعلَّقة تريد أن تُنهيها، ولعلّها كانت
تبحث عمَّن يسمع صوت حزنها. وما أصعب أن يفقد المرء أحباءه
للكـاتبة المميـزة : وداد الكـــواري^^
يوم أصواتاً - عالية وضجيجاً خارج مكتبها أعقبه دخول أحد الموظفين مستنجداً
بها من وقاحة إحدى الْمُراجِعَات وعدم استطاعتهم السيطرة عليها.
تقول صديقتي: طلبت من الموظف إرسالها إلـيّ، وبعد دقائق دخلت سيدة في
الخمسينات تقريباً، تدل هيئتها على أنها استهلكت جزءاً كبيراً من صباحها في
الشجار، فقد بَدَت عيناها حمراوين وعباءتها على كتفها وشعيرات نافرة تطل من
تحت حجابها. وبشكل عام كانت كالعاصفة، فما إن دخلت وألقت السلام ورددتُ
عليها، وقبل أن أطلب منها الجلوس صرَخَت قائلة: "ولماذا لا تنهضين لتحيتي؟
ومَن تعتقدين نفسكِ، وكلّنا بشر، ولِمَ هذا الغـــــرور؟". وظلّت تكيل الاتِّهامات
بصوت عال، ومن خلف الزجاج رأيت عيون الموظفين تتابع ما يجري عدا أنهم كانوا
يسمعون بالطبع، ولأن المكان الذي أعمل فيه حسّاس جداً، كان أمامي خياران،
إمّا أن أُسيطر على الموقف بسرعة، أو أستدعي لها ر جال الأمن. وكان عليّ أن
أُقرِّر في ثوانٍ، خاصة أنّ الموظف الذي جاء يشكوها، قال إنهم جرّبوا معها كل أنواع
الصبر وهي مُصرّة على التلفُّظ بعبارات غير محترمة في حقّ موظفين لم يقوموا
بخدمتها كما يجب.
ووجدتني أنهض بهدوء من دون تفكير، وأتّجه إلى هذه السيدة الْمُهتَاجَة، وأُقبِّل
رأسها اعتذاراً، لأنني لم أنهض من مقعدي لتحيتها. وهنا اختفى الصوت الغاضب
ورأيتها تتلفّت بذهول وكأنها صُدِمَت بتصرفي، ولم أتردَّد من تكرار ما فعلت. كان
هناك شيء يدفعني إلى هذا الفعل، على الرغم من علمي بما سيقوله
الموظفون عن مديرتهم التي تصرفت بشكل ذليل وخانـــع مع زبونة، أو مُراجعة
وقحــة، وما إلى ذلك. رفعت أطراف قدمي حتى أصل إلى قامتها "الطويلة" وقبّلت
رأسها ثم أجلستها بهدوء على الكرسي الْمُقابل لمكتبي وعدتُ لمواجهتها، وأنا
أُكرِّر عبارات الاعتذار. فمهما كنت منهمكة ومشغولة، عليَّ أن أُبدي الاحترام
الواجب لِمَن هو أكبر مني، وأن أقف احتراماً له. وسألتها في النهاية عن الأمر
الذي جاءت من أجله، وظلّت تدير بصرها في الغرفة بذهول، ثم نظرت إلى أصابعها
وظلّت صامتة. تحاشيت أن أنظر إلى أكوام العمل الذي ينتظرني، والذي
سيمنعني من الانصراف في الموعد الْمُحدَّد إلى منزلي، وسيُجبرني على البقاء
ساعات أُخرى، وبقيت صامتة أنا الأُخرى، بعد دقائق، بعد نصف ساعة، بعد دهـــر،
لا أدري بالضبط، جاء صوتها خافتاً ومخنوقاً ومخالفاً للصوت الذي أثار أعصاب
الجميع لفترة.
قالت: "ابني الكبير مات الأسبوع الماضي". لم أجد رداً مناسباً، نظَـرَت إلى
وجهي، لعلّها وجدت تعبيراً أقوى من الكلمات، فأكملت: "إنه الوحيد الذي لم
ُيسبِّب لي أي عَنَاء أو تعب، لقد كان ابني وصديقي وسَنَدي، أعانني في تربية
شقيقتيه الْمَعاقتين، بعد وفاة والده فقدته في حادث سيارة، لم يُكمل الثالثة
والعشرين. كنت منهمكة في إعداد الوجبة التي يحبها، والتي طلبها مني قبل أن
يُغادرني في الصباح، وجاءني خبر رحيله. لقد استقلت من عملي بعد أن تكفّل
هو بنا وتفرّغت لرعاية أختيه. ليس لي صديقات وأهلي يكرهون زيارتي لهم
بسبب إعاقة ابنتيّ لم يعد لديَّ مَن يسمعني أو يتحدث معي". وأجهشت بالبكاء
ووجدتُ دموعي تنهمر رغماً عني، وكرهت نفسي، لا لأني للحظة فكّرت في أن أ
ُسلّمها إلى رجال الأمن، كان لديها مُعامَلَة مُعلَّقة تريد أن تُنهيها، ولعلّها كانت
تبحث عمَّن يسمع صوت حزنها. وما أصعب أن يفقد المرء أحباءه
للكـاتبة المميـزة : وداد الكـــواري^^
التعديل الأخير: