جاسم القرطوبي
¬°•| عٌضوٍ شَرًفِ|•°¬
في منتصف هذا الصيف ، من ذلك النهار، ومن تلك الساعة التي تستجير الشمس فيها من نفسها بنفسها ، وفي قارعة هذا الطريق الملئ بالأوساخ والقاذورات ، كنتُ أظنُّ أنني الوحيدُ الذي خرج من البيت لتلفحه الشمسُ بأوارها حتى رأيت تلك العجوز ذات العباءة السوداء المهلهلة وهي تجلس في ملتقى الاتجاهات الأربعة للزقاق، مادة ً كلتا يديها في الفضاء ، وبجانبها كيسٌ فيه ما لذَّ وطاب من بقايا الطعام ، وزجاجة فيها القليل من الماء ... فدهشت لحالها وتساءلت : أي حاجة تضطرها للخروج في هذه الساعة الملتهبة ، وتقعدها هنا!!!! ورمقتُ إلى الشارع الذي لا يبشر بخروج إنسان في هذه الساعة تتأملُ منه أن يمد لها يدا بيضاء!!!!!!!!! ، فتساءلتُ: يا ترى ، هل سيؤول وضعي إلى هكذا يوما ما ؟ومددت يدي إلى جيبي المثقوب وفتشتُ جيدا فلم أرَ سوى بضعةِ بيسات لا تغني ولا تسمن من جوع ، ولكن لا تستحي من إعطاء القليل فالحرمانُ أقلّ منه ، فاتجهت نحوها ونظرت إليها فأخذتني القشعريرة فقد كانت إيماءةُ رأسها تشبهُ إيماءة الساجد المبتهل ، سلمتُ عليها مرارا ولكنها لم ترد ؛ فقلتُ في نفسي : لعلها لا تسمع إلا بصعوبة فرفعتُ صوتي : ( يا حاجة) السلام عليكم ، فنظرت إلي شئزا ولم ترد أيضا غير أنها تمتمت بكلمات لم أسمعها جيدا بل لم أفهمها ولكنني من لسان حالها فقهتُ قصدها : غريبة ٌ ومتى المحسن يرد علينا السلام فضلا أن يبتدئنا به ؟ انطلقت كلماتها كالصاروخ من فمها لأذني ولا إراديا رميتُ البيسات في يديها وانصرفت لمكان قريب أرقب وضعها وحالها ما قصتها ؟ ما أخرجها ؟ ما بها ؟ من هذه ؟ وما مآل أمرها بل ما سيئول أمرها ؟ يالله ذقت الفقر ولكنني لم أرَ أمرَّ من هذا المذاق . وأخيرا قررتُ أن أقطع حبل هذه الأفكار بسؤالها وتقدمت ببط شديد ولا زالت تبطئ بي الخطوات شيئا فشيئا حتى رأيت شابا وقد نفش شعره كالديك ، والسيجارة في فمه بزاوية منفرجة و أتى إليها واستقبلها بصوت مدويا وتحدث معها بلهجة غير العربية وليست بالغريبة عني ولم تكن بالغربية .ثم مد إليها يدا غليظة ومن يديها النحيلتين اغتال بضع ريالات ، ومن جانبها أخذ بقايا طعام رماها بعيدا عنها وأخذ منها زجاجة ماء وسكبها بعيدا منها ثم أشار إليها بإصبع الاتهام وتكلم معها بنفس تلك اللغة ، كلُّ هذا وهي تستقبل سيول وديانه بالثبات وانصرف فانكبت باكية على الأرض فأسرعتُ إليها بعد ذهابه بعد توقفي اللاشعوري عند قدومه . ولم تكد تشعر باقترابي حتى قالت : يا ولدي ساعدني على النهوض ، فأجبتها بأن رفعتها عن الأرض فكانت كالريشة بيدي والبخار من عينيها يكاد يشكل سحبا ركامية أو هكذا خُيِّلَ إليَّ ، تم قالت لي : هل لك أن تحمل هذه الصرة على رأسي ففعلت ووضعتها على رأسها ووضعت دمعة ً عليها فقد كانت الصرة تنوء بالعصبة أولي القوة لثقلها ، ثم أشارت إليَّ بيديها وداعا ومضت بلا نعل وعكازها يهديها الطريق، ومضيتُ كالجاسوس خلفها فتوقفت والتفت نحوي بكلها والصرة على رأسها تذكرني بصورة ذلك الثور الذي يحملُ الكرة الأرضية على رأسه كما رأيته في الأساطير وقالت لي : يا ولدي لا تقلقْ ما زالت البيسات التي أعطيتني في كفى فكفَّ عن ملاحقتي ثم مضت إلى أن تلاشت كالطيف وذابت سرابا في الحارة .