CR7
¬°•| βu βşɱą |•°¬
بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
الْـحَـمْـدُ لِـلَّهِ رَبِّ الْـعَـالَـمِـيـنَ ، وَالـصَّلَـاةُ وَالـسَّلَـامُ عَـلَـى رَسُـولِـهِ الأَمِـيـنِ
أَمِـا بَـعـدُ
الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـهُ
من أحسن الحديث
الحمد لله رب العالمين ، الصلاة والسلام على نبيه الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
كلاهم يستحق البدء فيه:
شرف الكلمة في حسنها، وحسنها في قطعها على الشيطان مداخله، ومن تأمّل هذه الآية التي صدّر فيها الكلام عِلِمَ مأتى هذا الكلام ومصدره، وأنّ القول الحسن شرف لصاحبه، به يملك ما لا يملكه الآخرون، فيغتني به ويحق له ذلك، كيف لا وهو دليل على صقل نفسه، ورفعة قدره، لأنّ الكلام إعرابٌ عما في النفس، وإبانة عما هي عليه، فقبح الكلمة قبح لمعدنها ومخرجها، وحسنها حسن لمأتاها ومأخذها، والأقوال ليس مصدرها اللسان ولا هو صاحبها، وليست من لدنه تنشأ، إنّما مخرجها النفس والقلب، فهما صاحباها، منها تبنى وفي مواطنها تُشاد، وليس لشيء يبني إلاّ ما كان دليلاً عليه معبراً عنه، فحسن الكلام حسن لنفس صاحبه، وشرف الكلام شرف لمقام قائله، ومالك حسن الكلام أقدر في الوصول إلى هدفه، وأبصر من غيره في معالجة حوادث أيّامه ونوازل أقداره، فما الناس إلا أهل انفعال ومقابلة لهذا الكلام الذي هو عنوان إنسانيتهم، يسمعونه فتحمى نفوسهم أو تخمل، تجود أو تبخل، تقدم أو تجبن، فيها يصبغون وعلى طرازها يتواردون، فمالك حسن الكلام ومالكٌ لنفوس الناس وإراداتهم، بها يقطع عليهم سبل الشيطان والهوى، ويعطّل منافذه على قلوبهم وأنفسهم، حتى قيل: "ما الإنسان لولا اللسان إلاّ بهيمة مهملة أو صورة ممثلة".
{وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن}...
في معرض ذكره - جلّ في عُلاه - لجملة من الأوامر التي يعلّمها عباده، مع ما يرافق هذه الأوامر من تعظيم لشأنه - جلّ وعزّ - وتبيينه لحال خصوم الأمر الإلهي جاء هذا الأمر والإرشاد بهذا المطلع الرحيم الودود الدال على التحبب: {وقل لعبادي}، ومن تأمل كلمة {قل} في كلام الرب سبحانه علم أنها على وجه يُراد منها التنبيه والتكرار، أي ذكرى بعد ذكرى، وعظمة بعد عظة، وإلا فما وجه ذكر الواسطة هنا - وهو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم - وقارىء القرآن المتعظ به يعلم متكلّمه ويعلم واسطة التبليغ له، لكنّه التشريف أولاً بالتنبيه على شرف الواسطة، ثم إفادة الإعادة والتكرار مرّة بعد مرة لحاجة الناس له من جهة وسرعة غيابه عنهم من جهة أخرى، فقل يا محمد {لعبادي} ولما كان الموطن موطن شرف ورفعة قدر، ولما كان الباب هو في المعالي كان هذا الخطاب لهم، والتذكير هم أحق به وأهله.
{يقولوا التي هي أحسن}...
والحسن جمال وتمام، لا يقع اسم الحسن إلاّ على اجتماعهما، وبتمامها تميل النفس إلى صاحبها، وترتاح له وتبتهج للقياه، والحسن يكون في الخلقة كما يكون في الخُلُق، كما يكون في القول، وههنا أمرٌ بحسن القول، ولا يكون القول حسناً إلا بفضل لانظم ورقة المعنى وتجنّب البذاءة والقبح، حينها يتغلغل إلى نفس المخاطب ويحصل المراد، وتقطع على الشيطان منافذه وسُبُله.
والقول الحسن هدية - كما قالوا - نعم الهدية ونعم العطية كلمةُ حكمة تطوي عليها ثم تبلغها أخاً لك في الله، والتلاق بين العبودية لله وبين القول الحسن بيّن ظاهر في هذه الآية، لأن خُلُق العبد لا يتجزّأ في وديان متضاربة، فحسن العمل مع الله لا يكون مع سوئه من الخلق "فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله".
ومن الأمور التي يجدر التنبيه عليها هي تلك الكلمة العظيمة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّل ما وطئت قدمه الشريفة المدينة النبوية، وهي أوّل كلمة قالها لتعبّر عن مقوّمات المجتمع المسلم، فقد قال عبد الله بن سلام - الإسرائيلي - أبو يوسف حليف بني الخزرج، وقد بُشِّر بالجنة كما في البخاري [1]، قال: لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة استشرفه الناس: أي رفع الناس أبصارهم يتطلعون إليه ، فقالوا: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم: فخرجتُ فيمن خرج فلمّا رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذّاب، فكان أوّل ما سمعته يقول: (يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام).
فانظر رعاك الله كيف جمع حسن العمل مع الله ورعاية العمل مع الخلق من إخوانه المسلمين.
ومن تفكّر في هذا علم عظمة هذا الدين وإحاطته لما يصلح النفس والبشر، وإلاّ فأي دين أعظم من أن يجعل تمام العبودية لا تقوم إلا على إحسان المرء للفظه وتقويمه للسانه وتثقيفه لمنطقه، وأيّ خير أعظم من هذا الذي لا يطلب من أتباعه الحسن فقط، بل يشدهم إلى الأحسن لا ليتمّ الفضل فقط، بل ليضع التفضيل أيضاً.
والناس من أهل هذا الدين في هجر وإعراض عن هذا الذي كان عليه أهل هذا الدين حقاً، فهذه أمّنا عائشة رضي الله عنها علمها في أشعار العرب لا يجهله عارفٌ بسيرتها، وكذا حال طلاب الشعر من تلاميذ ابن عباس رضي الله عنه وكذا رجال الحديث وعنايتهم لجودة ألسنتهم من خلال حسن اللفظ من نثر وشعر، وها هو الشافعي يمدحه عصريّه الجاحظ مدحاً لا يقوم لغيره من أهل اللغة، وقد قال الأصمعي: (أخذت شعر الهذليين من فتى في مكة يدعى محمد بن إدريس الشافعي)، وهذا كله جعل لعلومهم مع ما فيها من جودة الفهم وقوّة الاستنباط وعمق الإدراك حسناً آخر في صياغتها وأسلوبها.
ومقصد الآية الأول هو التنبيه على حسن القول، وهو دعوة قرآنية في كل باب من محادثة ومناظرة كما قال تعالى: {وجادلوهم بالتي هي أحسن} ، وكذا في رد واعتراض كما قال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن} لأن الحسن مطلوب في كل باب.
{إن الشيطان ينزع بينهم}...
هذا الصراع المتجدد والمتعدد، وهو الذي لا يقف عند حدّ ووقت، بل هو وقوف عند كل سبيل: وامتحان عند كلّ نفس، إنه الصراع بين العبودية لله - عبادي - وبين الشيطان.
حتى في هذا النوع من المواقف هو موقف حرب وابتلاء وطعن، كما هو واضح في قوله تعالى: {ينزع بينهم} والنزع هو الطعن، فتنبّه لهذا لتعلم أي خطورة خلقت فيها، وأي شيء يُراد منك وبك.
والآية تدلّ على أن الكلمة القبيحة الرذلة هي سلاح من أسلحة الشيطان، وهي مركب من مراكب حربه للمؤمنين، وهي باب من أبواب ولوجه على الإخوان ليعمل عمله، فيبيض ويفرح وتنمو ثماره النجسة، فإن قال العبد لأخيه أو في حديثه ما ليس حسناً حضر حينها الشيطان وأعمل عمله، والشيطان عدوّ، وبئس الرجل الذي يعطى عدوّه سلاحاً يضربه ويهلكه، بل يجب عليه عداؤه ومحاربته، وأعظم ما يضيق على الشيطان ويخضل به هو حسن الإخاء بين المؤمنين، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لقد يئس الشيطان أن يعبده المصلون لكنه التحريش بينهم).
فتأمل كيف كانت المرتبة التي تلي الشرك من مطالب الشيطان هي إحداث العداوات بين المسلمين، وإفساد ذات بينهم، وقطع أواصر الأخوة والمحبة التي تجمعهم.
ولمّا كان أمر النفس والهوى حاضراً في المعصية ومع الشيطان كان أمر الكلمة الحسنة شديداً على النفس، لأنّها تحتاج إلى التواضع وخفض الجناح وذهاب حظوظ المرء، فنفس المرء تميل وتهوى الانتصار على الغير، والكلمة الحسنة لا بدّ فيها من قطع حظوظ النفس والهوى لما فيها من خفض الجناح وكسر تطلّع النفس من الانتصار والغلبة.
وفي الآية دليل على أن الكلمة الحسنة هي مفتاح الخير بين الإخوان، وبها تجتمع القلوب وتأتلف فلا بدّ من تحرّيها والجهد في إصابتها ليقطع على الشيطان مراده.
وذكر الرب أمر النزغ هنا - وهو الطعن كما تقدّم - تنبيهٌ أن الكلمة السيئة هي آلة إبليس في حربه بين الإخوان وعلى المسلمين.
{إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً}...
هذا هو علّة الأمر الذي أرشد الله تعالى عباده إليه، وهو أنّ المرء والإنسان هو في حالة عداء تام ومتواصل مع هذا المخلوق الحقيقي - الشيطان - وهو من الشطط وهو البعد عن رحمة الله تعالى وهدايته وتوفيقه.
فالعلة هي هذا العداء الذي فرضه الشيطان على خصمه، ألا وهو الإنسان.
وانظر إلى هذه الفاصلة القرآنية حيث جعل العداء مع جنس الإنسان، مع أنّ الآية كان خطابها لعباد الله تعالى، وفي هذا تحريض لجنس الإنسان أن ينتبه إلى معيشه... ومجال خصومه وأصحابه، فالشيطان هو عدو الإنسان، وعداؤه بيّن واضح جليّ ما لو عقل الإنسان هذا وصدّق خبر العليم الخبير.
وعوداً على أهمية حسن الخطاب وتحرّي أحسنه وأجمله الذي أمرنا الله تعالى به وحضّنا عليه ونبّهنا إلى أهميّته؛
وفي ذلك يقول أهل المعرفة بهذا؛ الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في وعظه أهل الجهل والمعاصي والرذائل واجب، فمن وعظ بالجفاء والاكفهرار فقد أخطأ وتعدّى طريقته وصار في أكثر الأمور مغرياً للموعوظ بالتمادي على أمره لجاجاً ومرداً ومغايظة للواعظ الجافي، فيكون في وعظه مسيئاً لا محسناً، ومن وعظ ببشر وتبسّم ولين وكأنه مشيرٌ برأي ومخبر عن غير الموعوظ بما يستقبح من الموعوظ فذلك أبلغ وأنجع في الموعظة، فإن لم يتقبّل فلينتقل إلى لاوعظ بالتحشيم وفي الخلاء، فإن لم يقبل ففي حضرة من يستحي منه الموعوظ، فهذا أدب الله تعالى في أمره بالقول الليّن، وكان صلى الله عليه وسلم لا يواجه بالموعظة لكن كان يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا)، وقد أثنى عليه الصلاة والسلام على الرفق وأمر بالتيسير، ونهى عن التنفير، وكان يتحوّل بالموعظة خوف الملل ، وقال تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}.
وهكذا أخي الحبيب اجعل رسولك إلى أخيك كلمة حسن يجمع الله تعالى بها بين قلبيكما، وإيّاك ورسل وركائب الشيطان، فإنّما هي أسلحته في التحريش بين الإخوان.
والله الموفق.