- الثقـافـة وخطـاب اللـذة:
لم يكن الحديث عن اللذة، إلى وقت قريب، يستأثر باهتمام دارسي الأدب والفن في الثقافة العربية. بل إن أي خطاب عنها كان مستحيلا مادامت كل محاولـة من هذا القبيل لا مناص من أن تـؤدي بصاحبها نحـو ملامسة مناطـق حساسة في جسد الثقافة العربية كالدين والأخلاق والمقدس بصفة عامة. ولعل انفتاح هذه الثقافة على نظيرتها الغربية كان من بين أهم العوامل الأساسية في نشوء ما يمكن تسميته بخطاب اللذة. وقد وجد هذا الخطاب في المجال الأدبي والفني مجالا خصبا للنشأة والتكوين.
فإذا عدنا إلى الثقافة الغربية نجد أن اللذة استأثرت باهتمام الكل وشكَّلَت موضوعا للتفكير الشعبي والعلمي والفلسفي على حد سواء وتجلى هذا في «التنميقات الجدلية للرواقيين الذين تحدَّوها، والمتعيين «Hédonistes» الذين طالبوا بها،والأفلاطونيين والأرسطيين الذين يدعون وضعها في مكانها اللائق، قبل أن يقترح لها كل من بنتام Bentham وستيوارت ميل Stuart Mill حسابا. فهذه الإشكالية أبعد ما تكون عن الانتهاء مادام هربرت ماركوز Herbert Marcuse يتساءل، مسترجعا رؤية شيلر Shiller، ما إذا كان المجتمع الصناعي القائم قادرا - بعد التعارض بين اللذة والعمل الذي أكدته الصناعة الناشئة - على خلق عالم يلتقي فيه هذان المطلبان» (1-764).
وتشكل اللذة مفارقة أساسية من مفارقات الثقافة الغربية خصوصا وأن الإنسان الغربي بحكم تجريديته «Abstraction» وفعاليته «Activisme» في آن واحد، خلق هوَّةً بين جسده ومحيطه. فالتجريدية «دفعته نحو اعتبار اللذة حالة وعي، والفعالية (التي تذهب إلى حد اعتبار الله فعلا خالصا) كان طبيعيا أن تجعله يعتبر هذه اللذة - الوعي كمحفز بسيط أو مثير للفعل» (1-766). وقد ترتب عن هذه المفارقة نوع من الحرمان من اللذات من جهة، وتشكل، من جهة أخرى، نوع من الإحساس الإيجابي إزاء اللذة الجمالية «Plaisir esthétique»، أي اللذة المرتبطة أساسا بمجال الإبداع.
علاوة على هذا، ظهرت ردود فعل متطرفة تمثلت إما في «جر اللذات نحو التلذذ الكلامي البسيط (حكايات لافونتين La Fontaine)، أو على العكس من ذلك، نحو «القـذارة» التـي تحـدث عنهـا سيليـن Céline بعد هوراس Horace» (1-766).
ويبدو أن الثقافة العربية، على الرغم من حضور اللذة فيها كموضوع إبداعي منذ البدايات الأولى للشعر العربي، وعلى الرغم من بروز بعض المظاهر المتطرفة للذة الملعونة (ظاهرة الغلاميات)، إلا أن التفكير في الموضوع وإنشاء خطاب حول اللذة لم يبدأ في التشكل إلا عندما تمَّ الانفتاح على أدبيات التحليل النفسي وشرع بعض الدراسين في ترجمتها واستثمار أدواتها في قراءة الإبداع العربي (أفكر هنا في ما قام به العقاد والنويهي ومصطفى ناصف وجورج طرابيشي وغيرهم). وسيتم تركيز التفكير في موضوع اللذة في علاقته بالمجال الأدبي خصوصا بعد اطلاع الثقافة العربية على مظاهر الحداثة الأدبية الغربية وعلى أعمال العديد من رموزها الذين أَرْسَوْا قواعد خطاب اللذة كرولان بارث Roland Barthes الذي يعد كتابه «لذة النص» دستورا للغواية الأدبية.
2 - اللذة الجماليـــة
يعد الفن باعتباره ممارسة إبداعية جمالية ملاذا أساسيا للذة استطاعت أن تحقق عبره مصالحة بينها وبين نقيضها الأساس الذي هو الأخلاق. ولعل هذا ما حدث فعلا في الثقافة الغربية بالخصوص حيث أكد هربرت ماركوز أن التناقض الذي فرضته طبيعة المجتمع الصناعي بين العمل واللذة جعل الهوة أكثر اتساعا بين اللذة والأخلاق. وقد تمَّ تجسير هذه الهوة عبر تجميل «Esthétisation» الحياة اليومية الذي «يذكرنا بأنه بواسطة اللذة الجمالية، في الغالب، حاولت اللذة والأخلاق في الغرب أن يحققا التصالح» (1-764).
والحديث عن اللذة الجمالية المرتبطة بالفن يجر بالضرورة نحو الحديث عن الفن كممارسة تخيلية. في هذا الإطار، غالبا ما تمَّ الربط خصوصا في الكتابات التحلينفسية - بين الفن والحلم أو الفن واللعب. ففيما يخص العلاقة بين الفن والحلم ترى سارة كوفمان Sarah Koffman أن العمل الفني يشبه الحلم من حيث تعبيره عن استيهامات المبدع، أي عن السيناريوهات المتخيلة التي تجسد رغبة لاشعورية، ومن حيث تشغيله آليات الحلم كالتعويض والتحويل والتصوير وغيره. إلا أن الفرق بين الفن والحلم يكمن في كون «لغة الفن ينبغي أن تكون مفهومة وتواصلية لأن الفن نتاج ثقافي ذو وظيفة اجتماعية» (2-157).
والمقصود بهذا القول أن الفن بقدر ما يشغل رغبات الفنان بقدر ما تكون له صلة برغبات متلقي هذا الفن وبالمجتمع عموما، من ثم «فالتمثيل والأثر Affect متلازمان» (2-157). مما يحتم بالضرورة تحكم سيرورات الوعي وما قبل الوعي عند الفنان في سيرورة اللاوعي، وضبطها له على عكس الحلم الذي ينفلت من هذا التحكم والضبط. ويعتمد الفن في هذا الضبط على وسيلة أساسية لتحقيق الأثر «Effet d’affect» تسميها كوفمان بالتركيبة الرمزية «Combinatoire symbolique» والمقصود بها أن شروط حصول اللذة عند المتفرج هي الاستيهامات المقنعة للفنان وعمله الشكلي، فهو «يستطيع الإغراء بواسطة الجمال الذي يخلقه، وذلك بتحويل الاهتمام، ورفع المنع والتمتع من جديد بالاستيهامات المكبوتة» (2-170). هذا الأثر الذي يستشعره المتلقي إزاء العمل الفني هو الذي عبَّرَ عنه فرويد بأثر المتعة «Effet de plaisir» وشرحه في دراسة له عن النكتة وعلاقتها باللاشعور، حيث رأى أن هذا الأثر ينشأ نتيجة عاملين: التقنية الخاصة (تعويض، تحويل..) والنزعة الموجودة في الكلمة (عدوانية أو إيروسية). وكلاهما له علاقة بسيرورات الحلم، إلا أن الفرق يكمن في كون هذه السيرورات مستعملة في النكتة بطريقة قصدية.
وفيما يخص علاقة الفن باللعب ترى الدراسات التحلينفسية أن هناك علاقة تشابه بين اللعب الفني ولعب الأطفال رغم أن الأول يتميز عن الثاني بكونه موجها أساسا نحو طرف آخر هو المتلقي من أجل إبلاغه إحساسات وانطباعات معينة تكون مصدر اللذة. فالفنان هو، في نهاية الأمر، طفل «يحاول بواسطة لعب العمليات النفسية اللاواعية - لعب التأثيرات في تحولها والتمثيلات في التركيبة - تقليد ما يقوم به الطفل بواسطة ألعابه قبل أن يتدخل العقل والحكم لفرض ضغوطهما. فالإنسان المحترم الذي هو الفنان ليس في العمق سوى طفـل يمنـح النـاس الآخـريـن بـدورهـم فـرحـة القـدرة علـى الحصـول علـى جنـة الطفـولة» (2-168/169). وجعل المتلقي يحصل على جنته لا يعني أن الفن خال من الجدية لأن «الحديث عن اللعب ليس جعل الفن نشاطا خاليا من الجدية. فاللعب ليس مقابلا للجاد وإنما للواقع» (2-169). ولعل هذا التقابل بين الفن والواقع هو الذي يؤكد أن الفن باعتباره ممارسة تخيلية شبيهة باللعب قادر على تحقيق لذة المبدع والمتلقي في آن واحد. وتحقيق اللذة - في منظور التحليل النفسي - له علاقة بالرغبات المكبوتة، وبالتالي بالإطار الذي يحتضن هذه الرغبات وهو اللاشعور. ولعل هذا ما جعل فرويد يؤكد على ضرورة التفكير في مسألة اللذة من زاوية ميتاسيكولوجية، وآية ذلك أننا، مثلا، «إذا استشعرنا نوعا من الرعب بمشاهدتنا لأوديب ملكا، فلأن إحدى رغباتنا الطفولية المكبوتة تعرض على الخشبة؛ الرعب لأننا الآن كبار وينبغي لنا أن نحتفظ بهذه الرغبة المكبوتة، واللذة، في المقابل، لأن الرغبة مقنعة ولأننا سعداء بالانتقال، بفضل الفن، نحو حالة الطفولة التي تعتبر دائما مثالية» (2-161). وهذه اللذة التي مصدرها الفن لا تتحقق دفعة واحدة ولا تكون بنفس القوة في كل الحالات، وإنما تخضع لمراحل يميز فيها فرويد بين مرحلتين أساسيتين تسمى الأولى باللذة الأولية والثانية باللذة النهائية، ويشرح هذه الثنائية في علاقتها بمفهوم الجمال.
فإذا كان مفهوم الجميل عنده يتحدد بكونه «كل ما يثير جنسيا»، فإن جمال الجسد يزود بلذة أولية تتمثل في الإثارة، هذه الأخيرة تعمل على رفع المنع والسماح بتحقيق لذة نهائية تتمثل، جنسيا، في التقاء الأعضاء الجنسية. والفن بدوره - باعتباره ممارسة جمالية - تتحقق فيه هذه الثنائية اللذية. فالجمال في الفن «يلعب دور مكافأة الإغراء Prime de séduction، ويسمح بإفراغ الميول المكبوتة. فاللذة الصغرى أثارت هنا لذة أكبر كُبِتَ مصدرها» (2-163/164).
إذا كان حديث فرويد عن الثنائية اللذية في الفن يؤكد أن اللذة الجمالية لا تحصل عند متلقي هذا الفن إلا عبر مراحل، فإن حديثه عن مبدأ «التحميس الجمالي Exaltation esthétique» المأخوذ عن فشنر Fechner، حاول أن يثبت من خلاله أن تأثير حصيلة جماع لذات مختلفة والتقائها في لحظة واحدة يكون أقوى من تأثيرات كل لذة منفردة ومأخوذة بشكل منعزل. ولعل هذا ما جعل من اللذة الجمالية «لذة ممزوجة» - كما ترى سارة كوفمان - يصعب تحديد كل جزء من مختلف العوامل التي تتركب منها وتساهم في تحقيق التأثير العام.
إلا أن هذا الارتباط بين الفن واللذة انطلاقا من كون الفن شبيها بالحلم من جهة، وباللعب من جهة أخرى، لا ينبغي أن يحجب عنا بعدا أساسيا في هذا الفن المثير للذة، وهو علاقته بالواقع. وهذا يجرنا نحو إشكالية أساسية استأثرت باهتمام فرويد أولاً، واستعادها بشكل مغاير هربرت ماركوز، وهي موقع الفن كمتخيل بين ما سُمِّيَ بمبدأ اللذة «Principe de plaisir» ومبدأ الواقع «Principe de réalité» باعتبارهما المبدأين الأساسيين المتحكمين في اشتغال العقل الإنساني. فمبدأ اللذة يعمل على تفادي اللاَّلَذَّة «Déplaisir» المرتبطة بتصاعد كميات الإثارة، وعلى تحقيق اللذة المتمثلة في تقليص هذه الكميات وتحقيق الإشباع (3-332)، في حين يشكل مبدأ الواقع «زوجا مع مبدأ اللذة بحيث يغيره: فما دام ينجح في فرض نفسه كمبدأ ضابط، فإن الإشباع لا يتحقق بأقصر الطرق، وإنما يستعمل طرقا ملتوية ويؤجل نتيجته تبعا للشروط المفروضة من العالم الخارجي» (3-336).
في هذا الإطار يرى هربرت ماركوز أن للغرائز علاقة وطيدة بالمحيط السوسيو-تاريخي تجعل مبدأ اللذة يتحول إلى مبدأ الواقع. وهذا التحول لا يتحقق على مستوى شكل اللذة وزمنها وحسب، وإنما يتحقق أيضا على مستوى محتوى هذه اللذة. فمبدأ الواقع يعمل على إخضاع وتحويل القوة المدمرة للإشباع الغريزي ولا توافقه مع المعايير الاجتماعية. بعبارة واحدة، يخضع مبدأ الواقع اللذة لعملية تحويل المحتوى «Transubstanciation» (4-25). وبفضل هذا التحويل والإخضاع يصبح الكائن الإنساني «أنا منظمة Moi organisé» تناضل من أجل ما هو نافع لمحيطها الحيوي، وتصبح اللذة مكيفة مع شروط العمل والحركة التي تفرضها طبيعة المجتمع والحضارة. وبفضل مبدأ الواقع ينمي الكائن الإنساني وظيفة العقل ويكتسب قدرات مختلفة كالاهتمام والتذكر والحكم ويصبح بالتالي ذاتا واعية.
إلا أن عملية التحول هاته من مبدأ اللذة إلى مبدأ الواقع، وإن كانت تمس مختلف جوانب البناء العقلي للكائن، إلا أن نشاطا فكريا واحدا يبقى خارج دائرة هذا التحول وهذا التنظيم الجديد، ألا وهو المتخيل، لأنه يبقى محميا من التغيير الذي تفرضه الحضارة، ومرتبطا بمبدأ اللذة. ولعل هذا ما يؤكده فرويد الذي يرى «أن المتخيل يبقى القيمة العقلية الوحيدة التي تظل متحررة إلى حد كبير من مبدأ الواقع حتى داخل مجال الوعي المتطور نفسه» (4 - 128). والمتخيل ببقائه بعيدا عن إكراهات مبدأ الواقع، يعيش، مثله مثل اللعب والحلم، الحرية عوض القمع والرغبة عوض العقل. لذا، يرى ماركوز «أن للخيال، باعتباره سيرورة عقلية مستقلة أساسية، قيمة حقيقية خاصة تطابق تجربته الخاصة، تجربة تجاوز الواقع الإنساني المتناقض. فالخيال يتصور مصالحة الفرد مع الكل، الرغبة مع تحقيقها، والسعادة مع العقل. ففي الوقت الذي يرمى بهذا الانسجام في إطار اليوتوبيا من لدن مبدأ الواقع المسيطر، يؤكد الخيال على كونه يجب أن يكون واقعيا، وعلى أن وراء الخيال توجد المعرفة» (4 - 130). فالخيال، من هذا المنظور، وبحكم «وظيفته المعرفية» التي أكَّدَ عليها يونغ Jung أكثر من فرويد، يمكنه أن يتحول إلى واقع لأنه يحمل حقائقه الخاصة التي يحققها عن طريق خلق عالم قابل للإدراك
(التكملة بصفحة إلي تحت)
لم يكن الحديث عن اللذة، إلى وقت قريب، يستأثر باهتمام دارسي الأدب والفن في الثقافة العربية. بل إن أي خطاب عنها كان مستحيلا مادامت كل محاولـة من هذا القبيل لا مناص من أن تـؤدي بصاحبها نحـو ملامسة مناطـق حساسة في جسد الثقافة العربية كالدين والأخلاق والمقدس بصفة عامة. ولعل انفتاح هذه الثقافة على نظيرتها الغربية كان من بين أهم العوامل الأساسية في نشوء ما يمكن تسميته بخطاب اللذة. وقد وجد هذا الخطاب في المجال الأدبي والفني مجالا خصبا للنشأة والتكوين.
فإذا عدنا إلى الثقافة الغربية نجد أن اللذة استأثرت باهتمام الكل وشكَّلَت موضوعا للتفكير الشعبي والعلمي والفلسفي على حد سواء وتجلى هذا في «التنميقات الجدلية للرواقيين الذين تحدَّوها، والمتعيين «Hédonistes» الذين طالبوا بها،والأفلاطونيين والأرسطيين الذين يدعون وضعها في مكانها اللائق، قبل أن يقترح لها كل من بنتام Bentham وستيوارت ميل Stuart Mill حسابا. فهذه الإشكالية أبعد ما تكون عن الانتهاء مادام هربرت ماركوز Herbert Marcuse يتساءل، مسترجعا رؤية شيلر Shiller، ما إذا كان المجتمع الصناعي القائم قادرا - بعد التعارض بين اللذة والعمل الذي أكدته الصناعة الناشئة - على خلق عالم يلتقي فيه هذان المطلبان» (1-764).
وتشكل اللذة مفارقة أساسية من مفارقات الثقافة الغربية خصوصا وأن الإنسان الغربي بحكم تجريديته «Abstraction» وفعاليته «Activisme» في آن واحد، خلق هوَّةً بين جسده ومحيطه. فالتجريدية «دفعته نحو اعتبار اللذة حالة وعي، والفعالية (التي تذهب إلى حد اعتبار الله فعلا خالصا) كان طبيعيا أن تجعله يعتبر هذه اللذة - الوعي كمحفز بسيط أو مثير للفعل» (1-766). وقد ترتب عن هذه المفارقة نوع من الحرمان من اللذات من جهة، وتشكل، من جهة أخرى، نوع من الإحساس الإيجابي إزاء اللذة الجمالية «Plaisir esthétique»، أي اللذة المرتبطة أساسا بمجال الإبداع.
علاوة على هذا، ظهرت ردود فعل متطرفة تمثلت إما في «جر اللذات نحو التلذذ الكلامي البسيط (حكايات لافونتين La Fontaine)، أو على العكس من ذلك، نحو «القـذارة» التـي تحـدث عنهـا سيليـن Céline بعد هوراس Horace» (1-766).
ويبدو أن الثقافة العربية، على الرغم من حضور اللذة فيها كموضوع إبداعي منذ البدايات الأولى للشعر العربي، وعلى الرغم من بروز بعض المظاهر المتطرفة للذة الملعونة (ظاهرة الغلاميات)، إلا أن التفكير في الموضوع وإنشاء خطاب حول اللذة لم يبدأ في التشكل إلا عندما تمَّ الانفتاح على أدبيات التحليل النفسي وشرع بعض الدراسين في ترجمتها واستثمار أدواتها في قراءة الإبداع العربي (أفكر هنا في ما قام به العقاد والنويهي ومصطفى ناصف وجورج طرابيشي وغيرهم). وسيتم تركيز التفكير في موضوع اللذة في علاقته بالمجال الأدبي خصوصا بعد اطلاع الثقافة العربية على مظاهر الحداثة الأدبية الغربية وعلى أعمال العديد من رموزها الذين أَرْسَوْا قواعد خطاب اللذة كرولان بارث Roland Barthes الذي يعد كتابه «لذة النص» دستورا للغواية الأدبية.
2 - اللذة الجماليـــة
يعد الفن باعتباره ممارسة إبداعية جمالية ملاذا أساسيا للذة استطاعت أن تحقق عبره مصالحة بينها وبين نقيضها الأساس الذي هو الأخلاق. ولعل هذا ما حدث فعلا في الثقافة الغربية بالخصوص حيث أكد هربرت ماركوز أن التناقض الذي فرضته طبيعة المجتمع الصناعي بين العمل واللذة جعل الهوة أكثر اتساعا بين اللذة والأخلاق. وقد تمَّ تجسير هذه الهوة عبر تجميل «Esthétisation» الحياة اليومية الذي «يذكرنا بأنه بواسطة اللذة الجمالية، في الغالب، حاولت اللذة والأخلاق في الغرب أن يحققا التصالح» (1-764).
والحديث عن اللذة الجمالية المرتبطة بالفن يجر بالضرورة نحو الحديث عن الفن كممارسة تخيلية. في هذا الإطار، غالبا ما تمَّ الربط خصوصا في الكتابات التحلينفسية - بين الفن والحلم أو الفن واللعب. ففيما يخص العلاقة بين الفن والحلم ترى سارة كوفمان Sarah Koffman أن العمل الفني يشبه الحلم من حيث تعبيره عن استيهامات المبدع، أي عن السيناريوهات المتخيلة التي تجسد رغبة لاشعورية، ومن حيث تشغيله آليات الحلم كالتعويض والتحويل والتصوير وغيره. إلا أن الفرق بين الفن والحلم يكمن في كون «لغة الفن ينبغي أن تكون مفهومة وتواصلية لأن الفن نتاج ثقافي ذو وظيفة اجتماعية» (2-157).
والمقصود بهذا القول أن الفن بقدر ما يشغل رغبات الفنان بقدر ما تكون له صلة برغبات متلقي هذا الفن وبالمجتمع عموما، من ثم «فالتمثيل والأثر Affect متلازمان» (2-157). مما يحتم بالضرورة تحكم سيرورات الوعي وما قبل الوعي عند الفنان في سيرورة اللاوعي، وضبطها له على عكس الحلم الذي ينفلت من هذا التحكم والضبط. ويعتمد الفن في هذا الضبط على وسيلة أساسية لتحقيق الأثر «Effet d’affect» تسميها كوفمان بالتركيبة الرمزية «Combinatoire symbolique» والمقصود بها أن شروط حصول اللذة عند المتفرج هي الاستيهامات المقنعة للفنان وعمله الشكلي، فهو «يستطيع الإغراء بواسطة الجمال الذي يخلقه، وذلك بتحويل الاهتمام، ورفع المنع والتمتع من جديد بالاستيهامات المكبوتة» (2-170). هذا الأثر الذي يستشعره المتلقي إزاء العمل الفني هو الذي عبَّرَ عنه فرويد بأثر المتعة «Effet de plaisir» وشرحه في دراسة له عن النكتة وعلاقتها باللاشعور، حيث رأى أن هذا الأثر ينشأ نتيجة عاملين: التقنية الخاصة (تعويض، تحويل..) والنزعة الموجودة في الكلمة (عدوانية أو إيروسية). وكلاهما له علاقة بسيرورات الحلم، إلا أن الفرق يكمن في كون هذه السيرورات مستعملة في النكتة بطريقة قصدية.
وفيما يخص علاقة الفن باللعب ترى الدراسات التحلينفسية أن هناك علاقة تشابه بين اللعب الفني ولعب الأطفال رغم أن الأول يتميز عن الثاني بكونه موجها أساسا نحو طرف آخر هو المتلقي من أجل إبلاغه إحساسات وانطباعات معينة تكون مصدر اللذة. فالفنان هو، في نهاية الأمر، طفل «يحاول بواسطة لعب العمليات النفسية اللاواعية - لعب التأثيرات في تحولها والتمثيلات في التركيبة - تقليد ما يقوم به الطفل بواسطة ألعابه قبل أن يتدخل العقل والحكم لفرض ضغوطهما. فالإنسان المحترم الذي هو الفنان ليس في العمق سوى طفـل يمنـح النـاس الآخـريـن بـدورهـم فـرحـة القـدرة علـى الحصـول علـى جنـة الطفـولة» (2-168/169). وجعل المتلقي يحصل على جنته لا يعني أن الفن خال من الجدية لأن «الحديث عن اللعب ليس جعل الفن نشاطا خاليا من الجدية. فاللعب ليس مقابلا للجاد وإنما للواقع» (2-169). ولعل هذا التقابل بين الفن والواقع هو الذي يؤكد أن الفن باعتباره ممارسة تخيلية شبيهة باللعب قادر على تحقيق لذة المبدع والمتلقي في آن واحد. وتحقيق اللذة - في منظور التحليل النفسي - له علاقة بالرغبات المكبوتة، وبالتالي بالإطار الذي يحتضن هذه الرغبات وهو اللاشعور. ولعل هذا ما جعل فرويد يؤكد على ضرورة التفكير في مسألة اللذة من زاوية ميتاسيكولوجية، وآية ذلك أننا، مثلا، «إذا استشعرنا نوعا من الرعب بمشاهدتنا لأوديب ملكا، فلأن إحدى رغباتنا الطفولية المكبوتة تعرض على الخشبة؛ الرعب لأننا الآن كبار وينبغي لنا أن نحتفظ بهذه الرغبة المكبوتة، واللذة، في المقابل، لأن الرغبة مقنعة ولأننا سعداء بالانتقال، بفضل الفن، نحو حالة الطفولة التي تعتبر دائما مثالية» (2-161). وهذه اللذة التي مصدرها الفن لا تتحقق دفعة واحدة ولا تكون بنفس القوة في كل الحالات، وإنما تخضع لمراحل يميز فيها فرويد بين مرحلتين أساسيتين تسمى الأولى باللذة الأولية والثانية باللذة النهائية، ويشرح هذه الثنائية في علاقتها بمفهوم الجمال.
فإذا كان مفهوم الجميل عنده يتحدد بكونه «كل ما يثير جنسيا»، فإن جمال الجسد يزود بلذة أولية تتمثل في الإثارة، هذه الأخيرة تعمل على رفع المنع والسماح بتحقيق لذة نهائية تتمثل، جنسيا، في التقاء الأعضاء الجنسية. والفن بدوره - باعتباره ممارسة جمالية - تتحقق فيه هذه الثنائية اللذية. فالجمال في الفن «يلعب دور مكافأة الإغراء Prime de séduction، ويسمح بإفراغ الميول المكبوتة. فاللذة الصغرى أثارت هنا لذة أكبر كُبِتَ مصدرها» (2-163/164).
إذا كان حديث فرويد عن الثنائية اللذية في الفن يؤكد أن اللذة الجمالية لا تحصل عند متلقي هذا الفن إلا عبر مراحل، فإن حديثه عن مبدأ «التحميس الجمالي Exaltation esthétique» المأخوذ عن فشنر Fechner، حاول أن يثبت من خلاله أن تأثير حصيلة جماع لذات مختلفة والتقائها في لحظة واحدة يكون أقوى من تأثيرات كل لذة منفردة ومأخوذة بشكل منعزل. ولعل هذا ما جعل من اللذة الجمالية «لذة ممزوجة» - كما ترى سارة كوفمان - يصعب تحديد كل جزء من مختلف العوامل التي تتركب منها وتساهم في تحقيق التأثير العام.
إلا أن هذا الارتباط بين الفن واللذة انطلاقا من كون الفن شبيها بالحلم من جهة، وباللعب من جهة أخرى، لا ينبغي أن يحجب عنا بعدا أساسيا في هذا الفن المثير للذة، وهو علاقته بالواقع. وهذا يجرنا نحو إشكالية أساسية استأثرت باهتمام فرويد أولاً، واستعادها بشكل مغاير هربرت ماركوز، وهي موقع الفن كمتخيل بين ما سُمِّيَ بمبدأ اللذة «Principe de plaisir» ومبدأ الواقع «Principe de réalité» باعتبارهما المبدأين الأساسيين المتحكمين في اشتغال العقل الإنساني. فمبدأ اللذة يعمل على تفادي اللاَّلَذَّة «Déplaisir» المرتبطة بتصاعد كميات الإثارة، وعلى تحقيق اللذة المتمثلة في تقليص هذه الكميات وتحقيق الإشباع (3-332)، في حين يشكل مبدأ الواقع «زوجا مع مبدأ اللذة بحيث يغيره: فما دام ينجح في فرض نفسه كمبدأ ضابط، فإن الإشباع لا يتحقق بأقصر الطرق، وإنما يستعمل طرقا ملتوية ويؤجل نتيجته تبعا للشروط المفروضة من العالم الخارجي» (3-336).
في هذا الإطار يرى هربرت ماركوز أن للغرائز علاقة وطيدة بالمحيط السوسيو-تاريخي تجعل مبدأ اللذة يتحول إلى مبدأ الواقع. وهذا التحول لا يتحقق على مستوى شكل اللذة وزمنها وحسب، وإنما يتحقق أيضا على مستوى محتوى هذه اللذة. فمبدأ الواقع يعمل على إخضاع وتحويل القوة المدمرة للإشباع الغريزي ولا توافقه مع المعايير الاجتماعية. بعبارة واحدة، يخضع مبدأ الواقع اللذة لعملية تحويل المحتوى «Transubstanciation» (4-25). وبفضل هذا التحويل والإخضاع يصبح الكائن الإنساني «أنا منظمة Moi organisé» تناضل من أجل ما هو نافع لمحيطها الحيوي، وتصبح اللذة مكيفة مع شروط العمل والحركة التي تفرضها طبيعة المجتمع والحضارة. وبفضل مبدأ الواقع ينمي الكائن الإنساني وظيفة العقل ويكتسب قدرات مختلفة كالاهتمام والتذكر والحكم ويصبح بالتالي ذاتا واعية.
إلا أن عملية التحول هاته من مبدأ اللذة إلى مبدأ الواقع، وإن كانت تمس مختلف جوانب البناء العقلي للكائن، إلا أن نشاطا فكريا واحدا يبقى خارج دائرة هذا التحول وهذا التنظيم الجديد، ألا وهو المتخيل، لأنه يبقى محميا من التغيير الذي تفرضه الحضارة، ومرتبطا بمبدأ اللذة. ولعل هذا ما يؤكده فرويد الذي يرى «أن المتخيل يبقى القيمة العقلية الوحيدة التي تظل متحررة إلى حد كبير من مبدأ الواقع حتى داخل مجال الوعي المتطور نفسه» (4 - 128). والمتخيل ببقائه بعيدا عن إكراهات مبدأ الواقع، يعيش، مثله مثل اللعب والحلم، الحرية عوض القمع والرغبة عوض العقل. لذا، يرى ماركوز «أن للخيال، باعتباره سيرورة عقلية مستقلة أساسية، قيمة حقيقية خاصة تطابق تجربته الخاصة، تجربة تجاوز الواقع الإنساني المتناقض. فالخيال يتصور مصالحة الفرد مع الكل، الرغبة مع تحقيقها، والسعادة مع العقل. ففي الوقت الذي يرمى بهذا الانسجام في إطار اليوتوبيا من لدن مبدأ الواقع المسيطر، يؤكد الخيال على كونه يجب أن يكون واقعيا، وعلى أن وراء الخيال توجد المعرفة» (4 - 130). فالخيال، من هذا المنظور، وبحكم «وظيفته المعرفية» التي أكَّدَ عليها يونغ Jung أكثر من فرويد، يمكنه أن يتحول إلى واقع لأنه يحمل حقائقه الخاصة التي يحققها عن طريق خلق عالم قابل للإدراك
(التكملة بصفحة إلي تحت)