لم يكن قطاً عاديا رغم الشعر الرمادي القصير الذي يغطي جسمه واللون الأخضر المميز لعينيه الصغيرتين والمواء الذي يصدر متتابعا وفق نغمات وطبقات مختلفة بحسب الظروف والأحوال فالمواء يكون متقطعا وغليظاً أقرب إلى الصراخ عندما تنشب معركة حول السيادة أوتملك طعام أو بيت ، ويرق هذا المواء ويصل إلى درجات متفاوتة من الرقة عندما ينادي على قطة أو أخرى في مواسم التزاوج.
الغريب أنني لم أعثرُ على هذا القط ولكنه عثر علي بدأت زياراته إلى جوار بيتنا تزداد لم اكترث له في البداية ، أصبح يموء بصوت عالي يثير أعصابي وخوفي ،
لم أكن في قرارة نفسي أحمل أي مشاعر للقطط ، تصورتها مجرد كائنات فضولية قمامة ، تشبه الإنسان المحتال الذي يضطر للتمرغ في كل الجهات الأجساد ، التراب ، الجدران ـ لايهم ـ للحصول على لقمة أو أكثر، تلك الحاجة التي دفعت ب" صالح" الذي كان مناقضاً لأسمه تماما ـ بجلب كرتون من الحجم الكبير وملأه بكمية هائلة من بقايا السمك المتروك خلف بيته ، ترك الكرتون في العراء لفترة من الزمن ، لتصل الرائحة إلى أنوف قطط الحارة ، لم أشارك في هذه اللعبة الخطرة ، وقفت أترقب مع صالح الذي امسك بعصا طويلة منتظرا لحظة الصراع ، في وقت قصير، ازداد عدد القطط وتكاثف المواء بشكل كبير ، والقطط مابين دخول وخروج والكرتون الكبير يعيق حركتها وهجم صالح دون أي مقدمات لوح بالعصا بقوة تدافعت القطط بقوة واشتد الضرب والمواء بلا توقف ، نظرتُ إلى صالح من خلف الجدار كان مبتسماً يضحك والضرب والمواء استمر لفترة طويلة وكلام صالح لم يتوقف وهو يصف الضحايا على حد قوله " القطة الأولى نجت بينما قطة كبيرة علقت في الكرتون ونالت نصيبها من الضرب أما أصغر هذه القطط انقلبت على ظهرها وتغير صوتها إلى مواء حاد وركضت أخيراً وعرج واضح في رجلها اليمنى و........"
لم استمع إلى باقي كلام صالح وتركته يواصل حديثه مستمتعا بلذة العقاب الذي أوقعه بالقطط، رغم تصريحه بضعفي وخوفي وتضيعي لهذه الفرصة التي جعلته محاربا قويا............. ذكريات .............
لثلاثة أيام متواصلة استمر حضور القط الهزيل بالليل بجوار بوابة منزلنا بشكل متقطع ، قررتُ في لحظات قليلة أن اتركه يتمرغ ويموء لأنه في النهاية سيترك بيتنا عندما لايجد ردة فعل تناسب طموحه في نيل الطعام ، وكان دوران القط الغبي يثير في رأسي أسئلة مبهمة قضيت عليها بتشاغلي الدائم بكتبي وتصحيح اوراق الاختبارات، وذهني شارد في أخر عبارة كتبتها لمن أحببت " أنت دائماً بعيداً عني مثل ما أنا بعيدة عنك !! "
وصدقت كلمة أبي رحمه الله:
" تأكل الورق ليل نهار ، وما يعلق شئ في رأسك ".
لم يعلق شئ في رأسي منذ فترة ، العودة إلى البيت من المدرسة أضحى رحلة روتينية ، حاولتُ تقليصها بعدة اتصالات مختصره لا اذكر منها سوى السلام ،و وجه أمي الشاحب الحزين ، وجوه أخواتي الصامتة ، كتبي المبعثرة ، اختي الهاربه من كل شئ حتى من نفسها بعد فقدان ابنها الصغير في حادث مروع ... كلها في الليل تتحول إلى ذئاب تعوي على رأسي الذي يكاد يتمدد إلى حد التخمة ويصبح أقرب إلى الأنفجار والغريب أنني في الصباح أجده خاوياً من كل شئ ، فارغاً كعادته.
لاأذكر اللحظة الأولى لاقتراب القط مني ، ولا المصادفة التي أوقعت قطعة اللحم على الأرض بحيث اعتقد القط بفطرة الحيوان داخله أنها بداية لصداقة جديدة ، التهم قطعة اللحم الأولى بسرعة كبيرة واقترب مني ممنيا النفس بقطعة أخرى ، لم أتضايق ولم اخف وتركت الصحن الذي خصصته له بجانبه وبدأ لسانه الخشن يلتهم ما علق في الصحن.
تذكرت طريقة صالح المضحكة في الأكل، ولقائي الأخير به ، أصبح أكبر من عمره الزمني بكثير ، تشاغل بتنظيف السيارات ورفع صوت المسجل وزادت المسافات بيننا إلى حد الذوبان ، شبهته بالقط الذي ينتقل من مكان إلى آخر دون أن يعرف ما الذي يريده ولماذا يريده ؟! ووصفني بالغريب الذي عاد ليفتش عما ضيعه بيده ، متوقعا أن يجده بين يديه كما تركه!
توطدت علاقتي بالقط بعد تلك الحادثة، كثرت زياراته لي فقد كان ينتظرني بجوار بوابة بيتنا، رغم انه لم يتجاوز الخطوط المحرمة بيني وبينه، كما لم يندفع ليمرغ شعره القصير في جسدي، لفت انتباهي الجروح الكثيرة والتي منحت وجهه تورما زاد من تضخمه.
يذكرني العواء بنفسي الضائعة، بخوفي،وحزني و بأبن اختي الذي فقدناه ورحل عنا منذ اشهر ،وبمن احببتُ وشغلته الدنياعني ونساني.... بأشياء كثيرة نامت في سبات منذ فترة، وأيقظها القط بمواء وتمرغ ساذج، رغم هذا لم أكرهه ، بل سعيت لتوطيد علاقتي به ، أقدم له قطعة من طعامي وصوتي ، أحدثه ، ينظر إلي بعينيه ، فكرت بالصورة التي يرسمها القط لوجهي ، حاولت تصورها ، لم افلح إلا في تذكر انعكاس وجهي الأخير في المرآة وقراءتي الأخيرة عن القطط:
يقول ماسون" المحلل النفسي" :" نحن في حاجة إلى احتياج القطط لنا ، إن عدم احتياجها لنا يثير أعصابنا . مع ذلك فالواضح أنها تحبنا وان لم تكن في حاجة إلينا."
لم أعطي لأبحاثه اهتماما كبيرا من القراءة ، ما يهمني في هذه اللحظات هو الاقتراب النفسي بيني وبينه ، دون تعقيد أو تدخل من علم النفس أوعالم أبحاث.
عندما جاء القط في موعد وجبته لاحظتُ جراحا جديدة تنهش موضع الرقبة ، تفتح الباب لتورم ملحوظ ، لم يأكل نظر إلى الصحن بهدوء ، والى وجهي بسكون ، لم يموء ، أغمض جفنيه نصف إغماءة ، وترك الهواء الباردة يموء في صدري بقسوة .
في الليل انكب على الأوراق ما يزال رأسي خاوياً إلا من الهواء البارد الذي أصبح ثقيلاً في الأيام الأخيرة ، نظرت إلى النافذة عدة مرات لعلي المحه ، الهواء يشتد ، جسدي يرتعش ، أخرج بتثاقل إلى الخارج ألمحه يسير كخرقة بالية ليسقط بجانب الشجرة ، يشتد البرد ويشتد صوت مواء حاد متقطع ، التورم انتشر إلى جميع بدنه ، أشفقتُ عليه وذرفتُ الدمع وينتهي الأمر بعدة ارتجافات تومض مع اهتزاز طفيف ويبقى الفم مفتوحاً والجسم بارداً... مات .. نعم لقد مات القط ..
عدتُ إلى كتبي وسمعتُ صوت مواء جديد ، لم اعره انتباهاً وأنا أمسك كعادتي بأول صفحة من الكتاب.
gmar