هذه الليلة سوف أحكي لكم أنين الأثار والأشجار وضجر الصخور وصرخات من في القبور ، سوف أحملكم إلى رحلة برية لزيارة أحد المواقع التي حكت قصة كفاح الإنسان العماني ، زيارتنا ستكون لوادي الصلاحي أحد الأودية العريقة المعروفة في ولاية صحار ، في هذا الوادي عاشت عدة قبائل أقامت فيه شواهد وحضارة وخلفت ذكريات وآثار ، وشخصياً أخر زيارة كانت لي لوادي الصلاحي عندما كان عمري في العاشرة ، حين حملني والدي العزيز "أدام الله عليه نعمة الصحة والعافية" ، بهدف السلام على الأقارب الذين استقروا للعيش على ضفاف ذلك الوادي ، وكذلك لزيارة قبر الجد وبقية الأحبة الذين فارقوا الحياة ودفنوا بين مزارعهم وأموالهم ، حيث أتذكر المشاهد الجميلة والخلابة التي ارتسمت في مخيلتي لروعة ذلك المكان وأنا في ذلك السن ، في تلك الفترة كانت على ضفاف ذلك الوادي تتوزع أشجار النخيل والتين والرومان والزيتون والمانجا والبطيخ وعناقيد العنب والليمون والبيذام وغيرها من خيرات الفواكه والخضروات ، في ذلك الوقت كان اقتراب الأطفال من مجرى الوادي أمر خطير لشدة قوة تدفق المياه ، هناك مشاهد جميلة أخرى لن أنساها كهندسة الأفلاج والمباني الأثرية والأواني الفخارية والنحاسية ، وأشياء كثيرة شاهدة لوجود تاريخ وحضارة في ذلك الوادي لا يسمح الوقت لذكرها في هذه العجالة ، ثم أجبرت الظروف غالبية سكان ذلك الوادي للنزول لحياة المدينة والعيش فيها ، والعودة نهاية الاسبوع ومع كل إجازة لزيارة أموالهم والعناية بها وسقي مزروعاتهم ، كذلك متابعة مشاريعهم كتربية الحيوانات ومناحل العسل وبعض المشاريع الحرفية ، إلا أن أهالي الوادي في السنوات الأخيرة بدأوا بالامتعاض والشكوى من بعض الظروف التي تعرضوا لها ، وبدأت تشكل خطرا على أموالهم وممتلكاتهم وأثارهم ومزارعهم ، ابتداء من تدهور صلاحية الطريق المؤدي إلى قرى ذلك الوادي ، ثم بعد ذلك زادت المواجع بعد قدوم بعض الشركات للتنقيب عن المعادن التي حبا الله بها هذا الموقع ، قصص المعاناة صرت أسمعها كلما قدم شخص للسلام على الوالد يخبره عن حال الوضع الذي وصلت إليه قرى الوادي ، لذلك من الطبيعي أن تلاحظ على وجهه الحزن والألم وهو يسمع ما آل إليه مرتع طفولته ، لم يعد الوضع الذي خلفته تلك الشركات من عملية الحفر والتكسير هي ما يؤلم أصحاب الديار في ذلك المكان ، ولكن أن يستبعد أهالي تلك القرى والأموال عما يحدث من هدم وتكسير في صخور وجبال ذلك الوادي هو الذي جرح مشاعرهم ، والحقيقة أن عملية الشروع في العمل لم تكن حسب القواعد المهنية ولا حسب عادات المجتمع ، ولا كما عودتنا المؤسسات الحكومية من تقدير في إشعار المشايخ والأهالي عن أي مشروع يتم التخطيط له في أي قرية ووادي ، حيث تفاجأ الأهالي بقدوم معدات وعمال الشركات بأحرامات الوادي ، ومن ثم قيامهم بعمليات الحفر والتكسير دون إشعار أو إستئذان بما هم ناوين القيام به ، والحقيقة أن هذه الخطوة بادرة غير طيبة لما تحمله من تهميش وعدم تقدير لمكانة أصحاب المكان ولا تراعي قيمة المواقع الأثرية والتاريخية التي خلفها الأجداد من مزارع وأفلاج ومساكن ، ناهيك عن حرمة القبور التي تعرضت بعضها لسير المعدات عليها ، إن الأضرار الناتجة عن الحفريات وقص الجبال أضرار جسيمة تسببت في تدمير منابع ومثابت المياه في ذلك الوادي ، كذلك هناك كارثة بيئية قادمة ممثلة في صب الماء المستخدم في عملية الحفر حيث يحتوي على مواد تكونت من مخلفات المعدات ، يتم صبها في مجرى الوادي مما يعني أن مياه الوادي ستؤثر على حياة الإنسان والحيوان والشجر إن كانت غير صالحة .
الحقيقة أن المجتمع العماني عرف بأخلاقه وتقديره لولاة الأمر كالشيخ وكبار السن لذلك لم يحدث منهم أي مواجهة أو تصادم مع الشركات العاملة في ذلك الوادي ، ولكنهم وجهوا ملاحظاتهم واستنكارهم ما يحدث في أموالهم وما تعرضت لها قمم جبالهم وآثارهم وطرقهم مع ذوي الاختصاص وهم في انتظار ما تسفر عنه الاجراءات الرسمية في مثل هذه المواضيع ، مع العلم أنهم ليسوا معترضين لأي مشروع يخدم الوطن ، إلا أن امتعاضهم منصب في عدم مشاركتهم حول ما يحدث في قرى نشأتهم ، وكلهم ثقة في أن تقوم الجهات المختصة وفق ما تملي عليها المسؤولية الوطنية تجاه هذا المجتمع الكريم ، لذلك الموضوع والطرح هنا لا يختص به وادي الصلاحي وإنما جميع قرى وأودية الولايات العمانية ، من الضرورة أن يتم المحافظة على مثل هذه المواقع التي حكت تاريخ شامخ لأبناء هذا الوطن ، كما لا أنسى أنه يستوجب من جميع الشركات الخاصة والحكومية التي تعمل في مثل هذه المشاريع الاستثمارية ، أن لا تتجاهل أصحاب الدار والمشايخ ومكاتب أصحاب السعادة الولاة عندما تتقدم للتنقيب عن المعادن ، لأن هذه المناطق يتتطلب استشارة أصحابها لمعرفة الطرق السهلة للوصول للمواقع المستهدفة ، كذلك ليكونوا على علم باحرامات أموال تلك الديار ، كما تجنبهم الاعتداء بالخطأ على المقابر والمباني الأثرية والتاريخية ، وأيضا يساعدهم لتجنب طمس مثابت ومنابع المياه للعيون والأفلاج ، كذلك في مثل هذا المشاريع يجب أن تبرز المسؤولية المجتمعية من أصحاب الشركات أنفسهم دون أن يكون هناك توجيه إليهم ، يجب أن تبقى العلاقة بين المجتمع والمؤسسات سواء كانت خاصة أو حكومية بنفس مستوى الود والتعاون والحفاظ على المصلحة المشتركة التي تخدم الوطن والمواطن ، وقبل الختام هناك نقطة هامة حول المحافطة على القرى الموجودة في الجبال والأودية وهي مرتبطة بالأمن القومي للبلد ، حيث مواصلة أهالي هذه المواقع إعمار تلك المناطق وعدم إهمالها في حد ذاته أمر محمود خوفاً أن تكون وكراً لأصحاب السلوك المنحرف أو أن تكون وكراً للهاربين من قبضة القانون أو حتى ربما للمتسللين الذين قد يدخلوا البلاد بدون رخصة ، لذلك من الجميل أن نشجع أصحاب هذه المواقع بالاهتمام بها وتعميرها والتحقق دائما من عدم وجود الغرباء بداخلها ، وأخيراً أود أوجه كلمة شكر نيابة عن أهالي الوادي لجهود المشايخ وأعضاء المجلس البلدي بالولاية ، وشكر خاص لسعادة الشيخ والي صحار لمتابعته الشخصية لملف هذا الموضوع ، وبعون الله ومع تعاون الجميع سيتم التوصل لحل يرضي جميع الأطراف حفاظا لهذا الوطن العزيز الذي يواصل مسيرته مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم - حفظه الله ورعاه - معاهدين الله أن نبقى أوفياء لجلالته نحو خدمة هذا الوطن العزيز .
د.حميد بن فاضل الشبلي
humaid.fadhil@yahoo.com