هذا المقال تم نشره قبل عام ونصف بجريدة عمان ، أعيد نشره اليوم تمهيداً لوجود مقال ثاني مكمل لنفس الموضوع ، حيث دفعني أحد الأخوة لكتابته توضيحا لاستفسار وجه لي ، وبإذن الله مع نهاية الأسبوع سيتم نشره بالجريدة ، وحتى ذلك الموعد أترككم مع قراءة المقال السابق ، ليسهل عليكم ربط الموضوع الجديد مع السابق..
من منا لا يتذكر حرب الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994م ، التي تعرض لها قرابة مليون شخص من أبناء قبيلة التوتسي ومن تعاطف معهم من قبيلة الهوتو ، تلك الإبادة الوحشية التي قادتها مليشات الهوتو المتطرفة ، حيث سجلت الأرقام أن %75 من التوتسيين قد قتلوا ، وأن مئات الالاف من النساء قد تعرضت للاغتصاب في ذلك العام ، لقد نقلت لنا شاشات التلفزة مناظر الجثث المتكدسة في الطرقات ، والسواطير والفؤوس التي استخدمتها المليشات في ذبح وقتل رجال ونساء وأطفال التوتسي ، في ذلك العام رائحة الموت منتشرة في كل مكان ، المدارس والمستشفيات ودور العبادة لم تسلم من بطش أولئك الوحوش البشرية ، كذلك تم دفن عشرات الآلاف من البشر وهم أحياء ، وأحرقت مئات القرى والبلدات بمن فيها من الإنسان والحيوان ، لقد عاشت رواندا الجحيم خلال 100 يوم من عام 1994 ، حيث تحولت جماعة من المجتمع الراوندي إلى وحوش وشياطين نزعت الرحمة من قلبها ، لتقوم بممارسة أبشع وأشنع الجرائم التي عرفتها البشرية في تاريخها .
في الحقيقة الذي جعلني أستذكر الواقعة المرة والبشعة التي حدثت عام 1994م في رواندا والتي أتذكر مشاهدها وأنا أكتب المقال ، هو ذلك التحول الذي طرأ على هذه الدولة في السنوات الثلاث الأخيرة ، ومن ثم نرى اليوم بسط الأمن والأمان والتنمية الشاملة في قلب أفريقيا الاستوائية ، ونسيان الماضي الأليم والمحزن لحياة الشعب الراوندي ، حيث تفأجأت بحجم التطور العمراني والحضاري في هذه الدولة التي سالت الدماء فيها كل مكان ، فكيف انتهت تلك المحنة وكيف تصالحت تلك الجماعات بعد سنين من القتل والاغتيالات ، ونتيجة عمليات بحث وتقصي من الأخبار والتقارير القادمة من تلك الدولة المجروحة ، وجدت أن رواندا اتبعت نظام قضائي تقليدي لأجل تحقيق هدف المصالحة عرف باسم ( جاكاكا ) ، وهو قانون عرفي يمكن من خلاله التعامل مع مئات الآلاف من الأشخاص المتهمين بجرائم حرب الإبادة الجماعية ، وبموجب هذا القانون يتم تجميع سكان القرى بأكملها ، لكي يشهدوا على عمليات الاعتراف للمخطئين وتشجيع الضحية على العفو والغفران ، مع إمكانية وضع تعويضات للضحايا متمثلة في تكليف المتهمين بحرث أراضي الضحايا أو في أعمال مشابهة لذلك ، وبهذا لم ينتظروا من الأمم المتحدة في حل مشاكلهم ، بل استخدموا أسلوب المصالحة الوطنية ونسيان آلام الماضي ، وبذلك نجحوا في تحقيق الوئام والاستقرار ، وقامت رواندا بتسريح جميع المقاتلين ودمجهم في المجتمع ، وعملت على عودة اللاجئين والمهاجرين ، حيث نجحت في عودة ما يزيد عن ثلاثة ملايين لاجيء، ولذلك مجتمع رواندا اليوم يتمتع باحترام متبادل لأفراد شعبه ، وأصبحت المؤسسات تقدم خدماتها للجميع بدون تمييز ، ولم يعد هناك تفرقة بين الهوتو والتوتسي ، وحيال ذلك فإن الشعب الرواندي يقول ( إننا كلنا روانديون ورواندا هي بلدنا ) ، ونتيجة تحكيم العقل تحولت رواندا إلى مركز اقتصادي وتكنلوجي هام في المنطقة ، كذلك اشتهر فيها الأمن والأمان والسلام ، وثمرة تلك الجهود نجحت هذه الدولة في جلب أكثر من مليون سائح عام 2014م ، كذلك اختيرت كيجالي عاصمة رواندا عام 2015م كأجمل مدينة أفريقية ، هذه التجربة الفريدة من نوعها في تحكيم العقل والنظر للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة ، أين هي اليوم في كثير من بلداننا العربية والإسلامية ، التي مزقتها الحروب والفتن والاغتيالات ، متى سيتم تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة ، مؤسف ما نشاهده من غل وحقد في أمتنا بين دولة وأخرى وكذلك بين الطوائف والأحزاب في الدولة الواحدة ، فهل حكمنا العقل ومستقبل الأجيال القادمة على القتال والصراع لأجل المال والسلطة والكرسي ، أليس بالإمكان أن ننهي الصراعات والخلافات ، وختاما نسأل الله العظيم أن يؤلف بين قلوب أمتنا ويجمع شملنا ويوحد كلمتنا على طاعته ويصلح ذات بيننا وأن ينصرنا على عدوه وعدونا وأن يهدينا سبل السلام ويخرجنا من الظلمات إلى النور..
حميد بن فاضل الشبلي
humaid.fadhil@yahoo.com