قضية الصعراني

غريب عن الدار

¬°•| عضو جديد |•°¬
إنضم
15 أبريل 2015
المشاركات
8


كنت قد بدأت بتدوين الملاحظات عن مشروع صيانة الصعراني في وقت مبكّر، وأشكر جميع الإخوة الذين كانوا دوماً يذكّرونني بضرورة وأهمّية إخراج ما يوثق المواقف بحلوها ومرّها.

بدأت بالفعل بكتابة النصّ، وكان عبارة عن حكايات لمواقف تتبع خطّ الزمن الطبيعي منذ بداية اكتشاف عودة المياه لأمهات الصعراني. ما كنت أهتم به أكثر وتأثرت به وتتبّعته هو ذلك الخيط من الشعور الإنساني الذي كان يتسلّل للجميع ويجذبهم بنعومة للعريش حيث تدار عمليّة إعمار الفلج. ولا شكّ أن كلّنا يذكر كيف أنّ بعض من وصلوا في أوائل مراحل العملية ووضعوا أيديهم لأول مرّة في مياه الصعراني بعد فراق طويل تقاطرت عيونهم بالدموع.

تلك الدموع تفسيرها بسيط، خاصّة إن كانت ممن عاصر الصعراني في فترة شبابه، فحينما كان الفلج هو المركز الذي تدور حوله الحياة كان شريكاً في كل العلاقات الإنسانية، وعودته الآن مرّة أخرى يذكّر أولئك البشر بكل تلك العلاقات الجميلة ويوحي بإمكانية عودتها، وهذا هو منشأ تلك العاطفة الجيّاشة التي رأيناها في إحدى المرّات جعلت أحد كبار السنّ يبكي وهو ينضح الماء على وجهه وكأنّه يسلّم على أبوه وأمّه وأهله الذين ماتوا منذ زمن طويل.

قد أثير استغراب البعض حين أتحدّث عن أشياء قد تقع في المفهوم العام من قبيل السحر، لكن الأرض بالفعل لها سحر عجيب على البشر ويظهر عليهم ذلك في شأنهم كلّه. ولن أستغرب أبداً إن قال لي أحدهم أن الأرض بجميع مكوناتها تتواصل مع البشر وإن بطريقة لا تعيها الحواس. على كل حال هذا ليس موضوعنا، إنما اردت فقط الإشارة له ليستحضره القارئ فيما قد يأتي ويجد فيه بعض الغرابة.

قلت أنّي كنت سأتبع خطّ الزمن في السرد، لكن ذلك كان قبل أن يصرّح الإخوة باكتشاف الموقع الأثري القريب من مسار الفلج. اكتشاف الموقع أثار استغرابي رغم أنّي كنت أعلم بوجوده منذ شهر رمضان، وبالتحديد بعد ليلة الحفل العام الذي أقامه فريق الصيانة بالقرب من العريش وحضره سعادة المحافظ بيومين. ولم أتصّور أن غيري سيلاحظه حتّى رأيت الإعلان عنه في مجموعة الصعراني في الواتساب.

في نهاية ليلة الحفل التي أسماها بو سلطان ليلة العلاقات العامّة جلست أنا وسيف خليفة وعلي سعيد العزاني نراقب انصراف سعادة المحافظ، وتبعه في المغادرة معظم الضيوف، ومن جميل صنع الإخوة في فريق العمل-أذكر منهم محمد بالرشود وسيف بن حميّد وصلاح بن حميّد- أنهم بادروا حينها بدعوة العمّال المشاركين في أعمال الصيانة للقدوم وتناول الطعام.

الموقع الذي وضعت عليه طاولات الطعام كان على مسار الفلج بالضبط، تمّت إحاطته وتحديده على شكل مربّع بواسطة حبل (LED) مضيء مما وفّر إضاءة لطيفة وجميلة للمكان. انتبهت لمحمّد بالرشود وهو يتصل برئيس العمال علي جان. خشيت أن ينسى الإخوة الفرقة الثانية من العمال وهي فرقة حجّي رمضان لأنهم التحقوا بالعمل في وقت متأخر، قمت لأنبّه صلاح بن حميّد بشأنهم، وقبل أن أصل إليه إذا بعلي جان يدخل من الظلام إلى المربّع المضيء، سألته إن كانت فرقة حجّي رمضان أيضاً قادمة فأخبرني أنه مرّ بهم وأخبرهم.

علي جان وزملاءه اتخذوا أماكنهم على طاولات الطعام. استبطأت قدوم حجّي رمضان وفرقته فتركت المربّع المضيء واتجهت للجهة التي أتوقع قدومهم منها. ما كدت أخطو بضع خطوات حتّى ظهر شبح رمضان يتهادى بسمنته في الظلام ومن خلفه عدّة رجال. وقفت انتظرهم لأوجههم، ورغم رغبتهم في الوقوف للسلام علي إلا أنّي طلبت منهم الاسراع لأخذ أماكنهم على الطاولات مخافة أن يباشر عمّال الضيافة برفع الصحون. الآن أتعجّب من نفسي كيف لم أدقّق في أنّ فرقة حجّي رمضان كانت تتكون من خمسة عمّال، فيما الذين كانوا يمشون خلفه ثمانية. ليس هذا الذي كان يستحقّ التفكّر فقط، بل أمر آخر، ثلاثة عمّال كانوا يرتدون ملابس مختلفة. نعم كانت تبدو عليهم آثار العمل في التراب ولم يكن ليساورني أي شكّ في أنّهم كانوا يعملون مع البقية، وحين استعدت الذكرى وجدت أنّهم جلسوا على أبعد طاولة عن الضوء، وحين اتجهت ناحيتهم لأتأكد أنه بقي لهم ما يكفي من الطعام كشف أحدهم عن الصحن الذي في وسط الطاولة فاستطعت رؤيته ممتلئ رغم بعد المسافة مما دفعني لتركهم وشأنهم.


قضيت نصف ساعة أو أكثر في توديع بعض الإخوة الذين حضروا، وأشدّ ما كان يقلقني في الحديث معهم هو عبارات الشكر والتقدير التي كنّا نتلقّاها من الجميع، إذ أنها في الحقيقة بمثابة تأكيد على تحميلنا للمسئولية من جهة، ومن جهة أخرى كنت أعتقد أنّي أتلقى الشكر بأكثر مما أستحق، إذ أني من أقل الإخوة مساهمة في الجهد.

حين فرغت من توديع الضيوف التفت ناحية موقع طاولات الطعام بعد سماعي لحديث تخالطه ضحكات. لم يكن هناك من أحد سوى اولئك الثلاثة في الطاولة القصّية، استغربت بقائهم بعد مغادرة جميع العمّال وعدم عودتهم لمواقع العمل. بدأت أمشي باتجاههم، حينها بدأت ألاحظ ملابسهم المختلفة، لقد كانوا يرتدون الإزار والمقصّر التقليدي، ومع لحاهم المتدليّة التي استطعت تمييزها من بعيد قلت لنفسي أنهم لابد من كبار السنّ من سكّان المنازل القريبة وأنّي لم أميزهم حين مجيئهم لأنهم جاءوا برفقة العمّال.

حين وصلت لمنتصف المسافة في اتجاههم انتبهوا لي، وإذا بهم يقومون بالتتابع من على الطاولة ليتركوا المكان المضيء ويدخلون في الظلام، خجلت أن أرفع صوتي لهم بالنداء، وحاولت عوضاً عن ذلك حث الخطى باتجاههم أملاً في إدراكهم. بعد أقل من عشرين ثانية كنت أنا في مكان جلوسهم، واصلت المشي في اثرهم وأنا متأكد أنه لا يمكن لهم أن يبتعدوا عن مدى النظر حتى في الظلام، وبالفعل رأيت الثلاثة يمشون باتجاه موقع العمل القريب حيث فرقة حجّي رمضان، حتّى لقد استطعت رؤية أنوار المنزل القريب تتلألأ بين أكتافهم.

واصلت المشي خلفهم وكلّي فضول للتأكد من هوية الرجال الثلاثة، وأيضاً كنت أطمع أن يكونوا من سكّان المنازل القريبة لأنه سيكون فرصة كبيرة لي للتحدّث معهم حول أعمال الصيانة التي تجري بالقرب من جدرانهم وكسر حاجز الصمت بين أهالي الفلج وبين أصحاب المنازل التي بنيت على مسار الفلج بخطأ فادح من وزارة الإسكان.

واصلت حثّ الخطى ولاحظت أنّي أقترب منهم بسرعة فيما أشباحهم المتحركة بدأت تبطئ من حركتها. كان علي بالطبع أن أوزّع بصري بين الأرض وبينهم لأتفادى الحفر والحجارة والطابوق والحبال المتخلفة من صيانة الثقاب. حين اقتربت منهم وأصبحت قادراً على تمييز أن أحدهم كان طويلاً مقارنة بصاحبيه توهمت أنهم يقفون بانتظاري، أبطأت من سيري وخفضت بصري للأرض لأتحاشى مجموعة من النباتات الشوكية، وتخيّلت أنّي حين أرفع بصري سيكون عليّ أن ألقي عليهم السلام. لكن ذلك لم يكن، ولم أجد أمامي أيّ أحد، وكأن الثلاثة تحوّلوا لدخان أسود ذاب في ظلام الليل.

وقفت مرتعباً وشعر جسمي كالشوك، لساني وشفتاي نسيتا كيفية النطق والكلام ورجلاي متسمّرتان في الأرض، ويعلم الله لولا مرور سيّارة بالقرب منّي إلى متى كنت سأظل على تلك الحال.

لم أخبر أحداً بالأمر، ولم أظن أنّه يستحق، فقد تمرّ أشياء مثل هذه بالإنسان سواء من وهمه أم هي حقيقة، لكنّها في النهاية لا تساوي شيئاً. بعد يومين أردت التقاط بعض الصور لأمهات الفلج، وفي طريقي لها مررت بالموقع الذي اختفى فيه الرجال الثلاثة، أوقفت السيارة ونزلت لأستعيد الشعور بتلك اللحظة المخيفة، ومع اطلاق النظر نحو الأرض لاحظت تلك الأشكال الهندسية الصغيرة التي تشكّل الدائرة المحكمة. أطلت التفحصّ وإذا بدائرة أخرى أكبر من تجاورها. وكان ذلك اليوم هو يوم معرفتي بوجود الموقع.

بالطبع لم تكن تلك المرة الوحيدة التي أرى فيها أولئك الثلاثة، وهذا أيضاً من الأسباب التي جعلتني أصمت عن ذكر الموقع الأثري، وسأفصل فيما يأتي بعون الله بقيّة ما جرى.
 

أبو سلطااان

مؤسس و رئيس الفريق التطويري
طاقم الإدارة
إنضم
8 يونيو 2008
المشاركات
5,874
العمر
113
الإقامة
?!?!
مرحب أخونا غريب الدار
متابعين وفعلا شوقتنا لسلسة الصعراني
فهو لم يعيد بقطراته الثرى للأرض و إنما أعاد وأحيا ذكريات جميلة وذكرنا بأشخاص مضوا عنا .
 
أعلى