دانة غزر
صاحبة الروح الطيّبة
قصة : الجنون فنون
تأليف : رؤوف بن الجودي
دخلتُ مقهى بجنبِ العملِ، مقهىً الذي يُشعرك أنَّك عبرتَ بوابةَ الزَمن للماضي إذا مررتَ عبر بوابتِهِ، فكل شيءٍ فيهِ عتيق: الطاولات، المصابيح، البلاط الجدران، حتى النادل نفسهُ؛ لولا تلك الثلاجة التي عليها غلاف "كوكا كولا" الأحمر، التي تشعرك ببعض الحداثة وترسلُ في عَينَيكَ ألوانا زَاهية على غِرار الألوان الباهتة الممزوجة بالحزن في كلِ مَكان مِن هَذا المقهى، فتُرجعكَ إلى زمان الناس هذا.
لا تَلبث-وأنت داخل- حتى يُوخِزَك صُراخُ "عَمِي مُحمَد" وهو يلوِّحُ بشِمَالِه، "قَهوه "Press أو "حاجة وحدخرى" !!
و يمينهُ –قد خلّفها-هَنالِك عَلى مِقْبَضٍ العَصّارَة، تَسعَى في اتجاهين فوق وتحت، مُلبيا طَلَبات الزَبَائِنِ المُدمِنين على احتِساء القَهوة وشُربِ الدُخان.
اقتربتُ مِنه و قُلتُ متبسم الثغر :
- أُريدُ قَهوةً مُركَّزَة "عَمِّي مُحمَد"، إذا شرِبها الثملُ انتَبَه، وإذا اشتمَّهَا النَائِمُ أفاق، وإذا مَسّهَا حجرٌ مستهُ سرّاء (كما يقول أبو نواسٍ في الخمرة).
فرد –كعادَتِهِ- مجاملا :
-حاضر "يا سي فاريها"، طَلبَاتك أوامِر.
جلستُ إلى طاولة بها مَكانٌ شَاغر، فَما إِن هَممتُ بالجلوسِ حتى وجدتُ جالسًا عليها شخصٌ يبدو من مَظهرِهِ أنّهُ مُختلٌّ، فَقلتُ في نَفسِي لو شَرعتُ بالنُهوضِ لسَوفَ يُحدِثُ ذَلك أَثَرا سِلبِيا في نَفسِيَتِهِ، فقررت أن أقاسمه الطاولة وليكن ما يكن !
رأيت فيما رأيتُ، رجُلاً عَليهِ أحلاسٌ يشعرُك بالبردِ بمجرد أن تراه، على رأسِهِ قبعةٌ رياضيةٌ متسخةٌ، عليها آثار التشرد، بين يديه كوب قهوة في جوفها ملعقةُ السُكر، أحسَبُها تحرِصُ الكوب من أيادي العابثين الإنتهازيين وما أكثرهم ما هم !! لو أبصرت فمَهُ، لحسبته مدخل مغارة ، على جبل منسيّ، سقط منه الأسنانُ إلا قليلا، و ما بقي من أسنان عليه صديد، أكادُ أجزمُ -غير مرتاب- أنهُ صديدٌ لا يُزيلُهُ حتى الكير !!!
رأيتُ فيما رأيتُ، رجلاً مكتنفاً (أين ماسكاً) سيجارةَ دخانٍ من نوعٍ عتيدٍ جدّاً(نسيم)- ليس لها من اسمها نصيب-، ينفخُ فيها كأنّه ينفخُ في مِزمَارٍ؛ لكنَّ نفخهُ إلى داخل رئته لا إلى خارجها، مصحوبا بدخان كثيف، يُنبئك بتاريخ حافل وخبرة متطاولة في عالم التدخين؛ فقد خيّل إليّ من مظهر السيجارة -وكان قد ثبتها بين ابهامه وأصبعه الوسطى- ومن شفتيه اللتان لم يُحركهما إلّا قليلا بقدرٍ ضئيلٍ ليُخرج ما تبقى من الدخان مما علق في رِئتَيه؛ خُيِّل إليَّ كأنّه قطار بُخاري، على سكةِ حديدٍ، إلا أنّ هذا القطار ثابتٌ والسكة هي التي تمشي، فيُدير عجلاته الحديدية، وربما هذا الذي كان يدفعُهُ ليبقى ثابتا في كرسيِّهِ، محركا قدميه يمنة ويسرة !!! من رآهُ وهو يمعنُ في التفكير ، يَحسَبُ أنّه حُمّل تدابير الكون ، وانتهت إليه أعباء وهموم
الأمم بمختلف أشكال وألونها، ففي غمرة التفكير اللامتناهي، نسي أن يتخلص من رماد سيجارته، فهَرعتُ لأضع بين يديه الرُمَيدة (هي الصحن الذي يلقى فيه رماد السيجارة)، فانتكز من غفوة وكاد يُحرقُ ثيابه، فلم يأبه وألقى جل رماده على الطاولة و بعض من البعض في الرميدة، وعاد إليه رُشدة هنُيهَة ؛
فقال متلعثما :
- صحا صحا (أي شكرا)
و عاد لجنونه –مرة أخرى- ، وقد شدّه الحنين لفراقه خلال تلك الهنيهة.
لم أفهم سبب عُبوسِهِ -وهو المسافرُ بعقلِه وروحِه إلى دنيا غير دنيا الناس-، حتى بدأ نفرٌ(أي مجموعة) من الشبابِ الطائشِ-كانوا داخل القهوة-، بالتدافع والتراشق بالسباب، يمارسون مشاكساتهم فيما بينهم، ولعل المجنون وجد في لعبهم شيئا يعرفه؛ فكما عاد لدنيا العقلاء فشكرني، أظنّه زارهُ هؤلاء إلى عالم جنونهم بشغبهم ومشاكساتهم، ولما أدركهم و عرفهم "تبسم" !
انتهت السيجارة الأولى، فهمّ بإطفائها ثم أَخرج من مستودع الذخيرة في جيب السترة، سيجارة أخرى، فرجع ليتحسّس الجمر في السيجارة الأولى فنسي أنه أطفأها، وكأنّ الأحداث ليس لها ترتيب في رأسِهِ، وكأنّ الأحداث قد لا تحدثُ إذا حدثت، فالسيجارة في رأسه لا تزال متقدة وجمرها مشتعل فهو يحاول جاهدا أن يستعملها و يضغط بقوة، ساءني مظهرهُ و يحاول يحاول بلا جدوى ... في تلك اللحظات،
وصل صديقي "حكيم" و كان مبتلاً -كهذا المجنون- بشُرب الدخان، فطلبت منهُ أن يُشعل لهُ سيجارتَهُ قبل أن يُقبل على جُنونه فيُصورنا له كعِيدان ثِقاب !!! فأُوقدتْ له السيجارةُ الثانية، واستأنفت سكةُ الحَديدِ رِحلتَها على هذا القطار؛ وعاد ليُحرِك قَدمَيه منْ جَدِيد.
تأليف : رؤوف بن الجودي
دخلتُ مقهى بجنبِ العملِ، مقهىً الذي يُشعرك أنَّك عبرتَ بوابةَ الزَمن للماضي إذا مررتَ عبر بوابتِهِ، فكل شيءٍ فيهِ عتيق: الطاولات، المصابيح، البلاط الجدران، حتى النادل نفسهُ؛ لولا تلك الثلاجة التي عليها غلاف "كوكا كولا" الأحمر، التي تشعرك ببعض الحداثة وترسلُ في عَينَيكَ ألوانا زَاهية على غِرار الألوان الباهتة الممزوجة بالحزن في كلِ مَكان مِن هَذا المقهى، فتُرجعكَ إلى زمان الناس هذا.
لا تَلبث-وأنت داخل- حتى يُوخِزَك صُراخُ "عَمِي مُحمَد" وهو يلوِّحُ بشِمَالِه، "قَهوه "Press أو "حاجة وحدخرى" !!
و يمينهُ –قد خلّفها-هَنالِك عَلى مِقْبَضٍ العَصّارَة، تَسعَى في اتجاهين فوق وتحت، مُلبيا طَلَبات الزَبَائِنِ المُدمِنين على احتِساء القَهوة وشُربِ الدُخان.
اقتربتُ مِنه و قُلتُ متبسم الثغر :
- أُريدُ قَهوةً مُركَّزَة "عَمِّي مُحمَد"، إذا شرِبها الثملُ انتَبَه، وإذا اشتمَّهَا النَائِمُ أفاق، وإذا مَسّهَا حجرٌ مستهُ سرّاء (كما يقول أبو نواسٍ في الخمرة).
فرد –كعادَتِهِ- مجاملا :
-حاضر "يا سي فاريها"، طَلبَاتك أوامِر.
جلستُ إلى طاولة بها مَكانٌ شَاغر، فَما إِن هَممتُ بالجلوسِ حتى وجدتُ جالسًا عليها شخصٌ يبدو من مَظهرِهِ أنّهُ مُختلٌّ، فَقلتُ في نَفسِي لو شَرعتُ بالنُهوضِ لسَوفَ يُحدِثُ ذَلك أَثَرا سِلبِيا في نَفسِيَتِهِ، فقررت أن أقاسمه الطاولة وليكن ما يكن !
رأيت فيما رأيتُ، رجُلاً عَليهِ أحلاسٌ يشعرُك بالبردِ بمجرد أن تراه، على رأسِهِ قبعةٌ رياضيةٌ متسخةٌ، عليها آثار التشرد، بين يديه كوب قهوة في جوفها ملعقةُ السُكر، أحسَبُها تحرِصُ الكوب من أيادي العابثين الإنتهازيين وما أكثرهم ما هم !! لو أبصرت فمَهُ، لحسبته مدخل مغارة ، على جبل منسيّ، سقط منه الأسنانُ إلا قليلا، و ما بقي من أسنان عليه صديد، أكادُ أجزمُ -غير مرتاب- أنهُ صديدٌ لا يُزيلُهُ حتى الكير !!!
رأيتُ فيما رأيتُ، رجلاً مكتنفاً (أين ماسكاً) سيجارةَ دخانٍ من نوعٍ عتيدٍ جدّاً(نسيم)- ليس لها من اسمها نصيب-، ينفخُ فيها كأنّه ينفخُ في مِزمَارٍ؛ لكنَّ نفخهُ إلى داخل رئته لا إلى خارجها، مصحوبا بدخان كثيف، يُنبئك بتاريخ حافل وخبرة متطاولة في عالم التدخين؛ فقد خيّل إليّ من مظهر السيجارة -وكان قد ثبتها بين ابهامه وأصبعه الوسطى- ومن شفتيه اللتان لم يُحركهما إلّا قليلا بقدرٍ ضئيلٍ ليُخرج ما تبقى من الدخان مما علق في رِئتَيه؛ خُيِّل إليَّ كأنّه قطار بُخاري، على سكةِ حديدٍ، إلا أنّ هذا القطار ثابتٌ والسكة هي التي تمشي، فيُدير عجلاته الحديدية، وربما هذا الذي كان يدفعُهُ ليبقى ثابتا في كرسيِّهِ، محركا قدميه يمنة ويسرة !!! من رآهُ وهو يمعنُ في التفكير ، يَحسَبُ أنّه حُمّل تدابير الكون ، وانتهت إليه أعباء وهموم
الأمم بمختلف أشكال وألونها، ففي غمرة التفكير اللامتناهي، نسي أن يتخلص من رماد سيجارته، فهَرعتُ لأضع بين يديه الرُمَيدة (هي الصحن الذي يلقى فيه رماد السيجارة)، فانتكز من غفوة وكاد يُحرقُ ثيابه، فلم يأبه وألقى جل رماده على الطاولة و بعض من البعض في الرميدة، وعاد إليه رُشدة هنُيهَة ؛
فقال متلعثما :
- صحا صحا (أي شكرا)
و عاد لجنونه –مرة أخرى- ، وقد شدّه الحنين لفراقه خلال تلك الهنيهة.
لم أفهم سبب عُبوسِهِ -وهو المسافرُ بعقلِه وروحِه إلى دنيا غير دنيا الناس-، حتى بدأ نفرٌ(أي مجموعة) من الشبابِ الطائشِ-كانوا داخل القهوة-، بالتدافع والتراشق بالسباب، يمارسون مشاكساتهم فيما بينهم، ولعل المجنون وجد في لعبهم شيئا يعرفه؛ فكما عاد لدنيا العقلاء فشكرني، أظنّه زارهُ هؤلاء إلى عالم جنونهم بشغبهم ومشاكساتهم، ولما أدركهم و عرفهم "تبسم" !
انتهت السيجارة الأولى، فهمّ بإطفائها ثم أَخرج من مستودع الذخيرة في جيب السترة، سيجارة أخرى، فرجع ليتحسّس الجمر في السيجارة الأولى فنسي أنه أطفأها، وكأنّ الأحداث ليس لها ترتيب في رأسِهِ، وكأنّ الأحداث قد لا تحدثُ إذا حدثت، فالسيجارة في رأسه لا تزال متقدة وجمرها مشتعل فهو يحاول جاهدا أن يستعملها و يضغط بقوة، ساءني مظهرهُ و يحاول يحاول بلا جدوى ... في تلك اللحظات،
وصل صديقي "حكيم" و كان مبتلاً -كهذا المجنون- بشُرب الدخان، فطلبت منهُ أن يُشعل لهُ سيجارتَهُ قبل أن يُقبل على جُنونه فيُصورنا له كعِيدان ثِقاب !!! فأُوقدتْ له السيجارةُ الثانية، واستأنفت سكةُ الحَديدِ رِحلتَها على هذا القطار؛ وعاد ليُحرِك قَدمَيه منْ جَدِيد.