`¤*«مُحمدْ البادِيْ»*-¤
¬°•| غَيثُ مِن الَعطاء ُ|•°¬
تشكّل شواهد المقابر في المدن الفلسطينية التاريخية وثائق حجرية تعكس بعض صور وملامح الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لحقب خلت لم يكتب تاريخها كاملا.
وقد زارت الجزيرة نت بعض هذه المقابر داخل الخط الأخضر التي تواجه يوميا الاندثار والطمس وعمليات التخريب الإسرائيلية، وعاينت دلالات شواهد قبور تشهد على هوية أصحابها وتحفظ بعض تاريخ المكان.
المقبرة الإسلامية في مدينة بيسان "عروس الأغوار" التي سكنها حتى 1948 نحو 15 ألف نسمة تبدو ساحة حرب نتيجة الاعتداءات المتعمدة على قبورها وأضرحتها بخلاف المقبرة اليهودية الملاصقة البادية كحديقة.
في منتصف مقبرة بيسان التاريخية يبرز قبر أحمد بن رباح أحد رؤساء بلدية بيسان الذي توفي قبل نكبتها بعام، وهو مبني بألواح حجرية نقش عليها اسمه وتاريخ وفاته بالتاريخ الهجري والميلادي.
رئيس البلدية
كما نحتت في جنبات الضريح أبيات من شعر الرثاء بطريقة النحت البارز دون ذكر اسم الشاعر:
يا زائر الضريح أحمد في الثرى ... سلم عليه وقل بكل صباح
بشراك في دار البقاء فإنها ... تشفيك من ألم ومن أتراح
وفي الزاوية الجنوبية الشرقية من المقبرة يقوم ضريح ضخم محاط بسياج وتملأ الكتابات كافة ألواحه الرخامية المصنوعة من حجر أبيض جلب من خارج منطقة بيسان ذات الحجارة البازلتية السوداء. وفي الناحية الشرقية نحتت الآية الكريمة "يا أيتها النفس المطمئنة...".
الخطيب المفجوع
ويستدل من قراءة الكتابات أن القبر يحتضن رفاة شابة توفيت في مقتبل عمرها تدعى حفيظة وهي ابنة الشيخ محمد الزيناتي أحد وجهاء بيسان، خطفها الموت على حين غرة فرثاها خطيبها بقصيدة منها:
في عامها العشرين فاضت روحها ... ما كان أسرع ما جرت الوفاة
ولذلك الأزهار لا تكسو الربى .... حتى تزول بأقرب الأوقات
وتكاد القبور لا تخلو من الآيات القرآنية والحكم الدينية المحفورة أو المنحوتة ترد بنصوص قصيرة وأخرى طويلة بخطي الثلث والفارسي. وفي واحد من قبور بيسان كتب على واجهته الرخامية البيضاء:
يا زائري لا تنسني ... من دعوة لي صالحة
ارفع يديك إلى السما... واقرأ لي الفاتحة
وتعكس الكتابات أيضا سعة اطلاع الخطّاطين والكتّاب على الثقافة العربية الإسلامية واستلهامها. في أحد الأضرحة اقتبس كاتب النقوش أبياتا كثيرة من قصيدة البردة للبوصيري في نصه.
كثرة المغتربين
ويلاحظ أن المقابر التاريخية في بيسان وعكا كسائر المقابر في المدن الفلسطينية خاصة الساحلية كحيفا ويافا واللد والرملة تدل على حكمة الآية الكريمة "وما تدري نفس بأي أرض تموت.." لكثرة المغتربين الذين جاؤوا من أقطار مجاورة بحثا عن الرزق أو السياحة فاستقروا وماتوا هناك.
في مقبرة النبي صالح في عكا عشرات القبور لأغراب وفدوا على المدينة خاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين منها ضريح دفن فيه شخص غريب عام 1892 قدم من اليمن السعيد كما تدل كلمات الشاهد: هو الحي الباقي. قال إني عبد الله ضلعي باشا من أعيان اليمن قد طارت روحه إلى الفردوس الأعلى، توفي غريبا، ومن مات غريبا فقد مات شهيدا.
وهكذا يوحي ضريح سيدة سورية قدمت إلى عكا وتوفيت فيها عام 1885 كما جاء في شاهد القبر الذي كتب عليه: ليعجب ضريحي بتاريخه ... فداري دمشق وعكا الضريح
ويقول الباحث في التراث نظير شمالي للجزيرة نت إن شواهد القبور في مدينته عكا تنطق في صمت المقابر وإنه كلما زارها تذكر الراحل أبا العلاء المعري الذي أكثر من الحديث عن الموت.
وفي المقبرة هذه يلاحظ أن القبور الفخمة تعود لموتى من عائلات ثرية كآل العكي، الإدلبي وغيرها. ويقول شمالي إن حمى المنافسة في ميدان الغنى والجاه قد انتقلت أيضا عند البعض إلى مراقد الموتى بعد أن غزت مساكن الأحياء.
في المقابل هناك أيضا قبور متواضعة لأبناء هذه العائلات الثرية ويبدو أن هؤلاء أوصوا بدفنهم في أضرحة بسيطة ارتفاعها شبر واحد محاطة ببعض الحجارة دون الإسمنت والكتابات والنقوش تقيّدا بالسنة. ويحذر شمالي من اندثار القبور التاريخية التي نجا بعضها من عوادي الزمن واعتداءات المحتلين، لافتا إلى أن مخطوطاتها المنحوتة عبارة عن تحف فنيّة في جودتها وإتقانها.
التركيبة الاجتماعية
ويقول المؤرخ البروفسور مصطفى كبها إن المتأمل لشواهد القبور يستطيع أن يستعرض التركيبة الطبقية لأصحابها وبالتالي استرجاع التركيبة الاجتماعية لمدينة بيسان الانتدابية.
ويوضح في حديثه للجزيرة نت أن الفوارق الكبيرة في بنائها وزخرفها تدل على سعة الهوة بين الطبقات المختلفة في المجتمع الفلسطيني وهذا ما يؤكده الشيخ محمد سراحنة (83) المهجر من بيسان وكان قد زار المقبرة لتلاوة الفاتحة لوالدته.
لكن كبها يلفت أيضا لاحتمال تفسير تلك الفوارق بمدى الالتزام بالدين من قبل الأهالي.
المصدر: هنا