((دموع على سفوح المجد)) ... قصة رااااائعه اجتماعية ...

ترحال

¬°•| عضو مميز جدا |•°¬
إنضم
19 مارس 2010
المشاركات
953
الإقامة
بين متاهات الزمن
الفصل الثاني عشر

(( اللهم إن كنت تعلم أن زواجي من سامية خير لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، فاقدره لي، ويسره لي، وبارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن زواجي منها شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري فاصرفه عني، واصرفني عنه، اقدر لي الخير حيث كان، ثم رضّني به.. آمين، والحمد لله رب العالمين)).

لم يخفف هذا الدعاء الضارع
الذي استخار عصام به الله في أمر زواجه من قلقه واضطرابه
أو يحد من خفقان قلبه الشديد،
الذي كان يتلاطم بين ضلوعه، ويرجّ رجاً عنيفا،
فتتسارع نبضاته كلما اقتربت عقارب الساعة من السادسة مساء،
حيث يأزف موعد زيارته وأمه لمنزل الدكتور إياد ليخطب منه ابنته سامية.
إنّه لم يتوقع أن يحدث هذا الأمر في نفسه كل هذا الاضطراب،
فمنذ الصباح الباكر، وهو يكابده بأعصاب مرهفة وخيال شارد
، حتى خطبة الجمعة التي كان يصغي إليه بعمق وتركيز أفلتت من إدراكه،
عندما بدأ الخطيب يتحدث عن واجب الأمة في إحصان شبابها وفتياتها،
وتأمين الضروف الملائمة للالتقاء الحلال بينهم،
ومحاصرة أسباب الغواية والفساد في المجتمع
فانطلق خياله ليحدثه عن سامية، والخطوة الحاسمة المنتظرة،
لتحديد موقعها في حياته ومستقبله،
ولم يستيقظ من شروده إلّا عندما رأى المصلين ينهضون لتأدية الصلاة...
ودخلت الأم على عصام، وقد ارتدت ملابسها وتهيأت للخروج فوجدته يطوي سجادة الصلاة فقالت بنبرات ضاحكة:
- ما هذه الصلاة التي أديتها؟.. ألم نصلِّ المغرب معاً؟
- إنًّها صلاة الاستخارة..
ركعتان يصليهما المرء ثم يدعو الله عقبهما بدعاء
خاص يسأل الله فيه التوفيق والتسديد
بعد أن يعد للأمر عدته ويدرس الخطوات
التي سيقدم عليها بدقة وروية، ثم يمضي لما ينشرح له صدره وترتاح إليه نفسه.
سألته أمه وهي تمازحه:
- وكيف تجد نفسك الآن؟
- أمّاه.. لقد عزمت، وتوكلت على الله، هيا بنا الآن..
 

ترحال

¬°•| عضو مميز جدا |•°¬
إنضم
19 مارس 2010
المشاركات
953
الإقامة
بين متاهات الزمن
بين الدور الثالث حيث تقيم أم عصام، والدور الثاني حيث تقيم عائلة الدكتور إياد، مسافة قصيرة لا تحتاج لقطعها أكثر من لحضات قليلة، لكن أم عصام قطعت في خيالها خلال هذه اللحضات ربع قرن من الزمان، حافل بالذكريات والأحداث، وكلما هبطت في السلم درجة تراجعت في خضم السنين عاماً أو أكثر.. تذكرت خطبتها وزفافها.. تذكرت حملها وولادتها.. وتذكرت عصاماً من الميلاد حتى الشباب.. تذكرته وليداً يبكي، وتذكرته طفلاً يحبو.. تذكرته صبياً يلعب وتذكرته فتى ينمو، وتذكرته شابا يافعاً يسمو بأخلاقه وذكائه ونبوغه.. وعندما وصلت إلى الدور الثاني كانت نفسها قد تخففت من كل الهموم والأحزان، وتهيأت لتستقبل الفرحة الجديدة بكل ما أوتيت حواسها من إرهاف، وتخيلت ابنها عريساً وسيماً يزف إلى عروسه الجميلة ففاضت نفسها بالبشر والسرور، وطفح قلبها بالسعادة، ورفت على شفتيها ابتسامة طاغية لم تجد لإخفائها سبيلاً.
وتقدم عصام من الباب فقرع الجرس ثم تنحى ليقف خلف أمه.. وفُتح الباب فأطل منه الدكتور إياد وزوجته وقد تأهبا لهذه الزيارة الموعودة، ولسانهما يلهج بكلمات الترحيب الحار، ونظراتهما تشع بالحب والاحترام العميق.
واستقر بهم المجلس.. وتشعبت بهم الأحاديث.. فتبادلوا عبارات المودة وأشادوا بعلاقة الجوار الجديدة التي جمعتهم وشرعوا يتكلمون عن الماضي والحاضر، فذكروا الراحلين ومآثرهم وتحدثوا عن الآباء ونوادرهم ووقفوا طويلا عند حديث الأبناء ومشاكلهم، وكلما أوغلوا في السمر شعروا بالألفة تزداد وتتوطد بينهم. وحانت برهة صمت طارئة فانتهزتها أم عصام قائلة:
- ليتكم تسمحون لي بكلمة...
شعر عصام بأن اللحضات الفاصلة قد أزفت فتعالى وجيب قلبه، وتململ من شدة الارتباك، بينما قال الدكتور إياد وقد لاحظ ارتباكه:
- أنت سيدة المجلس يا أم عصام، فكيف نعطيك الإذن بالحديث؟
- قالت أم عصام وملامحها تنطق بالسرور:
- الله يبارك فيك يا حضرة الدكتور..
ثم تابعت في تدفق وحماس:
- ((تعلمون أنه ليس لي في الدنيا أعز من ولدي عصام، ولن تكتمل سعادتي إلا بتمام سعادته وعما قريب سوف يتخرج –بإذن الله- ولم يبق أمامه إلا الزواج وقد فكرت في الأمر فلم أجد له خيراً من ابنتكم المصونة سامية التي لن أجد فتاة بمثل تربيتها وأخلاقها، لذلك فإني أتشرف بخطبتها بابني لما علمت من ارتياحه لها، وإعجابه بسلوكها المحتشم وخلقها الأصيل.. هذا كل ما عندي، فلا أدري ما هو الرأي عندكم؟..)).
ابتسم الدكتور إياد ابتسامته المألوفة، وقال دون أن يفاجئه الكلام:
- أشكرك بالنيابة عنا جميعاً على مدحك لابنتنا سامية وتربيتها، واعلمي أنها ابنتك كما هي ابنتنا، وإذا أردت رأيي بالموضوع فإني ألخصه لك في كلمة واحدة. إنني أنا الذي أخطب ابنك عصام لابنتي سامية، لأنني أكون بذلك قد توخيت الرجولة والأخلاق والشرف، ولا أطلب لابنتي أكثر من ذلك.
وأردفت زوجة الدكتور إياد:
- قد تكون معرفتي بعصام قليلة، لكنني بعد ما سمعته عنه وعن أخلاقه، وبعد أن تعرفت بأختي ((أم عصام)) وخبرت أخلاقها ومعاملتها الكريمة، فإني أتشرف أن يكون الدكتور عصام زوجاً لابنتي أأتمنه عليها.
قال عصام بنبرات مرتجفة خنقها الانفعال:
- أرجو أن أكون عند حسن ظنكم جميعاً.
قالت أم عصام:
- هل نفهم...؟
لكن الدكتور إياد سرعان ما التقط الحديث منها ليزيد موقفه إيضاحاً وتفصيلاً:
- ((أرجو أن يكون الأمر كما يتمنى الجميع، لكن رأينا يبقى ثانويا بالنسبة لرأي الفتاة، فهي صاحبة الشأن في هذا الأمر، وتبقى الكلمة الأخيرة الحاسمة لأنها حرَّة في حياتها وفيمن تختاره شريكاً لها وليس لنا إلا أن ننصحها ونوجهها.. أليس كذلك يا عصام؟.. تبدو خجولاً هذه الليلة!)).
ضحك الجميع لهذه الدعابة بينما أرسل عصام ابتسامة عريضة فضحت ما يجول في داخله من سرور وارتياح لهذا المنحى الذي يسلكه الحديث، وقال وهو يفرك يديه ليداري انفعالاته:
- ((إني أوافقك على ما تقول، فاستشارة الفتاة في أمر الزواج مبدأ أصيل من مبادئ الإسلام)).
وأضافت أم عصام:
- هل نؤجل الموضوع يوماً أو أكثر حتى تعرفوا رأي الفتاة؟
أجاب الدكتور بعد أن تبادل مع زوجته نظرة تفاهم:
- (( لا داعي للتأجيل.. سنسألها عن رأيها الآن، فأنا واثق من قدرة ابنتي على اتخاذ قراراتها بشجاعة ووضوح، وإذا ما أرادت مهلة لتحديد موقفها أمهلناها،.. عن إذنكم... )).
ثم أومأ لزوجته فلحقت به..
كانت غرفة سامية قريبة من الصالة بحيث كانت تستمع لكل ما يقال، ورغم أنّها كانت تتوقع هذا الحدث وتترقبه، إلاّ أنّ الأمر أربكها تماماً، ووضعها فجأة في مواجهة حلم لذيذ. وسرت الفرحة في أوصالها، فاجتاحتها موجة من السعادة والحبور. وأرادت أن تستعلي على مشاعرها المتدفقة لتبدو في تماسك طبيبة رصينة توشك أن تحتل موقعها المميز في المجتمع، لكن الفرحة كانت أقوى منها، فأطلّت من عينيها، ورفرفت فوق شفتيها، وعندما سمعت وقع أقدام أبويها وهي تقترب من حجرتها، حاولت عبثاً إخفاء الفرح والسعادة التي أشرق بها وجهها، لكنها لم تستطع، فتضرجت وجنتاها بحمرة الحياء وخشيت أن تفضح ملامحها مشاعرها، فتناولت كتاباً وتظاهرت بأنها منهمكة في قراءته.. وسمعت طرقاً خفيفاً على الباب فاضطربت له، وماتت الكلمات على شفتيها فلم تنبس. وفتح الباب فخفق قلبها بعنف وانتشرت أمواج الانفعال في أغوارها وراحت تضغط على صدرها فأرسلت تنهيدة لتنفس بها عن جيشان مشاعرها المستبدة العارمة.
أغلقت أمها الباب، وقالت مداعبة:
- لا تقولي بأنك منهمكة في القراءة، لا بد أنك سمعت حديثنا مع عصام وأمه.
لم تجرأ سامية أن ترفع رأسها من شدة الحياء، فلاذت بالصمت والإطراق، وازدادت ابتسامتها اتساعاً: ووجنتاها احمراراً، وأحاسيسها اضطراماً.
قال الأب وقد فهم موقف ابنته الذي خمنه منذ مدة:
- هل أفهم أنك موافقة؟.. فالسكوت علامة الرضا.
أردفت الأم :
- يجب أن تحددي موقفك، فالجماعة بانتظار جوابك.. عصام شاب ممتاز تعرفين عنه أكثر مما أعرف، وأمه سيدة طيبة.. إنكما لائقان ببعضكما فلا داعي للتردد. هل أفهم اعتصامك بالصمت على أنه الجواب؟
صمت الأبوان بانتظار جواب ابنتهما غير أنها داومت الصمت والإطراق وأخذ الحياء منها كل مأخذ فمدّ الأب يده إلى وجهها المورد ورفعه من ذقنها فأمالت رأسها في دلال وأسبلت جفنيها في وداعة، وقد أشرق وجهها بابتسامة تشي بالرضا والقبول، وأذاعت ملامحها الباسمة السعيدة السر المكنون، ونطقت بالقرار.. فامتلأت نفس الدكتور إياد بالغبطة وقال وهو يطبع على جبينها قبلة حانية:
- مبروك يا ابنتي.. مبروك.. وفقك الله وكتب لكما السعادة والهناء.
بينما مالت الأم على ابنتها وراحت تمطرها بالقبلات.
* * *
كان قلب عصام يخفق بشدة رغم أنه كان موقناً بالموافقة، أم الأم فقد كانت تنتظر الجواب على أحر من الجمر، فلقد أحبّت سامية وشعرت نحوها بارتياح عجيب إنها تشفق أن تفلت هذه الفتاة من يدها، لأنها أنسب من رأت لابنها الحبيب الذي باتت تشعر بأحاسيسه وتفكر بعقله وتنطق بلسانه وتنظر إلى الوجود بعينيه، وما إن عاد الدكتور إياد حتى تعلقت العيون بشفتيه الباسمتين أن تنفرج عن القرار الأخير.
- ((مبروك يا بني.. على بركة الله...)).
هكذا هتف الدكتور إياد وهو يتجه إلى عصام.. وتصافح الرجلان، وشد كل منهما على يد الآخر في ود وحرارة وقال عصام بنبرات منفعلة:
- بارك الله فيك يا عماه.. أطمئنك بأني سأضع سامية في عيني هاتين، وسأسعى لإسعادها السعادة التي تليق بها، ليس لأنها ستكون زوجتي الغالية فحسب، ولكن لأنها إبنة الرجل الذي هو في مقام والدي – رحمه الله - .
- رحمهُ الله رحمهُ الله .. أنا واثق من أن سامية قد أحسنت الإختيار.. بارك الله لكما في زواجكما ومد في عمركما حتى تفرحا بأولادكما وأحفادكما يا.. يا صهري العزيز.
ولم تستطع الأم أن تلجم فرحتها فأرسلت لسانها بالزغاريد، وعندما حاولت أن تبارك لابنها خانها لسانها، فهبت دموع الفرح لتكون ابلغ تهنئة في هذه المناسبة السعيدة.
ودخلت زوجة الدكتور إياد والفرحة تطل في عينيها وهتفت في نبرات تضج بالسرور:
- مبروك يا عصام.. لكم يسعدني أن تكون زوجاً لابنتي سامية.
وصاح الدكتور إياد في إنكار تصنع ليداعب القلوب الفرحة:
- ألا تجلسون؟.. لستم أول من خطب وتزوج!!.
ثم وهو يرفع صوته أكثر:
- سامية.. أين الشاي يا سامية؟
وقالت زوجته ترجوه:
- بالله عليك لا تحرجها هكذا..
ثم وهي تتجه بالحديث إلى أم عصام:
- لو ترين وجهها ونحن نسألها عن رأيها.. إنه بحمرة الورد من شدة الحياء..
قالت أم عصام:
- لأنها فتاة أصيلة ومرباة. لو تعلمين كم أحببتها.. لقد دخلت إلى قلبي منذ أن رأيتها أول مرة.
ثم وقد جلست بجانب ابنها الذي كان يعاني من الارتباك والخجل:
- والآن ما رأيكما لو نتحدث عن المهر والذهب وكتب الكتاب وغير ذلك من الأمور؟...
قال الدكتور إياد بعد أن تبادل مع زوجته نظرة فهمت مرماها فوافقته بإيماءة من رأسها:
- ((أرجو أن تسمعا رأيي في هذه الأمور.. أنا لا أحب الوقوف عن المسائل المادية كثيرا، لا سيما مع من أحبهم واحترمهم وأثق بمعاملتهم.. مهر هذه الفتاة خاتم من الذهب، هذا المقدم، أما المتأخر فأترك تقديره لعصام، على أن لا يتجاوز المقدار المتوسط الذي اعتاد عليه الناس في مجتمعنا، وبعد ذلك فإن عصاماً حر فيما يقدمه لبيته وزوجته، أما بالنسبة لكتب الكتاب فأرجو أن يتم في أسرع وقت ممكن، حتى يتاح للعريسين حرية الالتقاء في ظلال الشرع والحلال، أما العرس فيتم حسب اتفاق العروسين.. بقي شئ آخر.. هديتي لابنتي سامية بمناسبة زواجها ستكون الشقة المقابلة للشقة التي تقيمان بها، وسأكتبها باسمها في أقرب وقت.. هذه شروط لا أتنازل عنها بحال.. ثمة رجاء أخير.. أرجو من عصام وسامية أن لا تلهيهما الخطبة والزواج عند دراستهما وطموحاتهما الكبيرة، التي تحتاج إلى جهد كبير، هذا كل ما عندي بصراحة وإصرار)).
 

ترحال

¬°•| عضو مميز جدا |•°¬
إنضم
19 مارس 2010
المشاركات
953
الإقامة
بين متاهات الزمن
رفعت أم عصام حاجبيها دهشة وهمست:
- لكن هذا كثير يا دكتور.. لقد غمرتنا بكرمك.
اعترض الدكتور على كلامها بإشارة من يده وقال:
- أستغفر الله يا أم عصام، هذا ليس كرما.. هذه واقعية، فأنا واثق من زوج ابنتي، ومتأكد من أنه لو كان يملك الملايين لفرشها لسامية، فلماذا أضع له شروطا تحرجه وتكبله؟. إن أخلاقه العالية هي خير ضمان لمستقبل ابنتي، وأمام الثقة والأخلاق تصبح المادة تافهة لا قيمة لها.
كان عصام ينظر إلى الدكتور إياد في إكبار وإعجاب شديدين.. كان يشعر أنه جالس في حضرة عملاق، تحفه هالة من النبل والشهامة، وينبض قلبه بأرفع المشاعر وقال بنبرات تضح رجولة وقوة:
- دكتور إياد.. بعد إذن والدتي، أنا موافق على كل شروطك، وأرجو أن أكون عند حسن ظنك بي، وسوف تخبرك عن وفائي الأيام...
- على بركة الله يا بني.. أتمنى لكما السعادة والهناء والتوفيق.
ودخلت سامية وهي تحمل الشاي، وقد تألقت في ثوبها الأزرق السابغ الجميل، وبدا وجهها الذي توردت وجنتاه كزهرة ساحرة تقطر حسنا وروعة وصفاء، ورفع إليها عصام نظرات تفيض حباً وإعجاباً وخفق قلبه لمرآها الذي حرك عواطفه المكبوتة فراحت تتلاطم في أعماقه تريد أن تنبثق، فأشرق وجهه بابتسامةٍ وضيئة زادته جاذبية ووسامة، وأصاخ إلى صوتها العذب وهو ينسكب في أذنيه هامسا دافئا رقيقا:
- تفضل ...
فشكرها بنبرة هامسة خنقها الانفعال، واشتبكت نظراتهما للحظة، فومضت عيناها ببريق الحب، وأثار الموقف ذكريات الحاضرين، فانفجروا ضاحكين، فبددت الضحكات ارتباك العروسين، وطوحت خجلهما، وحطمت بينهما حواجز التكلف. فهدأ روعهما وانطلقت أساريرهما وسكنت روحاهما، وقد فردت أجنحة الشوق والحنين، فتعانقت في حب وامتزجت في نشوة وحلقت في دنيا فريدة من السعادة والطمأنينة والسلام.
* * *
 

ترحال

¬°•| عضو مميز جدا |•°¬
إنضم
19 مارس 2010
المشاركات
953
الإقامة
بين متاهات الزمن
الفصل الثالث عشر
- إني أعترف لك بأنك طاهية ماهرةً يا أم عصام!.. هل تريدون الحق ؟ لقد بدات أحسد أبنتي على ما سوف تستمتع به من طعام حماتها الشهي اللذيذ ...الله أكبر .. هذا عشاء لن أنساه... تنحنحت زوجت الدكتور إياد تنبه زوجها إلي وجودها وقالت بلهجة متوعدة تصنعتها:
_ (( أصبح طعامي الآن لا يعجبك يا دكتور!.. أليس كذالك)) ثم وهي تتجه بالحديث إلي إبنتها:
_ هؤلاء هم الرجال يا ابنتي...دائما ينكرون الجميل وينسون المعروف..طبخة لذيذة صنعتها له حماتك ، أنسته كل ما أقدمه له من الأطباق الفاخرة الشهية.
قال عصام وهو يرمي حماته بنظرة ودودة فيها دعابة وعتاب:
_ سامحك الله يا حماتي .. إني أشم في كلامك لسامية دعوة إلي التمرد ؟؟...أخشى أن المعركة بيننا قد بدأت !
ضحك الجميع في سعادة بينها قالت سامية بلهجة تتراوح بين الجرأة والحياء:
_ اطمئني يا أماه.. إن عصاماً رجل وفيّ لا كسائر الرجال.
هتف عصام بنبرات مرحة:
_ يحيا العدل .. هكذا النساء أو فلا ...
بينما قال الدكتور إياد في إنكار:
_ هكذا إذن.. يعني أنا رجل بلا وفاء .. أو كما قال الأوائل: (ربوا واتعبوا .. ))!.
ضحك الجميع فى مرح،بينما قالت سامية معتذرة:
- سامحك الله يا أبت .. لم أقصد هذا ابداً..
قالت أم عصام وهي فرحة بهدا الجوا العائلي المفعم بالسرور:
- هنيئاً لكل من أكل .. بالصحة والعافية
– إن شاء الله
- والآن ما رايكم بكوب شاي ؟
ولم تنتظر جوابهم فهمت بالنهوض إلا أن سامية سبقتها قائلة:
- بل أنا التي ستصنع الشاي .. استريحي يا أماه..
ابتسم الجميع لهذه المبادرة وقال الدكتور إياد:
- يا لك من كنة وفية يا ابنتي!.
أحرجت كلمات الأب سامية وكادت أن تتعثر في خطواتها ، بيد أن ملا محها كانت تنطق بالرضى والسرور، وأسرعت إلى المطبخ وسط سيل من الضحكات الودودة المشفقة ,وما هي إلا برهة حتى تململ عصام فى مكانه، ثم قام محاولاً الإنسحاب للحاق بسامية ،لكن الدكتور إياد فاجأه مداعباً:
- إلي أين؟
أجاب مرتبكاً:
- ((سوف..سوف أذهب لأساعد سامية فى تحضير الشاي)) ثم أستدرك وهو يمضي :
- أخشى أنها لن تعرف مكان الأكواب...
- يعني لم تصبر على فراقها ....
ضحك عصام وأسرع إلي المطبخ حيث كانت سامية منهمكة في إعداد الشاي، فأطل من الباب ،وقال بصوت هو أقرب للهمس :
- مالي أرى القمر شارداً هذا المساء..
- عصام؟ .. أهلاً...
- بل أهلأ بك في بيتك .
- كيف أنت ؟
- بعدك يعذبني .
ابتسمت سامية ولم تنبس بينما تابع عصام:
- ((حتى أني لم أصبر على فراقك حتى تحضري الشاي)).
ثم تقدم منها في لهفة، وقال وهو يتناول يديها بين راحتيه
- سامية ...
همست وهيا ترقب الباب في حذر :
- أخشى أن يدخل علينا أحد...
- وهل نرتكب حراماً .. أنت زوجتي أمام الله وأمام الناس وما هيا إلا أسابيع قليلة ونتزوج ونستقر في بيت واحد...
- أعرف ولكن ..
- ولكن ماذا؟
- لن ننجو اليوم من ألسنتهم اللاذعة.. لا سيما ((أبي)).
ابتسم عصام وقال:
- لكم تسرني دعابات أبيك .. إنه ينسيني أنه أستاذي في الجامعة،ويشعرني بأبوة غامرة.
قالت سامية كمن تذكرت:
- علمت منه أنكما قد اتفقتما على ترك عملك معه في العيادة حتى تتفرغ للتحضير والاستعداد للتخرج.
- هكذا كانت رغبته ، لكني سوف أعود إلي العمل معه فور انتهاء الامتحانات .
- وكيف دراستك الآن
- الحمد لله ، وأنت؟...
- لقد أنهيت اليوم مقرر ((الجراحة)) وسوف ابدأ غداً بمراجعة مقرر ((الباطنية)) .
- أما أنا فقد راجعت جميع المقررات تقريباً ، وسوف أعيد قرائتها مرة أخرى حتى أتمكن منها تماماً.
- يا لدأبك وجلادتك !.. كيف تصبر على كل هذا؟.. إني أراجع المقررات في مشقة، فتكرار المعلومات يورثني السآمة والملل!.
- لا أنكر أنني أعاني كما تعانين، لكني أجد في التكرار ترسيخاً للمعلومات وتثبيتاً للأفكار، مما يفتح أمامي آفاق جديدة من الفهم والتركيز ..دعينا من حديث الدراسة الآن ...
- عم نتحدث إذاً؟.
- عن القلوب ....
- وماذا نقول ؟
سألها عصام في عتاب رقيق :
- حقاً؟.. أليس عندك شئ تقولينه؟!.
قالت وقد تقصدت أن تخفف النار تحت الإبريق:
- عندي الكثير...
- حدثيني إذاً !.
- لا أتقن التعبير .
- قولي أي شئ.. أي شئ... المهم عندي أن أستمتع بنبراتك الدافئة العذبة وهي تنسكب في سمعي وتملأ مسارب نفسي.
قالت في حياء وهي تتشاغل برصف الأكواب على الصينية :
- كثيراً ما تنهال المعاني على نفسي فتفيض بي المشاعر وتتدفق تريد أن تنبثق وتفصح عن مكنونها ،فأكنوها في أعماقي لأبوح لك بها ، وعندما أراك يثقل الحياء لساني فلا ينطلق بها !
- الحياء مني؟...
ابتسمت وأجابت وكأنها تدافع عن نفسها :
- كلانا على أبواب تجربة جديدة!.
رمقها عصام بنظرة حانية،وقال وهو يتأمل عينيها الجميلتين وقد لاذتا بزاويتي محجريها من فرط الحياء:
- أدرك هذا يا عزيزتي .. يكفيني حديث عينيك فحدثيهما أبلغ وأحلى...لقد باحتا لي بكل ما يخفق به قلبك من مشاعر وعواطف ، وأخبرتني بكل ما يمور في صدرك العامر بالحب والحنان.
سألته في دلال :
- هل تتحدث العيون ؟
- ولحديثهما الساحر همس لذيذ لا يتطرق إليه النسيان .
- ماذا قالت لك؟
- قالت لي الكثير ، لكن اللسان يعجز أن ينطق بلغة العيون ، فحديث العيون لا تتقنه إلا العيون ....
وقطع الحديث عليهما صوت الدكتور إياد وهو ينادي:
- أين الشاي يا أولاد ؟
فضحك عصام وقال:
- لقد بدأ أبوك هجومه.
- الويل لنا من تعليقاته اللاذعة.
- إسمعي ... سنقدم لهم الشاى ونستأذنهم لنجلس وحدنا على الشرفة , فالجو فيها هادئ لطيف.
همست وهي راضية سعيدة :
- ((كما تشاء))
حملت سامية الشاي فقدمته للحاضرين ، ثم مضت مع خطيبها إلي الشرفة الهادئة وكان أول لقاء منفرد بين الحبيبين في ظلال الحلال .. وتوالت بعده اللقاءات السعيدة اللذيذة فشهدت تلك الشرفة أجمل وأروع قصة حب بين قلبين عاشقين جمعت بينها الأقدار........
* * *
 

ترحال

¬°•| عضو مميز جدا |•°¬
إنضم
19 مارس 2010
المشاركات
953
الإقامة
بين متاهات الزمن
الفصل الرابع عشر
خرجت منى من ((قاعة المطالعة)) ومضت إلى مطعم الكلية فطلبت فنجاناً من القهوة ثم اختارت ركناً هادئاً معزولاً وجلست تحتسي قهوتها في صمت وشرود... ورآها صفوان فتقدم منها وألقى التحية بلهجته المائعة المعروفة فرمقته منى بطرف عينيها وترددت برهة ثم قالت بنبرة جافّة تخلو من الترحيب :
- أهلاً...
- كيفك؟
- لست سعيدة ...
قال وهو يجلس قبالتها..
- لعلك تشعرين بالوحشة...لماذا لم أعد أراك؟
أجابت وهي تحدجه بنظرة ذات معنى :
- أنتظر دوري...
- دورك؟...دورك في ماذا ؟!
- صفوان ما رأيك ((برشا))؟
فاجأ السؤال صفوان فأجابها متجاهلاً وقد ساوره القلق:
- رشا ... رشا زميلتنا في الكلية؟
قالت منى في سخرية :
- نعم زميلتنا في الكلية ..أم أنك لا تعرفها ؟
- أعرفها .
- ماذا تعرف عنها ؟
- ماذا أعرف عنها ؟!... منى ..عمّ ًتتحدثين؟!!
سألته في حزم وتحدًًّ:
- وميادة؟..
ساءل صفوان وقد ارتاب في أسئلة منى وشعر بأن أوراقه بدأت تنكشف:
- ميادة ؟!!
- نعم ميادة ..ميادة التي ليست زميلتنا في الكلية:
تضاحك صفوان في فتور وقال متظاهراً بالمرح:
- منى.... ما بالك اليوم تتحدثين بالأحاجي والرموز؟!!
- هل تجد كلامي غامضاً إلي هذا الحدّ؟
- منى ... ماذا تقصدين بهذه الأسئلة الغريبة...ثم ...ثم
من هذه التي تدعى ((ميادة))..؟
قالت وهي ترميه بنظرة ثاقبة:
- صفوان... متى نتزوج؟
- نتزوج !... وهل هذا وقت زواج؟...
- وقت ماذا إذن ؟!
- وقت تعب وسهر ودراسة .. هل نسيت أننا على أبواب التخرج.. على فكرة ..لم تعودين تذاكرين عندي!
- لم تجب على سؤالي.
- زوريني اليوم وسأجيبك.
- لن أزورك حتى تحدد موقفك منى .
- موقفي؟.. أنت تشكين في موقفي منك يا منى ؟.
- أريد ضماناً لمستقبلي .
- ((وعد الحرًّ دَين)).
أثارت كلمات صفوان سخرية منى لكنًّها تابعت قائلة:
- صفوان ..يحب أن تفهمني .. مستقبلي بات في يديك وأنا أريد أن أطمئن عليه .. أريدك أن تخطبني من أهلي، أما الزواج فأجله ما شئت...
- كلامك يدل على أنك تشكين بي وبنواياي نحوك .. أنا أحبك يا منى ..والله أحبك ..صدًّقيني.
- قدم دليلاًّ واحداً..
قال صفوان في جدّ وامتعاض وقد بدأ يشعر أن منى بدأت تتمرد عليه:
- هذا المكان ليس مناسباً لبحث هذه لأمر..تعالي إلي شقتي اليوم وسنناقشه بروية وهدوء.
- لن أزور شقتك غير اليوم.
- لماذا؟
- لأني أرفض أن أكون لك مجرد عشيقة.
- قلت لك سنتزوج ...سنتزوج..صدًّقيني...
- أريد الدليل ..
قال صفوان في هدوء عاصف:
- تتكلمين بنبرة جديدة..
- هذا حقي ..
- هذه اللهجة لا تروقني.
- أنت حرّ.
- أبتسم صفوان في تحدٍّ وقال:
- منى ..أنا لا أرحم من يتحداني .
- تهددني؟
- بل أذكرك..أنت تعرفينني جيداً ولا أرغب في أن تسوء علاقتي بك.. تعالي اليوم وسنتحدث في هدوء..
وقفت منى غاضبة وقالت بلهجة حاسمة:
- لن أدخل شقتك بعد اليوم حتى تقدم الدليل على إخلاصك فتخطبني من أهلي خطبة شرعية تكون لي ضماناً في المستقبل فإن أردتني زوجة كنت لك أخلص زوجة، أما إذا أردتني مجرد عشيقة تتسلًّى بها فأنا أرفض ذالك ..هل سمعت ؟..إني أرفض ذلك...
ومضت منى وهي تشعر لأول مرة بأنها تضع قدمها على الطريق الصواب، لكنها ما كادت تمضي خطوات حتى خطر لها أنها تسرعت كثيراً في إعلان ثورتها !..
* * *
 

ترحال

¬°•| عضو مميز جدا |•°¬
إنضم
19 مارس 2010
المشاركات
953
الإقامة
بين متاهات الزمن
الفصل الخامس عشر
الربيع يزداد قرب الحبيب ربيعاً..والليل الساكن الجميل يزداد روعة وسحراً، والنسيم العليل المفعم بأريج الياسمين يتسلل إلى النفس فينعشها ويزيدها بهجة وسعادة، والسماء الصافية البديعة ترمق العاشقين بعيون تتلألأ بالنور، والهلال الفضي يتألق في القبة الزرقاء كثغر ضاحك يشع بابتسامة السماء، وكأنها تشارك الأحبة فرحة القرب وأنس اللقاء ...
وضاقت الشرفة بعصام فلم تعد تسعه من فرط السعادة وفيض الحبور ، فالقلب اليوم هانئ مسرور، والنفس مترعة بأعذب الأحاسيس وأحلاها، والروح ترفرف حول الحبيب في فرح .. تناجي روحه اللطيف، وتبثه لوا عج الشوق والهيام، والعين ترنو إليه في حنان، فيبهرها هذا الجمال الباسم الماثل أمامها، فترسل نظراتها الوالهة المتولعة، لتتأمل القسمات الوسيمة، وتجوب الملامح الحسناء، وتسافر عبر القد الأهيف الممشوق، ثم تعود بعد طول تجوال لترتاح في عينيه الذابلتين، فيأسرها اللحظ الوداع في حياء، وتتيه في بحر من البراءة والصفاء...
وتتأجج مشاعر عصام وتتوهج أحاسيسه وتتألق عواطفه فيسطع ألقها من نظراته الأسيرة، وينطلق بها لسانه فيهمس في وجد وهيام:
- سامية ..على عتبة قربك الحبيب أخلع كل همومي وأحزاني ليسربلني حبك الكبير، وفي واحة حنانك الوارف يحيط قلبي المكدود رحاله، فينفض عنه أتراحه وأشجانه ويروي أشواقه ولهفاته، فتخضوضرُ فيها الآمال، وتزهر الأماني، وتبسم الأحلام، ويحل في أعماقي المقفرة ربيع ساحر عامر بالأفراح.
همست سامية في دلال:
- عصام...
تابع عصام في توسل :
- دعيني أتكلم ..دعيني أبوح بكل ما في صدري ..لقد آن للعواطف الحبيسة أن تنبثق، وآن للقلوب الظامئة أن ترتوي، وآن للحب الصامت العفيف أن يصدح ويشدوا.. .. إنك الآن زوجتي وشريكة عمري ..أنت الإنسانة التي خلقت لي وخلقت لها.. أنت النصف الأخر الأجمل والأحلى من نفسي والذي يمدني دوماً بالآمال والثقة والتفاؤل، فدعي الأرواح في أفراحها سعيدة بهذا اللقاء بعد أن أضناها الشوق وأوجعها الحنين.
هيجت كلمات عصام مشاعر سامية، وألهبت عواطفها، عصام.. قد لا أتقن مثلك حلو الكلام، لكني أبادلك كل المشاعر والأحاسيس التي تحملها نحوي، ولو أصغيت إلى حديث نفسي لسمعتها تتحدث بلسانك وتحس بعواطفك، وكأن خواطرها رجع الصدى لما يأتلق في نفسك من خواطر..
وصمتت للحظة، ريثما استوعبت أمواج الانفعال التي فاضت بها نفسها، ثم تنهدت وهمست بنبرات مرتعشة ندتها دمعتان تألقتا في صفاء عينيها الفاتنتين :
- عصام.. أنا أحبك يا عصام.. أحبك كما لم تحب فتاة من قبل ..أني أحسّ نحوك بميل جارف عميق.. ميل عارم عجيب.. ميل أكبر من ميل فتاة لشاب.. لكأن روحينا كانتا على موعد قد ضرب منذ الأزل...
نفذت كلمات سامية إلى أعماق عصام بكل صدقها وحرارتها فطرب لسماعها، وخفق قلبه وهو يستقبل ذلك البريق العجيب الذي سطع من عينيها الساجيتين، وقال وهو يرنو إليها في حبّ ووله :
- لو تعلمين كم أنا سعيد بك اليوم .. أنت ملاك طاهر حطّ في دربي فآنس وحشته وبدد غربته.. أنت الماء الروحي لعطشى.. أنت البلسم الشافي لكل جروحي وأدوائي.. أنت الأمل الذي يشحذ همتي ويلهم خطواتي .
ثم تناول يدها بين راحتيه وطبع قبلة طويلة سرت حرارتها في دماء سامية، فأطرقت في حياء وقد تضرجت وجنتاها وسكنت مقلتاها واسترخت الأهداب الطويلة المنسابة كالأشعة حول منبع النور، فنامت فوق العينين الوادعتين في حنان ولاح وجهها المورد الفاتن من تحت غرتها المتدلية الشقراء كمملكة من الجمال الباهر تلوح من خلال أفق حالم يتوهج بالإشراق، وهمست وهي تسحب يدها في رفق :
- عصام ... قد يدخل أحدهم في أي لحظة !...
قال عصام وهو يرمي بنظراته الحالمة إلى نجمة بعيدة:
- عمّا قريب سيكون لنا عش دافئ جميل ..تتفجر فيه ينابيع السعادة والهناء ، وتجري خلاله أنهار النعيم، وفي فردوسنا الصغير سيخرج إلى النور وليدنا المنشود الذي سيضفي عليه حياة رائعة جميلة، تبعثها الطفولة الوادعة البريئة.
هتفت سامية في لهفة وفرح :
- أريد طفلاً.. طفلاً جميلاً تلوح في وجهه ملامحك الوسيمة وتنطق نظراته بذكائك المتقد وكلما ارتقى في سلم الزمان درجة، ظهرت في سلوكه طباع أبيه وأخلاقه، سأسميه عصام ((عصام الصغير)) فاسم ((عصام)) من أحب الأسماء إلى قلبي وأحلاها.
- هتف عصام وهو يرنو إليها بنظرة ودودة حالمة:
- بل أريدها طفلة.. طفلة وديعة جميلة.. طفلة هادئة رزينة، فيها من روحك اللطيفة قبس يشرق به شكلها وطبعها وسلوكها، فألمحك من خلالها في طفولتك وصباك وأراك في نضحك وشبابك، وسوف أستمد اسمها من صفاتك العظيمة.. سأسميها ((صفاء)).. بل ((براءة)).. فأنت البراءة مجسدة في فتاة.
- حسناً.. سأنجب لك طفلاً وطفلة...
- بل أطفال.. سنربيهم أحسن تربية، ونعدّهم أروع إعداد، وسوف تنمو براعمنا الجميلة وتتفتح، فتزداد حياتنا نضارة وسعادة، ويزداد حبنا توطداً وثباتاً، وتتألق في أعماقنا أزهار المحبة والوئام..
- تبدو مغرماً جداً بالأطفال!..
- في أعماقي أبوة جائعة عطشى تهفو للري والإشباع.
 

ترحال

¬°•| عضو مميز جدا |•°¬
إنضم
19 مارس 2010
المشاركات
953
الإقامة
بين متاهات الزمن
- ترى أيهما أقوى؟.. عاطفة الأبوة أم عاطفة الأمومة؟
- اسألي نفسك؟
- يتملكني شعور طاغ بأنه لا يوجد في الكون كله فتاة تحب الأطفال مثلي.
- لعلنا جميعاً يراودنا نفس الشعور.
ثم قالت سامية وهي تسرح بخيالها في وجدانها الخصيب:
- عندما أرى طفلاً يبتسم أرى الوجود من حولي باسماً سعيداً وأحس به مفعما بالبهجة والفرح وتلح عليّ رغبة جارفة لأن أضم ذلك الطفل إلى صدري، وأودعه في قلبي إلى الأبد..
قال عصام وهو يشملها بنظراته المتولعة:
- عندما أنظر إلى وجهك الجميل أراه بريئاً صافياً، وعندما تتحدثين أجد الداخل أصفى وأحلى.. إن نفسي الآن تنعم بالسعادة والارتياح، فبالأمس اطمأنت بمبادئ الإسلام الأصيلة الصافية واليوم تسكن إلى الإنسانة الحبيبة التي شُغفت بها.. ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا!..
قالت سامية في حماس:
- نسيت أن أخبرك.. لقد بدأت أصلي.
- هذا خبر رائع.. كنت على يقين من أن إيمانك الكبير ومعدنك الطيب سيقودك إلى الصلاة.
- عندما أديت صلاة الصبح اليوم، انتابني شعور عذب مريح، وشعرت بنفسي وقد اطمأنت وسمت. وألقي في روعي أني إنسانة جديدة، قد طهرتها الصلاة من كل أدران الدنيا وهمومها ومشاكلها.
صمت عصام ملياً ثم سألها ( بعد تفكر) وهو يرمقها بإعجاب:
- لو كان بحوزتك جوهرة نادرة.. جوهرة ثمينة عزيزة على نفسك، فماذا تفعلين بها؟
- أحفظها وأصونها من العيون والأيدي وأتعهدها بالحماية والرعاية والحرص والاهتمام.
- وأنت يا سامية جوهرتي الغالية، ودرتي النفيسة التي أحبها وأغار عليها.. لكم أتمنى أن أصونك في قلبي فأحميك من كل عين جائعة وكل نظرة مريضة.. عندما كنت ألمح شاباً في الجامعة أو في الشارع ينظر إليك أو يتأملك، كان يغلي في صدري مرجل من الغيظ، وتنطلق في دمائي أمواج عاتية من الغضب، وتلهب أعصابي شحنات ثائرة مجنونة.. إني أخاف عليك من النسمة إذا هبت، فكيف أصبر على عين جائعة تلتهمك بنظراتها الخائنة الخبيثة.
هزت مشاعر الغيرة التي أبداها عصام نفس سامية، فطربت لها، وشعرت بحرارة الحب الذي يكنه نحوها وهي تمس قلبها وتسري في دمها، فسألته تستزيد من عواطفه الثرة الغنية:
- هل أفهم أن الحب عندك يعني التملك؟
ابتسم عصام وأجاب:
- الميل المتبادل إلى التملك بين الزوجين من مقتضيات الحب الصادق العميق.. ينبغي أن يشعر كل منا بأنه ملك للآخر، بل جزء من الآخر.. إنَّه نتيجة منطقية لاتصال المشاعر ووحدتها وانصهارها في شعور واحد، فكما أغار عليك وأحب أن تكوني لي وحدي، أنت أيضا تغارين علي وتحبين أن أكون لك وحدك، أم أنك لا تغارين علي؟...
ضحكت وتساءلت في عتاب:
- أنا؟.. إنِّي لأتمنى لو أكبلك بقيود من حديد، فلا تخرج من مملكتي إلى الأبد.
حبك الطاهر الذي يكبلني أقوى من كل قيود الدنيا وأغلالها.
- يقولونا بأن التملك في الحب أنانية!.
- هذا إذا كان التملك شيئا مفروضاً من طرف واحد.. إنه منتهى الأنانية، فترين الرجل مثلاً يغار على زوجته أشد الغيرة، ويحاصرها بأوامره ونواهيه، ويفرض عليها قيوداً مبالغاً فيها في اللباس والحركة، ويعتقل البسمة إذا رفًّت على شفتيها، ثم يبيح لنفسه كل ما يحرمه عليها، وينجرف وراء شهواته وملذاته وغرائزه دون احترام لمشاعر زوجته المسكينة وحقها في أن يكون لها وحدها. هذا النوع من الرجال ينظر إلى المرأة على أنها مجرد متاع شخصي دون اعتبار لشخصيتها وحقوقها وعواطفها وفي هذا احتقار لها وإيذاء.
سألت سامية في حيرة:
- وكيف لي أن أملك نظرات العابثين والفضوليين، لقد اعتدت هذا الإزعاج المتكرر كل يوم.
- لا تقولي اعتدت.. أرجوك.
- لا أقصد بالاعتياد أني مرتاحة لهذا، فالفتاة التي يسرها أن تلتهمها العيون الجائعة الخبيثة فتاة في سلوكها مرض.. ما أقصده هو أني لا أملك حيال نظرات هؤلاء شيئاً.
- بل تملكين.
- كيف ؟
- بأن تغلقي نوافذ الفتنة والإغراء.
- لعلك تقصد...
- الحجاب.. هذا ما أردته فعلاً.. حجاب الرأس والجسد فلا يبدو منك إلا الوجه والكفّان.
قالت وهي تتفكر:
- فكرت بارتدائه كثيراً، لكن التردد كان يوهن عزمي، ويثنيني.
- ولماذا التردد؟.. إنه أمر من الله يجب تنفيذه، والله يا عزيزتي هو الأعلم بتركيبنا الجسدي والفكري والنفسي وهو الخبير بطبائعنا وغرائزنا وميولنا، لذا فإن منهجه هو الأولى بالإتباع.
- إني أدرك هذا، لكني - في الحقيقة – لم أتعود عليه، ثم إن زميلاتي سوف يحرجنني بكلماتهن اللاذعة، ويحاصرنني بسخرياتهن السخيفة، ويكبلنني بنظراتهن المتطفلة.
- قال عصام معترضاً:
- لست أنت بالتي تقول هذا!.. يجب أن تكون شخصيتك أقوى من ذلك.. ينبغي أن نتحرر من ضغط المجتمع الفاسد.. أن نتصرف بوحي من مبادئنا وقناعاتنا.. أن نكون فاعلين في المجتمع لا منفعلين به.
- كلامك حق، لكن ما يزيدني تردداً وجود بعض الفتيات اللواتي يسئن للحجاب.. يرتدين الحجاب ويسلكن سلوكاً شنيعاً لا ينسجم مع ما يرمز إليه هذا اللباس من طهر وتعفف!
- لا أنكر وجود هؤلاء، لكن هذا ليس مبرراً لأن ننفر من الحجاب ونتخلى عنه، أليس هناك أطباء يحملون الطب دون أن يتقنوه؟
- بلى..
- لكن ذلك لم يدفع أحداً لأن يتخلَّى عن دراسة الطب وممارسته، واستطاع الأطباء الناجحون أن يحطموا بإخلاصهم وإتقانهم ومهاراتهم أولئك الذين ليس لهم من الطب إلا اللقب الأجوف.
- هذا صحيح.
- إذن لماذا لا تكون الفتيات اللواتي ينسجم حجابهن مع سلوكهن هن الأوضح والأبرز في المجتمع، حتى يسطّرن بأخلاقهن الرائدة ومعاملتهن النظيفة الناصعة مثلاً رائعاً للفتاة المسلمة الأصيلة.
قالت سامية وهي مشدودة إلى الحوار:
- لماذا أمرنا الله بالحجاب؟.. ما الحكمة من تشريعه؟
- لأنه يريد أن يحاصر عوامل الفتنة في المجتمعات، فالنظرة المقصودة للمرأة، ورؤية مواطن الفتنة والإغراء فيها، والاختلاط الفوضوي بها يثير غرائز الرجال، ويفقدهم على أعصابهم، ويدفعهم للتهافت على اللذات والرغبات، فتطغى مشاعر الجنس عندهم على آلاف المشاعر المهمة للحياة، مما يدفعهم لتجاوز حدود الأخلاق والآداب، فينحدر المجتمع نحو الفساد، وتصاب الأمة بالضعف والانهيار.
- وهذا ما يعاني منه مجتمعنا فعلاً.
- لقد رفض الإسلام أن ينظر الرجل إلى المرأة كجسد فحسب، لأن في ذلك غضاّ من مكانتها الرفيعة السامية وإهانة لكرامتها الإنسانية، فالمرأة نصف المجتمع، وشقه المكمل للرجل، وبها تناط مهمات إنسانية نبيلة يعجز الرجل عن أدائها، ولا تقوم الحياة بدونها.. لقد أراد الإسلام أن يثير منظر المرأة أثناء حركتها في المجتمع المشاعر الطاهرة

النظيفة المفعمة بالاحترام والتقدير.. المشاعر النبيلة التي تليق بمكانتها العظيمة في الحياة، أمّا المشاعر الجنسية والجسدية فقد دعا الإسلام إلى إطلاقها ضمن إطار الحياة الزوجية حيث يتحول التبرج والإغراء إلى واجب مقدس تبذله المرأة لزوجها ويتحول الإرضاء الجنسي إلى واجب مقدس يبذله الرجل لزوجته، وعندما يقوم الزوجان بواجبهما في حبّ واحترام وإيثار يتحقق لهما السكن النفسي والاستقرار الروحي، وتمضي سفينة الأسرة في أمان دون أن تعصف بها رياح الرغبة أو الخلاف..
قالت سامية وهي تتفكر:
- كلامك هذا يذكرني بـ ((منى))..
- منى؟.. ما شأنها؟..
- لقد عادت تتقرب مني من جديد، وقد لمَّحت لي أمس بأني كنت على حقّ حينما حذرتها من صفوان، وعندما حاولت أن أعرف منها سبب هذه الصحوة المتأخرة دمعت عيناها وقالت لي بأنه سيأتي يوم تحدثني فيه بكل ما حدث.
قال عصام في شرود:
- يبدو أنَّ أحداثاً خطيرة قد وقعت!! أخشى أن...
ودخلت أم عصام الشرفة لتقدم الفواكه لابنها وخطيبته، وما إن رأتهما حتى خفق قلبها لهذا المنظر الرائع، والتمعت الفرحة في عينيها.. فها هو ابنها الغالي يسكن إلى زوجته الجميلة الفاتنة، وها هو الأمل الرائع العذب يتحقق، وشعرت بالسعادة العارمة تكتسح أغوارها وتطهرها من كل رواسب الماضي وذكرياته الأليمة، وأحست بسحب الحزن القاتمة السوداء وهي تنقشع رويداً...رويداً من نفسها الملبدة بالكآبة لتسطع من خلالها شمس التفاؤل والسرور فتذيب فتذيب بأشعهتا الدافئة صقيع الأيام الباردة التي شغلت سنوات شبابها المهدور، وتفجرت في أعماقها ينابيع الأحلام السعيدة،فرات نفسها في لوحة الخيال جدّة طيبة يحف بها أحفادها الأحبة الذين يملؤون لها حياتها بهجة وأنساً ومتعة،فذاك يشدّها من يدها لتقوده الى مكان الحلوى،وتلك تهرع إليها فتعطيها المشط لتسرح لها شعرها الأشقر الطويل، وذلك يدس يده في جيبها باحثاً عن القروش، وهذه تبكي في دلال وترمقها في توسل فتدعوها بنظراتها البريئة وأنينها المفتعل لأن تحملها وتعطيها حظها من الرعاية والعطف والاهتمام أسوة بأخوتها، وقد أوهمها تفكيرها الطفولي الغض بأن أخوتها الكبار قد استولوا على جدتها الحبيبة، واستحوذوا عليها، وهي المدللة الأثيرة لديها، فنشبت الغيرة في قلبها الصغير. وغلبتها ابتسامة فرحة مشرقة أضاءت ملامحها، فتهللت بالبشر وفاضت بالحبور وقالت وهي تبش في وجه كنتها العزيزة
- الله يكتب لكما السعادة العمر كله.. تفضلي يا ابنتي..
- لقد أتعبت نفسك يا أمّاه.. كان ينبغي أن أقوم بهذا بنفسي.
- ((تعبك راحة يا حبيبتي)).. تفضلي.. لقد انتخبت لك هذه الفواكه بنفسي فلا تتركي منها شيئاً.
- سلمت يداك.. ستكون ألذ فواكه آكلها لأنها من اختيارك أنت..
هتف عصام في دعابة:
- ((يا عيني)).. أراكما قد نسيتماني.. لقد بدأت أغار. ضحكت الأم وكنتها، بينما قال عصام في توسل :
- اجلسي معنا يا أماه.
قالت وهي ترميه بنظرة ذات معنى:
- ((اعذروني يا ابني، لا يصح أن أترك حماتك وحدها)). ثم مضت ونفسها مترعة بالمشاعر اللذيذة، وقالت سامية:
- لكم أنا محظوظة، زوج حبيب وحماة رؤوم.
قال يمازحها:
- هذا كلام تقولينه الآن، فقط.
- الآن وغداً، وسوف ترى..
- لا تقنعيني يا عزيزتي.. لن تنقضي الأيام الأولى للزواج حتى تنضمي إلى حلبة الصراع الأبدي بين الكنة والحماة!.
- ومن قال لك أنه صراع أبدي معلوماتك خاطئة يا أستاذ.
- ((دكتور)). إذا سمحتِ ...
- الخلافات بين الكنة والحماة يا ((دكتور)).. لا تحدث إلا بين النفوس الأنانية المتسرعة الضيقة المهيأة للخلاف والشجار والخصام، أما حماتي فهي شيء آخر!.
- أريد أن أعرف سر هذه المحبة التي بينكما.
- الحب شعور روحي طليق لا يخضع لتفسيرات العقل وقوانينه.
- لعلك تحبينها من أجلي!.
- قد أجاملها من أجلك، أما المحبة فهي شيء صادق يولد في الأعماق، إما أن يكون أو لا يكون وأنا أحبها يا عصام لأني أحبها.. أمك امرأة عظيمة حقاً.. لقد بدأت أدرك مصدر شمائلك الرفيعة.
ابتسم وقال بنبرات حالمة رقيقة:
- المرأة كائن عظيم ينطوي على أسرار روحية عجيبة..كائن لطيف يملك كنوزاً من الحب والرحمة والحنان يفتقر إليها تلك المحاولات المستمرة لإثبات أنًّ المرأة تستطيع أن تكون مهندسة أو عاملة أو محامية أو.. من قال أنها لا تستطيع؟... إن المرأة لديها القدرة والاستطاعة لأن تحل مكان الرجل في الكثير من أعماله، بل وأن تتفوق عليه فيها، لكن جوهر القضية ليس هنا.. الأسرة الناجحة السعيدة يا عزيزتي تقوم على التخصص وتقاسم الأعباء.. ثمة حقيقة أخرى.. إن المراة تستطيع أن تحل مكان الرجل من المستحيل أن يحل مكان المرأة..
قالت سامية في دعابة:
- أنت تعترف إذن بتفوق الجنس اللطيف على الجنس الخشن!.
ابتسم عصام وقال:
- القضية ليست تنافساً وصراعاً.. إن العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تكامل .. فما ينقص الرجل تكمله المرأة وما ينقص المرأة يكمله الرجل وباجتماعهما تتشكل الوحدة الإنسانية المستقرة الفاعلة في الحياة.. المرأة والرجل في الإسلام متساويان من حيث الإنسانية متكاملان من حيث الخصائص والوظائف.. من الإجحاف والغباء أن نضع المرأة مكان الرجل والرجل مكان المرأة.
- ما خصائص المرأة برأيك؟...
- المرأة روح شفاف رقيق مزودة بجهاز عاطفي فريد، هيأه الله ليقوم بأخطر مهمة في الوجود.
- تريد التربية طبعاً.
- أجل.. فتربية الطفل وإعداده لرحلة الحياة من أهم وأخطر المهمات التي تواجه الإنسان على هذه الأرض.. لأنها عملية إنضاج لأجيال، يتم بواسطتها غرس الصفات النفسية الفكرية والروحية التي تبلور شخصية الفرد وتؤهله ليحتل موقعه الفاعل في المجتمع والأم هي القادرة على القيام بهذه المهمة بما أوتيت من عطف وحنان وصبر على مشاكل الطفل وتفهم لها، مما يجعل الطفل أكثر تقبلاً واستجابة لعملية التربية.. طبعاً أنا لا ألغي دور الأب في التربية، لكن الدور الحاسم يبقى للأم بلا جدال.
وافقته سامية بإيماءة وقالت وهي تقدم له قطعة من تفاحتها:
- إنني أعزو الكثير من أمراضنا ومشاكلنا الاجتماعية لفشل التربية في البيت.. هذه ملاحظة واضحة جداً في حياتنا..
- فعلاً قد يخطئ الرجل فلا يتعدى خطؤه إتلاف آلة أو خسارة صفقة، أما إذا أخلت المرأة بوظيفتها فإنها بذالك تحطم جيلاً وتدمر أمة. أن أكبر مأساة تعيشها البشرية اليوم هي غياب المرأة عن مسرح التربية، وتخليها عن وضيفتها الحساسة للخادمة أو دور الحضانة ووسائل الإعلام، مما أدى إلى فساد الأجيال الجديدة واضطراب شخصيتها، لأنها لم تتلق القدر الكافي من العطف والرعاية والاهتمام، ولم تتناول الجرعات الكافية من الحنان الذي لا بد منه لكل شخصية سوية، وقد بدأ المصلحون والمفكرون في الشرق والغرب يدركون خطورة هذه الظاهرة الاجتماعية المدمرة وأخذوا يهيبون بالمرأة أن تعود إلى عشّها لتمارس وظيفتها الإنسانية الطبيعية.
- ليت المرأة في مجتمعنا تدرك هذا..
- إن المرأة في مجتمعنا ما زالت مبهورة بتجربة المرأة الغربية وعليها أن تتحرر من البريق الخادع قبل أن نجني الحصاد المرّ الذي جنته حضارة الغرب...
قالت سامية:
- لكن الرجل في مجتمعنا ينظر إلى المرأة على أنها مخلوق قاصر أقل منه قيمة وشأناً. مما يضطرها لإثبات شخصيتها وكفاءتها من خلال منافسته والقيام بأعماله ووجباته!...
أجابها عصام:
- أنا لا أنكر أن الرجل يرتكب الكثير من الممارسات الخاطئة بحق المرأة، لكنّ ذلك لا يبرِّر لها أن تعالج الخطأ بالخطأ، فتدفعها رد الفعل على تصرفات الرجل لأن تتخلى عن وظيفتها وتخرج إلى الشارع والمعمل لتثبت له أنها قادرة على احتلال موقعه بجدارة.. على المرأة أن تكون أكثر ثقة بنفسها وأشدّ اعتزازاً بدورها في الوجود، فإذا كان الرجل يوفر متطلبات الأسرة ويحمي كيانها ويرسم لها مسيرتها، فأن المرأة تحمي روح الأسرة وجوهرها وتهندس عناصرها الإنسانية الصالحة المهيأة لحمل رسالة الحياة كما تنبغي الحياة.
- على هذا فعمل المرأة خارج البيت مرفوض؟
- الإسلام لم يرفض عمل المرأة يا عزيزتي، لكنه رفض أن تمارس المرأة أي نشاط مهني أو اجتماعي أو علمي أو ثقافي إذا كان سيتم على حساب تربية أبنائها التربية السليمة الكافية، فإذا ما قامت بواجبها نحو أطفالها كاملاً واطمأنت على سلامة أوضاعهم واستقرارها فلها أن تقوم بأي نشاط تهواه ما دام نشاط مفيداً بانياً شريفاً يراعي القيم الصحيحة ويحترمها.
سألته في شرود:
- هل هناك زيّ محدد يجب على الفتاة أن تتقيد به في حجابها
- الحجاب ليس زيّاً من الأزياء أو نمط من أنماط اللباس، بل هو مبدأ وقناعة. اختاري في لباسك اللون الذي تريدينه أو الزيّ الذي ترتاحين إليه على أن يكون منافياً للحشمة أو مظهراًً للفتنة.. الحجاب الأكمل والأفضل هو الذي يجمع بين الحشمة والأناقة والجمال.
 

ترحال

¬°•| عضو مميز جدا |•°¬
إنضم
19 مارس 2010
المشاركات
953
الإقامة
بين متاهات الزمن
- وهل تتوقع أن أبدو في حجابي أجمل من الآن؟
- ستكونين أجمل بلا شك ، لأن جمال جوهرك سيسطع ويتألق من خلال سلوكك الجديد. بيد أني أريدك أن تتحجبي لله وحده، لا من أجل الجمال...
سامحك الله، إنما أمزح.. إني مقتنعة بكل ما قلت، وقد فكرت فيه كثيراً قبل الآن، لكني لم أجد من يشجعني على ذلك.
صمت عصام ملياً ثم قال وهو يمسك بيدها في ود:
- سامية أنا لن أكرهك على شيء... أريدك أن تتخذي قراراتك بنفسك عن رضا وقناعة، لكن مالا أرضاه لزوجتي وحبيبتي هو أن تضطر لمخالفة قناعتها ومبادئها من أجل الناس فالحق أحق أن يتبع.
قالت وهي تشد على يده في حنان:
- عصام ...كلماتك دائماً تملؤني ثقة وارتياحاً، وقد اتخذت قراري منذ الآن ولن أتراجع عنه مهما كان تقبل المجتمع له، ولن يريحني أن أرضي الناس وأغضب الله، ولن أسمح لنفسي أن أتركك تتلوى تحت سياط الغيرة ولهيبها. إذا لم أرع مشاعرك وأحاسيسك فلن أكون جديرة بحبك.. إني أعاهدك أن ألتزم بالحجاب، وستكون أول من يراه..
أثلج قرار سامية صدر عصام فرنا إليها في حب وإكبار وهو غارق في طمأنينة غامرة وأحس بروحة تحلق فرحة سعيدة في سماء من الود والتفاهم والانسجام، وبدت له سامية فيها ملاك طاهر جميل يحمله على أجنحة الأمل إلى دنيا الأحلام.​
* * *
 

ترحال

¬°•| عضو مميز جدا |•°¬
إنضم
19 مارس 2010
المشاركات
953
الإقامة
بين متاهات الزمن
الفصل السادس عشر

اليوم.. تثمر سنوات الدراسة والسهر والتعب والكفاح، ويحين موعد الحصاد الكبير، وترسو سفينة الأماني على شاطئ جديد وهي تمضي في رحلتها الطويلة إلى جزر الآمال الخضراء...
واستيقظ طلبة الصف السادس من كلية الطب مبكرين على طرقات الشوق والترقب، وبدؤوا يستعدون لهذه المناسبة الفاصلة في خفة ومرح ونشاط، باليوم.. يتحول الحلم إلى حقيقة،وتدب الحياة في أمل كبير من الآمال العظيمة التي طالما داعبت خيالهم الشاب، ويرتقون درجة في سلم النجاح، ويقطعون خطوة جديدة إلى قمة المجد الذي يتطلعون إليه.
ووقفت سامية أمام المرآة تتأمل حجابها الأنيق، وتحكم ترتيبه وهندامه، بانتظار قدوم عصام الذي سيصحبها إلى الكلية لمعرفة نتائج التخرج، وقد أرسلت ابتسامة عريضة شفّت عن بهجتها وسعادتها العميقة، فهي تقف الآن مع حبيبها على بوابة الأفراح، فاليوم التخرج وغداً الزفاف وبعده السفر والاختصاص ثم تمضي قافلة العمر الجميل من فوز إلى فوز ومن نجاح إلى نجاح على حداء الحب الخالص العميق ويزدهر المستقبل ثرياً بالمنجزات.
وشعرت سامية بعقارب الانتظار وهي تلسعها، فلماذا تأخر عصام؟، لم تعد تطيق بعده عنها..لقد أمسى روحها وقلبها وحياتها فمتى تسكن الروح إلى الروح؟ ومتى ينصهر القلب في القلب وتبعث الحياة في عش الزوجية الدافئ السعيد فيرتاحا من أنين البعد وأوجاع الحنين وتنهدات الحرمان، وراحت ترقب الساعة في ضيق وملل...لقد أخبرها أنه سيمر لاصطحابها في الثامنة وها هو عقرب الساعة يتخطى الثامنة في رتابة مزعجة لم ترحم آلام الشوق والانتظار التي تمس أعصابها المرهفة. وهرعت إلى الباب تسترق السمع لوقع أقدامه على درجات السلم، وما هي إلا هنيهة حتى ملأ الهدوء والسلام أغوارها، وفاضت من نظراتها وملامحها، وتحفزت للقائه،وما إن قرع الجرس حتى فتحت الباب في لهفة، فأطل منه فتاها بسمته الهادئ، وابتسامته الوداعة العذبة، فخفق قلبها لمرآه، وشعرت بنظراته التي تلمع بالحب والإٍعجاب وهي تحاصرها، فلم تصمد لذالك البريق الساطع الذي أخترق قلبها وعطر دماءها بمعانيه الرائعة اللذيذة، فخفضت طرفها في حياء وقالت بصوت هامس رقيق:
- تفضل...
همس وهو ثابت مبهور:
- لكم تبدين اليوم رائعة جميلة!...
- هل ستبقى واقفاً هكذا على الباب؟
- دعيني أتملى هذه اللوحة الفاتنة الماثلة أمامي!
وشدته من يده في دعابة، فقال في مرح وهو يتقدم إلى الداخل خطوات:
- أين حماتي؟..
- إنها في المطبخ تستعد لمناسبة تخرجنا بصناعة الحلوى والمأكولات اللذيذة؟..
وعمي؟..هل خرج؟..
- منذ الصباح الباكر.
- الحجاب يزيدك بهاءً وجمالاً.. لكأنكِ فيه ملاك تحفّه هالة من النور!
- أنت تبالغ...
- أبداً هذه صورتك في أعماقي.
- لعل هالة النور قد سطعت من أعماقك تلك، فتوهمتها حولي!..
همس في أذنها قائلاً:
- بتُّ الآن متلهفاً أكثر للزفاف.
ابتسمت وقالت في دلال :
- إنْ هما إلا أسبوعان...
- سيمران عليّ كسنة.
- فليمرا كسنة.. ستنقضي بسرعة كما انقضت سنوات الكلية الست.
- حقاً لقد مرت كالحلم.. من يصدق؟.. بالأمس دخلناها واليوم نتخرج منها..ما أعجب عجلة الزمان!، إنِّها تمضي بسرعة هائلة، فتطوي بدورانها الأيام والشهور والسنين، فيتلاشى الزمان،ويمحى ويتحول مهما طال إلى مجرد ذكرى، قلما تنجو من قبضة النسيان!!....
- هي الحياة هكذا.. افتح عيناً وأغمض الأخرى، ترَ نفسك عجوزاً هرماً يتربع فوق التسعين.
تساءل عصام مازحاً:
- وأنت؟ هل تظنين بأنك ستبقين صبية؟
- أنا؟.. وما أدراك؟.. لعلي أكون يومها في عداد الراحلين!.
هتف كالملدوغ:
- سامية.. ما هذا الكلام؟.. بالله لا تعيدي هذا على مسامعي
- لكن الموت حق ..أنت تردد هذا كثيراً!!.
- صحيح، ولكن... بالله عليك لا تذكري هذه السيرة الآن.
ثم أردف في وله دامع:
- لا أجرؤ أن أتخيَّل فراقنا على أية صورة!.. إني لأتمنّى أن نحيا معاً ونموت معاً حتى لا يلدغنا الفراق المرّ ويكوينا.
نظرت إليه في حب ووجد، وقالت وهي تمسح دموعه بأناملها الحانية الجميلة:
- كلما تخيَّلت مقدار حبك وإخلاصك فاجأتني بالمزيد..لكأنَّ نفسك الكبيرة بحر ممتد من الحنان بلا نهاية، وأنا تائهة في خضم أمواجه، عاجزة عن بلوغ آفاقه الرحيبة.
- ولن تبلغيها، ذلك أن هذا البحر الذي تتيهين فيه إنما ينبع من قلبك العامر الفياض الذي يرفده دائماً بالمزيد، وسيَّتسع البحر ويَّتسع حتى يغمرنا كله بالسعادة والتفاهم والوئام.
و رانت لحضات صامتة جميلة قد أفعمت بالانفعالات الصادقة اللذيذة، لكنها سرعان ما تلاشت على أعتاب الفرحة الوشيكة، وقال عصام في مرح:
- لقد اقترب موعد النتائج، فهل أنت مستعدة
- سيكون زوجي الأول...
- وما أدراكِ أن تكون زوجتي هي الأولى؟
- أنا؟.. أنا أتفوق عليك يا عصام؟..
- ولماذا لا؟.. تعالي بنا الآن نودّعَ أمك قبل أن نمضي
 

ترحال

¬°•| عضو مميز جدا |•°¬
إنضم
19 مارس 2010
المشاركات
953
الإقامة
بين متاهات الزمن
- ترى.. من سيكون الأول على الكلية هذا اليوم؟
أجاب سعد
- وهل هذا يحتاج إلى سؤال.. إنه عصام ولا أحد غيره.
قال عرفان وقد دبت فيه روح الدعابة:
- بل الأصح أن تقول عصام وقرينته.
أثارت كلمات عرفان عاصفة من الضحك استرعت انتباه الطلبة الذين تحلقوا في مجموعات ينتظرون إعلان النتائج المرتقبة في لهفة وشوق، وقال مجدي:
- سمعت أن زفافهما قد أصبح وشيكاً.
أجاب سعد:
- هذا صحيح، لكني لا أعرف موعده بالضبط.
تدخل عرفان قائلاً:
- اسألني أنا، فأنا يا صديقي مغرم بالأخبار السعيدة.. زفاف صاحبنا قد تقرَّر في الأول من الشهر القادم، أي بعد أسبوعين من الآن تقريباً.. ((عقبال عندي)).
علق بهاء من بين الضحكات/
- لقد سبقك عصام يا عرفان.
فأجابه قائلا:
- تصور يا بهاء.. لقد خطب وكتب كتابه وسيتزوج في أقل من ثلاثة أشهر.
حدجه سعد بنظرة متسائلة، وقال يداعبه:
- أتحسده على ما أنعم الله عليه؟
أجاب عرفان:
- بل أغبطه يا سعد.. أغبطه على هذا العم الواقعي المتساهل.
قال له عثمان:
- يبدو أنك وعمك على غير اتفاق.
أجاب عرفان في غيظ:
- إنه يكبلني بشروطه الكثيرة، ولكل شرط عنده فلسفة يستوحيها من تجاربه الخاصة، وكلما طالبته بالتعجيل بالزفاف شمخ بأنفه وقال بلهجة واعظة تثيرني:
(( لماذا الاستعجال يا بني؟ في التأني السلامة.. انتظر حتى تتخرج وتؤمن مستقبلك وتهيئ الضروف المناسبة التي توفر لك عيشة هانئة ولائقة.. لا داعي للاستعجال يا بني، فهذه زوجتك بانتظارك، فأرِنا همتك يا دكتور)).
ثم تابع عرفان وهو محتد حانق:
- تصوروا يا جماعة.. كأني تزوجتها لأخزنها في بيته.
ابتسم الأصدقاء مشفقين بينما قال سعد:
- لا عليك يا عريس، إنه يشجعك ويشد من عزيمتك وما إن يرى نتائج تخرجك حتى يسهل لك كل الأمور.
هتف عرفان وهو يرفع يديه إلى السماء في ضراعة:
- الله يسمع منك يا ((أبو السعود))..
وران على الأصدقاء صمت قصير ما لبث أن قطعه مجدي:
- لقد تأخرت النتائج!
- يقولون بعد دقائق..
- تباً لها من دقائق ثقيلة!
ومضت برهة من الزمن ما لبثت القلوب بعدها أن خفقت، وأطل الترقب من العيون وهي ترى الدكتور ماهر رئيس اللجنة الامتحانية يخرج من غرفته وفي يده رزمة من الأوراق، فهرع إليه الطلبة في لهفة وحماس، وتجمهروا حوله يسألون:
- طمئنونا يا دكتور؟...
- دكتور لم نعد نطيق الانتظار!
- ما هي نسبة النجاح لهذا العام؟...
كان الدكتور ((ماهر)) يشق طريقه بين جموع الطلبة الصاخبة بصعوبة بالغة، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة مشفقة، ولم يصمد للأسئلة الملحة التي انهالت عليه، فأجاب ليطمئن القلوب المضطربة التي قلقل كيانها الانتظار:
- سنوزع النتائج بعد قليل.. لم يبقَ سوى توقيع العميد.. كلكم ناجحون – إن شاء الله – فلا داعي للقلق والاستعجال.. انتظرتم هذا اليوم كل هذه السنين، أفلا تصبرون دقائق؟!
ولم يكد ينتهِ من كلامه حتى عادت الحناجر تضح بالأسئلة والاستفسارات، فما كان منه إلاّ أن حثّ الخطا حتى وصل إلى غرفة العميد، فدخلها بسرعة وغلق الباب وراءه، فخمدت الأسئلة وهدأت الضجة وعاد الطلبة إلى انتظارهم المحفوف بالملل والترقُّب، والتأم شمل الأصدقاء من جديد في حلقة واحدة، وقال سعد:
- سمعت أن نسبة الرسوب لهذا العام لا تتجاوز الثلاثة بالمائة.
علَّق بهاء:
- يبدو أن دفعتنا من الدفعات الممتازة التي تخرجت من الكلية.
قال عرفان وهو يشير إلى نفسه في فخر:
- طبعاً ... لأنها تحوي كوكبة من العباقرة الأفذاذ.
قال له مجدي مداعبا:
- لا تستعجل يا عزيزي.. (( في الامتحان يكرم المرء أو يهان)).. بعد قليل سوف نعرف النتائج ونتبين موقعك من هذه الكوكبة المزعومة..
قال عرفان في استسلام:
- أريد النجاح فحسب، ولا يهمني بعده كنت الأول أو الأخير.. المهم عندي أن أتخرج وأستقر حتى أثبت لعمي المتسلّط القاسي أني جدير بحمل المسؤولية.
ضحك الجميع في مرح وسرور بينما قال عثمان وهو يرمي بنظراته إلى مداخل الكلية:
- ها هو عصام.. إنه قادم بصحبة سامية..
همس عرفان:
- انظروا إليه كيف يتقدّم بثقة وهدوء، وكأن النتيجة في جيبه!
قال بهاء ونظراته تنطق بالرضى والاستحسان:
- لكم أنا معجب بخطوة سامية الجريئة.. إن حجابها الذي ترتديه يخلع عليها هيبة ووقاراً يجبرك على احترامها.
وأردف سعد:
- إنا سامية فتاة ممتازة، تملك شخصية قوية وعقلاً راجحاً سرعان ما استجاب لنداء الله، فالتزمت بمنهجه.
قال مجدي:
- لا تنس يا صاحبي تأثير عصام.. لقد لعب دوراً كبيرا في إقناعها.
قاطعه بهاء قائلاً:
- لقد انضمت سامية إلى صديقاتها، وها هو عصام يبحث عنا...
هتف عرفان ينادي عصاماً وهو يشرئب بعنقه بين جمهور الطلبة.
- نحن هنا يا عصام.. هلمَّ إلينا..
والتفت الأنظار في فضول ترقب الفتى الذي شغل كلية الطب بأخبار تفوقه ونبوغه، وسرت الهمهمات الخافتة تتحدث عنه وتروي أخباره، أما عصام، فقد تقدم من ثلة الأصدقاء في هدوء وقال وهو يأخذ مكانه في الحلقة التي انفرجت قليلا لتضمه:
- السلام عليكم.. ما هي الأخبار؟...
تلقفته كلمات الترحيب النابضة بالحب والتقدير، واستلمه عرفان مداعباً:
- مبروك سلفا يا دكتور...
- ولماذا سلفاً؟
- لأن النتيجة معروفة، فالمقدمات السليمة تعطي نتائج سليمة.. إني أراهن على أنك الأول..
- أخشى أن تخسر الرهان.
- تدخل سعد إلى جانب عرفان قائلاً:
- بل أراهن أنه سيربح، وسأدفع الرهان سلفاً.. أنتم جميعا مدعوون عندي مساء الخميس القادم على حفلة عشاء جميلة، سوف أقيمها لكم في الحديقة.. في أحضان الطبيعة الخلاّبة.
هتف عرفان في مرح وحماس:
- يا لك من شاب طيب يا سعد.. مواقفك النبيلة تعجبني.
ضحك الأصدقاء لدعابة عرفان، ثم انخرطوا من جديد في دوامة الترقب والانتظار...
 

ترحال

¬°•| عضو مميز جدا |•°¬
إنضم
19 مارس 2010
المشاركات
953
الإقامة
بين متاهات الزمن
في هذا العالم نفوس مكلومة، لا تستطيع أعظم الأفراح وأسعدها أن تلأم جراحاتها أو تسكن آلامها، بل على العكس من ذلك، فإن مناسبات البهجة والفرح في الملح الذي يلهب جراحها ويوقظ آلامها فتزداد إحساساً بالتعاسة والشقاء، وهكذا كانت ((منى))...
لقد تطورت علاقتها مع صفوان من سيء إلى أسوأ، بعد أن شعرت بالخديعة الماكرة التي حبكها لها، وأيقنت أنها ما كانت إلاّ دمية.. دمية ساذجة جميلة، استمتع بها ثم رماها، وها هو يستبدلها بدمية جديدة اسمها ((رشا)).
وتنظر ((منى)) إلى ((رشا)) نظرة امتزجت فيها الغيرة بالرثاء، فهي ترثي لها لأنها شريكة مأساتها التي ستنتهي حتماُ إلى نهايتها الأسيفة، لكنها في الوقت نفسه تغار منها وتحقد عليها.. ليس لأنها احتلت مكانها في قلب ((صفوان))، ((فصفوان)) في نظرها إنسان بلا قلب أو عاطفة أو إحساس ، ولن يعرف الحب إلى قلبه سبيلاً، بل لأن رشا هي الأداة التي يستخدمها صفوان لإغاضتها وتحطيمها وإهانتها انتقاما منها، لأنها تمرَّدت على سيطرته وأنانيته ورغباته، وانتقدت مسلكه الشائن الوضيع.
أما صفوان، فقد أوحت له ثعابين الحقد والغرور التي تعربد في دمه أن يلقِّن ((منى)) درساُ قاسياً لا تنساه جزاء تمردها عليه، وتحديها السافر له الذي وشت به كل تصرفاتها

الأخيرة نحوه، مما جعله أضحوكة بين أفراد الشلة الفاسدة التي جمعها حوله، وصرف عليها بسخاء، ليرضي بها أنانيته وغروره وحبه للظهور. ولم يجد صفوان وسيلة للانتقام أنجح من تجاهلها وإغاضتها بتقرُّبه المقصود من رشا. واليوم، هو آخر يوم لهم في الكلية، وقد قرر أن يفسد على منى فرحة التخرج؟.. وأن يحول هذه المناسبة إلى حفلة وداع منكرة تتذكرها أبد الدهر، وتتذكر معها من هو ((صفوان الناعم)) الذي تجرأت فتحدته برفضها الاستمرار في تحقيق مطالبه السافلة، وطموحها لأن تكون له زوجة لا عشيقة.
- ((زوجة؟!!..)).
لا يستطيع صفوان أن يتصور نفسه زوجاً لمنى!.. كيف يتزوج من فتاة لا يصل دخل أبيها إلى دخل خادمة من خادمات أسرته الثرية؟!..
- (( لقد شمخت بأنفها عالياُ جدا وغلي أن أمرغها لها في التراب...))
وبدأ صفوان يتسقط كلماتها وتصرفاتها باحثا عن هفوة أو كلمة يتخذها مبرراً لإهانتها أمام من استخفت به بينهم، ثم أخذ يستفز مشاعرها فأمعن في تدليل رشا ومغازلتها، وتجاهل منى بشكل جارح، فكلما تكلَّم وجَّه كلامه للآخرين، وخصَّ به رشا، فإذا تكلمت منى أشاح بوجهه عنها أو رماها بنظرة هازئة تفيض بالاحتقار.
وعندما قدمت سامية برفقة عصام رمقتها ((منى)) باحترام وهي تشعر بالحسرة والندم لأنها لم تصغي فيما مضى لنصائحها الأمينة المخلصة، أما صفوان، فقد هتف عندما رآها ساخراً مستهزئاَ:
- انظروا لهذا الشبح القادم.. لقد استطاع عصام أن يلوث أفكار سامية، وأن يفرض عليها عقليته المتزمتة..
أردف أحد أفراد الشلة قائلا:
- هذه أفكار سعد.. سعد هو المسؤول عن هذا الوباء.
قالت رشا:
- كلهم متعصبون.. لقد سمعت سامية تدافع عن الحجاب بحماس منقطع النظير.
علق صفوان على كلمات رشا قائلا:
- يا للسخرية.. أمريكا وصلت إلى القمر، ونحن ما زلنا نتخلَّف إلى عصر الحريم، ترى؟.. كيف يهضم هؤلاء المتزمتين هذه التصرفات؟.. أنا لا أفهمهم!!
قالت له منى وقد نفذ صبرها على هذا التجاهل المقصود الذي يبديه نحوها:
- تحتاج إلى الكثير لتفهمهم.
سألها في شك:
- ماذا تعنين؟!
- أنت تدرك ما أعني!
ضايقت كلمات منى صفوان، لكنه تظاهر بالهدوء، ورفع كتفيه مظهرا عدم الاكتراث، وقال يستفزها وهو يرمق سامية بنظرة خبيثة:
- لكنها جميلة.. جميلة جداً.. لكم تبدو في حجابها هذا فاتنة مثيرة!
لكزته رشا في كتفه متظاهرة بالغيرة، بينما قالت له منى في نبرات هازئة تنطق بالتحدي:
- أرى أن عدوى ((الرجعية)) والجمود قد انتقلت إليك، أتعجبك فتاة متزمتة قادمة من العصور الوسطى!!
علق أحدهم وهو ممن يحب الاصطياد في الماء العكر:
- هذه ليست ((رجعية)) يا ((منى)).. إن صفوان من أتباع المدرسة الكلاسيكية.. إنه مغرم (( بالأنتيكا))..
أطلق أفراد الشلة ضحكات مجلجلة مدوية وشت بالشماتة والسخرية بينما أردف آخر:
- والعطر الذي يستعمله ألا يوحي لك ((بالتقدمية)).. إنه يستحضره خصيصاً من ((باريس)).
تعالت الضحكات من جديد طافحة بالشماتة والتشفي، فشعر صفوان بكبريائه الفارغة تهان وأحسَّ بأنه أصبح مثار سخرية من الجميع، وثار غروره المتحفز دائما للظهور، فخاطب ((منى)) قائلا في لهجة غاضبة وقحة:
- إذا كانت سامية قادمة من العصور الوسطى، فأنت قادمة من عصور ما قبل التاريخ، حيث كانت المرأة مشاعا لكل رجل...
صفعت كلمات صفوان البذيئة الفاضحة منى وصدمتها، وشعرت بالنظرات الخبيثة تحاصرها وتعريها، وأحست بالضحكات الماجنة الخليعة تمزق كرامتها وتهين كبرياءها، وزادت من غضبها تلك الابتسامة الهازئة الحاقدة الشامتة التي ارتسمت على شفتيه، فحملقت في وجهه ثائرة مجنونة.. أرادت أن ترد عليه، لكن لسانها خانها، فطفرت دموع القهر من عينيها وانفلتت هاربة لا تلوي على شئ، لكأن هذه المناسبة الكبيرة لا تعنيها... لكأنها لم تدرس الطب.. لكأنها لم تقضي في هذه الكلية ست سنوات من الدأب والتعب، فقد عصفت الفضيحة بكل آمالها وأحلامها وأحالت حياتها إلى جحيم لا يطاق ومضت في ذهول يشيعها صفوان بنظرة متشفية تشي بالانتصار.
* * *
قال سعد وقد رأى منى مندفعة بين جموع الطلبة والدموع الغزيرة تبلل وجهها:
- انظروا إلى هذه.. ما دهاها؟... أتبكي في مثل هذا اليوم؟!
أجابه بهاء:
- لعلها علمت بنتيجتها فعلمت أنها راسبة!.
قال عصام وهو ينظر إليها في دهشة:
- لا أعتقد هذا.. من أين لها أن تعرف؟!.
أجابه عرفان في سخرية ذات معنى:
مثل هذه الفتاة تملك الكثير من النفوذ، لا بد أنها توصلت إلى النتيجة من أحد معارفها في الديوان.
هتف سعد في إنكار غاضب:
- عرفان.. لا تطلق لخيالك العنان.. لسمعة الناس حرمة لا يجوز انتهاكها.. تبين الأمر ثم أطلق الأحكام.
قال عرفان معتذراً:
- أستغفر الله، لقد سبقني لساني!.
قال مجدي وهو يرقب عقارب ساعته في ضجر:
- اتركونا من سيرتها الآن.. دعونا في الأهم.. لقد تأخرت النتائج كثيرا.
وأردف عثمان:
- لقد سئمت الانتظار...
قال سعد:
- يبدو أن أعصابنا قد تعبت فعلاً.. سأحضر بعض المرطبات...
وما كاد سعد أن يمضي حتى اخترق فضاء الكلية صوت المذيع وهو يدعو طلاب الصف السادس عبر مكبر الصوت إلى الاجتماع في مدرج ((ابن سينا)) حيث سيتم إعلان النتائج، فانطلقوا إليه كالنسيم، وانهمروا عليه كالمطر وراحوا يتدافعون على أبوابه، ويتسابقون إلى مقاعده، وسادت المدرج جلبة وضوضاء، وأفقدت اللحضات الفاصلة الطلبة هدوءهم واتزانهم، وانبعثت في أعماقهم طفولتهم القديمة، فراحوا يهتفون ويصفقون ويصفرون، وما إن دخل العميد بصحبة اللجنة الامتحانية حتى ضج المدرج بعاصفة من التصفيق الحار، وانبرت مجموعة من الطلاب الذين عرفوا بالشغب تردد بإيقاع طفولي مألوف ((صباح الخير يا أستاذ)) فابتسم العميد لهذه الهفوة المغفورة ابتسامته الرزينة المألوفة، بينما تقدم الدكتور ماهر رئيس اللجة الامتحانية من المنصة وهو يضحك وتناول ((المايكرفون)) وقال وهو يدنيه من فمه:
- أعزائي الطلبة.. بل زملائي الأطباء – كما يتوجب علينا أن نناديكم منذ الآن - ، إننا نعذركم على تصرفاتكم هذه، لأنكم الآن على عتبة منعطف جديد في حياتكم، فاليوم تطوون مرحلة الدراسة الجامعية الأولى لتنالوا أولى الشهادات العلمية العليا ألا وهي شهادة ((البكالوريوس)) في الطب والجراحة التي ستؤهلكم لممارسة مهنتكم الإنسانية المقدسة لخدمة الإنسان وحمايته من الأمراض والآلام...
زملائي وأخوتي وأخواتي.. بعد ست سنوات من الدراسة والتعب والعمل المضني الدؤوب: قضيناها معا كأسرة واحدة يطيب لي – بصفتي رئيسا للجنة الامتحانية لهذا العام – أن أعلن لكم نتائج الدورة الثالثة والأربعين لكلية الطب مرتبة حسب تسلسل الدرجات ابتداء من صاحب الترتيب الأول مع تمنياتي لكم جميعا بالنجاح والتوفيق.
وران على المدرج صمت عميق وخفقت القلوب حتى كادت أن تبلغ الحناجر، وتوترت الأعصاب من رهبة الانتظار، وسطع الترقب من العيون التي تعلقت نظراتها المتلهفة بشفتي الدكتور ((ماهر)) تستحثه بالكلام، فسرعان ما بدأ مستجيبا لنداءها المتوسل الصامت:
- المتخرج الأول : الدكتور (( عصام السعيد )) ، وقد حقق معدلا فريدا قدره (( خمس وتسعون درجة وسبعة أعشار بالمائة )) وهو أعلى معدل تم تسجيله في تاريخ الكلية حتى الآن، ويسر عمادة الكلية أن تمنحه ((درجة الشرف)) على هذا التفوق الكبير.
وضج المدير بالتصفيق الحار، واتجهت نظرات التقدير والإعجاب ترمق أبرز المتخرجين وأول المتفوقين وهو يمضي إلى المنصة لاستلام نتيجته بخطوات واثقة هادئة وقد انتشرت في أغواره السعيدة فرحة عظيمة لم يتسع لها صدره، فتكاثفت وتكاثفت حتى قطرت من عينيه دموع صامتة معبرة اهتز لها الجميع، وتأثروا بها، ووقف له العميد في إكبار واحترام، وقال له وهو يصافحه في ود وحرارة:
- مبروك يا بني.. إنه لمما يشرفني أن تكون أحد طلابي وأن تصبح أحد زملائي، ومما يزيدني شرفا أن أقدم لك كل دعم ممكن لتتابع مسيرة نجاحك ونبوغك حتى تحقق كل ما تصبو إليه من آمال.
وأراد عصام أن يشكر العميد لكن الموقف المؤثر أثقل لسانه فغرقت كلماته في خضم الانفعال، فشكره بإيماءة صامتة وعاد إلى مكانه في هدوء وتواضع، ووقع عيناه على سامية وقد ارتوت ملامحها الفخورة بدموع الفرح فحيته بابتسامة ودودة وادعة سرت معانيها إلى أعماق قلبه، فطرت لها وانتشى، وتلقفه عرفان، وكان يجلس على مقعد جانبي من المدرج فطبع على جبينه قبلة خاطفة، وعانقه في حب وحرارة غير عابئ بوجود العميد والأساتذة فضج المدرج بعاصفة مدوية من الضحك شملت العميد نفسه إذ صرحت ملامحه الجادة الوقورة ضحكة شديدة اهتز لها جسده، مما شجع الطلبة على التمادي في ضحكاتهم فانقلب المدرج إلى مهرجان صاخب أدخل السرور والمتعة إلى النفوس القلقة وخفف من اضطرابها، أما سعد فقد رنا إلى صديقه العظيم بنظرة باسمة معبرة أغنته عن أبلغ ما يمكن أن يقال في هذه المناسبة الكبيرة.
وتتالت الأسماء...
كان سعد هو الثاني على الكلية، وكانت سامية السابعة، وتبوأ بقية الأصدقاء أمكنتهم بين العشرين الأوائل وعندما علي اسم صفوان في ذيل القائمة المتخرجين أيقن الجميع أنه لم يكن ليتخرج لولا أنه اتبع كل وسائل الغش والخداع في الامتحان حتى انتزع هذا النجاح الذي لا يستحقه أما عندما تلي اسم منى فقد فوجئ الجميع بعدم وجودها في المدرج وهي التي كانت منذ قليل تنتظر معهم إعلان النتائج!!.
وتبادل الأصدقاء نظرة متسائلة مستفسرة.. فمنى لم ترسب كما توقع أحدهم، فما هو سر بكائها الغامض وغيابها المفاجئ الغريب؟!!...
* * *
 

ترحال

¬°•| عضو مميز جدا |•°¬
إنضم
19 مارس 2010
المشاركات
953
الإقامة
بين متاهات الزمن
ساتوقف اليوم وساكمل بقية الاجزاء فيوم ثاني ان شاءالله...
 
أعلى